“مطاوعو” الإعلام اللبناني!

"الناس الواقفين على باب أفران شمسين بجيبوا حاصليْن إنتخابيّيْن على أقلّ تقدير". كان هذا، أحد التعليقات على السوشيل ميديا عقب إعلان النتائج الرسميّة للانتخابات التشريعيّة، مطلع هذا الأسبوع. التعليق كان يريد الإشارة إلى عودة الزحمة الخانقة على أبواب أفران الخبز في لبنان.

بعد أقلّ من ثمانٍ وأربعين ساعة على انتخاب برلمانهم الجديد، عاد اللبنانيّون يتسوّلون الرغيف في الطوابير. نسمّيها في بلادنا “طوابير الذلّ”. فالذلّ، بات يساكن هذا الشعب مذْ قمعت ميليشيات السلطة ثورته. طبعاً، ليست هذه السطور لتكرار معزوفة بؤسنا. ولا للتدليل على الجهة (الجهات) التي نَحَرت ثورتنا. ولا للقراءة في خارطة البرلمان الجديد. فكلّهم انتصروا. وكلّهم حصلوا على الأغلبيّة النيابيّة. أي، على طريقة البرنامج الشهير L’école des fans. حيث يفوز فيه كلّ الأطفال الهواة في ختام كلّ حلقة من البرنامج.

لكنّ رؤساء أحزاب السلطة “الفائزين”، جميعاً، أقرّوا بأنّ مرحلة جديدة قد بدأت في لبنان. وأبرز معْلَمٍ في هذه المرحلة، يتمثّل في دخول شريحة “مختلفة” من النوّاب إلى المشهديّة. إلى حرم السلطة. بضع شخصيّاتٍ انتخبها الشعب، لأنّها من خارج سرب الأحزاب التقليديّة والقوى المعروفة. أي تلك التي تطبق على خناقنا، بعد أن نهبت ودمّرت البلاد والعباد. احتارت وسائل الإعلام اللبنانيّة كيف توصِّف الفائزين الجُدد. فصارت تنعتهم بـ”نوّاب الثورة”، تارةً. وبـ”نوّاب المجتمع المدني”، تارةً أخرى. أو بـ”النوّاب التغييريّين”. أو “نوّاب التغيير”. و”نوّاب 17 تشرين”.. وهكذا.

انسحب الارتباك، أيضاً، على نوعيّة الدفعات الأولى من “الأسئلة” التي بدأ يتسابق الصحافيّون على طرحها، على النوّاب المولودين من رحم الساحات. فالحاجة إلى “الفرز” وتوضيح طبيعة “الاصطفافات”، تُلحّ، عادةً، على إعلامييّ لبنان. ولا سيّما، عندما تبدأ ردحيّات النجوم من مُقدِّمي البرامج الحواريّة التلفزيونيّة. سؤالان رُسِمَت بهما خارطة الطريق إلى المجلس النيابي. ولكي يعرف “المُحاوِر” الغثّ من السمين سألهم: هل ستنتخبون نبيه بري لرئاسة المجلس؟ وهل أنتم “مع” أو “ضدّ” سلاح حزب الله؟

يواجه الإعلام التلفزيوني اللبناني أزمة وظيفةٍ ودور. لقد أغرقته الرتابة السياسيّة في قضايا محليّة، لا تشبه أبداً أصول الإعلام التلفزيوني. ولا آليّات عمله أو مآلاته ومقاصده

“إنّ بغايا السياسة أوسخ صنفٍ من البشر. لكنّ بغايا الصحافة أوسخ منهم”، يقول شاعر العراق مظفّر النوّاب الذي رحل عنّا بالأمس لسخرية القدر. إنّما، مفكّرون ومثقّفون كُثُر حملوا، بدورهم وبشدّة، على أداء القائمين على مهنة الصحافة والإعلام. تلك المهنة “التي نقول عنها الكثير من الأمور الجيّدة، والكثير من الأمور السيّئة”، على حدّ تعبير الكاتبة الفرنسيّة لورين مالكا. ومعظم تلك “الأمور السيّئة” التي تُقال عن المهنة، هي انتقاداتٌ لأداء جسمٍ صحفيٍّ له هويّة واضحة المعالم (بعض الشيء؟). هويّة مرتبطة، عموماً، برؤية مثاليّة وثابتة عن مهنةٍ لم تكفّ يوماً عن التحوّل والتجدّد.

في الحقيقة، أصبح الحديث عن الانزلاقات الأخلاقيّة للإعلاميّين والصحافيّين، وأساليب الضبط الذاتي في عملهم، يوازي الحديث عن أهميّة الإعلام، نفسه. وجسامة أدواره ومهامّه وأهدافه في المجتمع. إذْ أضحى انحراف العمل الإعلامي عن هذه الأدوار والمهامّ والأهداف، انحرافاً موصوفاً. بعدما أضاع معظم أهل الإعلام البوصلة في تحديد الوظائف الأساسيّة لعملهم. بخاصّة إعلاميّي التلفزيون.

وكما في كلّ العالم، يواجه الإعلام التلفزيوني اللبناني أزمة وظيفةٍ ودور. لقد أغرقته الرتابة السياسيّة في قضايا محليّة، لا تشبه أبداً أصول الإعلام التلفزيوني. ولا آليّات عمله أو مآلاته ومقاصده. صحيحٌ أنّ معايير الموضوعيّة والمهنيّة قابلة للأخذ والردّ في بلدٍ، كلبنان، محكوم بسجالاتٍ عقيمة متنوّعة. لكن، لا جدال في أنّ الفضاء الإعلامي التلفزيوني اللبناني قد شهد في العشريّتيْن الأخيرتيْن تحوّلات أساسيّة. طبعت، بشكلٍ لا رجعة فيه، شروط إنتاج المادّة الإعلاميّة وتداولها واستهلاكها. وبعد؟

لديّ قناعة راسخة في أنّ حال التطوّر والتقدّم الذي يظهر الإعلام اللبناني فيه، ما هو في الواقع إلاّ طبقة رقيقة جداً. تغلّف محيطاً عميقاً من الضحالة والتفاهة والتصنّع والفوضى. قليلٌ من الحريّة وغيابٌ للمهنيّة، