“كانت دمشق الى جانب طهران، المكان الأكثر خطورة لعمل “الموساد”، وكان واضحاً أن قيام عملاء “الموساد” بعدة أسفار إلى بلد ما، ضروري لهم للتخطيط والتحضير لعملية ما، لكن من شأن ذلك أن يعرّضهم للانكشاف ولمخاطر كبيرة بمعزل عن الغطاء الذي كانوا يستخدمونه. ونظراً لحساسية القضية، قرر قائد “الموساد” مائير داغان أنه لا يمكن في ذلك الوقت استخدام مخبرين عرب. وهكذا مرة ثانية قرر داغان أن يتجاهل قاعدة حديدية استمرت لزمن طويل في “الموساد” – فقد توجه إلى بلد آخر طلباً للمساعدة في عملية اغتيال جديدة، فدعا نفسه إلى اجتماع آخر مع (مدير السي اي ايه) مايكل هايدن. ولكن (السي اي ايه) كانت ممنوعة من تنفيذ أو دعم عمليات اغتيال تحت الأمر التنفيذي الرقم 12333. وبينما كان البلدان يؤمنان بأن قتل الناس مباح لكنهما كانا يملكان اتجاهات قانونية مختلفة، فالولايات المتحدة بصورة عامة لا تشارك في قتل شخص ما في بلد لا تكون أمريكا في حالة حرب معه أو في صراع مسلح معه. ولكن مستشاري (السي اي ايه) خرجوا بحل لهذا الأمر يُبرّر قتل مغنية في سوريا وفقاً لمبدأ الدفاع عن النفس، لأن مغنية كان يرسل رجاله من سوريا إلى العراق لتحفيز الميليشيات الشيعية على القيام بهجمات “إرهابية” ضد فرق العمل الأمريكية هناك”، كما يروي بيرغمان.
“أعطى الرئيس جورج دبليو بوش ضمانة المساعدة لداغان ولكن بشرط أن يبقى الأمر سرياً وأن يكون مغنية وحده الذي يقتل في العملية وأن لا يكون الأمريكيون هم من ينفذون مباشرة عملية القتل. وقد أعطى رئيس الحكومة ايهود أولمرت شخصياً ضمانة للرئيس بوش لتنفيذ هذا الشرط”. ويضيف بيرغمان أنه حتى بعد سنوات طويلة، رفض هايدن أن يقول أي كلمة عن التورط الأمريكي في هذه العملية.
“كانت الولايات المتحدة تملك سفارة نشطة في دمشق وكان بامكان رجال الأعمال الأمريكيين أن يدخلوا إلى سوريا ويخرجوا منها بصورة حرة نسبياً، وهذا ما مكن (السي اي ايه) وبمساعدة من الـ”ان اس ايه” أن يرسلا أناسهما وأن يستخدما عملاء محليين في العملية. وكما يقول أحد قادة العملية “لقد كانت عملية عملاقة باشتراك قوات متعددة وبموارد مجنونة جرى استثمارها من قبل البلدين، وبحسب معلوماتي هذه أكبر الموارد التي استخدمت على الاطلاق لقتل شخص واحد”. وهكذا بمساعدة من الأمريكيين جرى مع الوقت تحديد مكان مغنية، واكتشفوا أنه كان غالباً ما يلتقي رفاقه في “جبهة التشدد” في مقرات مختلفة للاستخبارات في دمشق: أبنية تتضمن مكاتب محروسة بشكل كثيف من قبل ضباط الشرطة السورية والجنود وبيوت آمنة بحراسة أشخاص يرتدون ثياباً مدنية (…)”.
“كسار الجوز” والضوء الأخضر!
لم يكن مغنية يصطحب معه مرافقيه في “زياراته الخاصة”، يقول بيرغمان، مما عرضه للمراقبة وللنشاطات العملياتية لأعدائه في مكان لم يكن تحت سيطرته. وينقل الكاتب عن أحد ضباط العملية قوله “لقد كان خطأ كبيراً من الناحية الأمنية الميدانية، ففي النهاية، وبعد سنوات طويلة، يُصبح أكثر الرجال حرصاً أكثر ثقة بأن لا شيء يمكن أن يحدث له”. ويضيف الكاتب، ولكن عملية في أي من هذه الأماكن ستجعل من الصعب على “الإسرائيليين” الايفاء بوعدهم للأمريكيين بعدم ايذاء أحد غير مغنية، هذا مع عدم ذكر الأخطار الجسيمة التي كان يجب أخذها بالاعتبار بشأن المنفذين الفعليين.
كان “الموساد” يعرف أن مغنية ومرافقيه كانوا دائماً يتفحصون داخل وعمق السيارة للتأكد من خلوها من أي عبث بها، ولكن كان هناك مكان واحد لم يكونوا يتفقدونه أبداً، وهو غطاء العجلة الاحتياطية الملصقة بالجانب الخلفي للسيارة
خرج مخططو “الموساد” بعدد من الأفكار لكن جرى استبعادها كلها، فقد كان هناك احتمال حقيقي واحد وهو أن يُصار إلى قتل مغنية فيما هو ينتقل من أحد هذه المواقع إلى آخر، ولكن مع ذلك كان هناك عدد من المصاعب الجدية، فلم يكن واضحاً كيف يمكن أن يلحقوا به ويقوموا بتصفيته فيما هو راكب في السيارة أو يسير على الطريق طالما هو بصورة مستمرة مواكب من عدد من المرافقين ويسافر في طرق مختلفة وبأوقات مختلفة بحيث أن “الموساد” لم يكن باستطاعته التنبؤ بها مسبقاً. كما لم يكن واضحاً كيف سيتمكن العملاء المنفذون من الفرار قبل أن يتم انذار المطارات والموانىء واقفالها. واستمرت المداولات تسحب نفسها لأشهر، فقد كان داغان يرفض خطة تلو الخطة. عندها وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2007 دخل أحد خبراء التكنولوجيا في “الموساد” (لقبه “كسار الجوز”) إلى مكتب داغان باقتراح لتصفية مغنية عبر استخدام قنبلة يتم تفجيرها بالتحكم عن بعد. هذه العبوة سوف تقتل مغنية حصراً من دون أي أضرار جانبية وستعطي المنفذين الوقت الكافي للفرار من مسرح العملية، فقال داغان إنه على استعداد لاعطاء الضوء الأخضر لهذه العملية مع العلم أنه كان مقتنعاً أن فرص نجاحها ضئيلة جداً.
كان التقدير الأساسي لخطة “كسار الجوز” أنه يستحيل ملاحقة مغنية في دمشق وبدلاً من ذلك لا بد من إيجاد طريقة لوضع العبوة في مكان يكون بصورة مستمرة على تماس جسدي معه، وكان خيار الهاتف الخليوي مثل الذي قتل به “المهندس” يحيى عياش في العام 1995 دائماً أحد الخيارات المطروحة، ولكن جرى استبعاده لأن مغنية كان دائماً يُغيّر هواتفه، والشيء الوحيد الذي كان يستخدمه بصورة مستمرة هو سيارته التي كانت في ذلك الوقت من نوع جيب “ميتسوبيتشي باجيرو” فضية اللون وفاخرة. وكان “الموساد” يعرف أن مغنية ومرافقيه كانوا دائماً يتفحصون داخل وعمق السيارة للتأكد من خلوها من أي عبث بها، ولكن كان هناك مكان واحد لم يكونوا يتفقدونه أبداً، وهو غطاء العجلة الاحتياطية الملصقة بالجانب الخلفي للسيارة.
وبمساعدة أمريكية، جرى تهريب مكونات عبوة ناسفة معقدة إلى سوريا (لا يكشف بيرغمان ما إذا كان الأمريكيون هم من أعدّوا العبوة أو أنهم فقط اكتفوا بتهريبها إلى دمشق) مع غطاء عجلة مشابه تماماً للموجود على عجلة الاحتياط الملصقة بسيارة مغنية.
انظروا إنه سليماني!
يتابع بيرغمان “بعد أشهر من التحضيرات والمراقبة لأدق التفاصيل وتحديداً في يناير/كانون الثاني 2008 تمكن عملاء “الموساد” من الوصول إلى مقربة من سيارة الجيب فيما كان مغنية يقوم بزيارة ليلية لإحدى “عشيقاته” وقاموا بأخذ عجلة الاحتياط باستبدال غطاءه بالغطاء الجديد الذي كانت العبوة بداخله. كما قاموا بزرع عدد من كاميرات المراقبة مع جهاز ارسال بحيث يتمكن عملاء “الموساد” العاملين في دمشق من رؤية ما يجري خارج السيارة تماماً. ووعد خبراء المتفجرات في “الموساد” بأنه إذا جرى تفجير العبوة تماماً عندما يكون مغنية على وشك الدخول إلى السيارة فان الانفجار سيقتله، ولكن من أجل أن يكونوا متأكدين بشكل كامل اقترحوا أن يتم تفجير العبوة عندما تكون السيارة مركونة بموازاة سيارة أخرى بحيث أن الانفجار يكون محصوراً بينهما وتكون اضراره معتبرة وأكبر”.
طارد فريق الإغتيال عماد مغنية على مدى ستة أسابيع، يقول بيرغمان، وكان أعضاء الفريق يرسلون التقارير إلى غرفة حرب خاصة ومعزولة عن باقي مكاتب “الموساد”. عدد محدود ومختار بعناية كان يُسمح له بالدخول إليها. مراراً وتكراراً وعلى مدى 32 مرة بالتمام والكمال كانت الظروف تقريباً جيدة، ولكن في كل مرة كانت العملية تُلغى في اللحظة الأخيرة إما لأن مغنية كان بصحبة أحد ما أو لأنه كان هناك أناس آخرون على مقربة من السيارة أو لأنه دخل السيارة بسرعة، فالعبوة كانت فعالة فقط عندما يكون خارج السيارة.
وفي صبيحة يوم 12 فبراير/شباط (عام 2008)، راقب عملاء “الموساد” عماد مغنية وهو يقترب من السيارة مع رجل آخر فصرخ أحدهم “انظروا إنه (قاسم) سليماني” الرجل القوي في الحرس الثوري الإيراني وقد كان متكأ على السيارة على مقربة من مغنية. ومن خلال مراقبتهما كان واضحاً (لم يكن هناك ارسال صوتي في المراقبة) أن الرجلين كانا صديقين مقربين جداً لبعضهما البعض. سرت في غرفة الحرب ضجة كبيرة لوجود فرصة متاحة لقتل الرجلين ولكن كان عليهم ان يحصلوا على الموافقة على هذا الأمر. كان داغان في منزله في “روش بينا” في مراسم الحداد على والدته التي كانت قد توفيت قبل يومين ولكن “آي” ضابط “الموساد” الذي يقود العملية اتصل بداغان الذي بدوره اتصل برئيس الوزراء إيهود أولمرت. لكن أولمرت رفض مواصلة تنفيذ العملية. فالوعد الذي قطعه لرئيس الولايات المتحدة كان قاطعاً وواضحاً: قتل مغنية ومغنية وحده.
في اليوم نفسه، وعند الساعة الثامنة والنصف مساء، وصل مغنية إلى منزل آمن في حي كفر سوسة في دمشق على بعد بضعة مئات من الأمتار من أهم مراكز الاستخبارات السورية. التقى بعدد من مساعدي الجنرال محمد سليمان وبإثنين من كبار ضباط حزب الله. وعند الساعة 10:45 مساء غادر الإجتماع قبل انتهائه. خرج من البناء وحيداً هذه المرة ومشى نحو سيارته “الباجيرو” المركونة في المرآب وما أن أصبح بين سيارته وسيارة أخرى مركونة بمحاذاتها في المرآب وقبل أن يفتح الباب أعطي الأمر بالتنفيذ.
انفجرت العبوة. عماد مغنية، الشبح على مدى ثلاثين عاماً قتل أخيراً”.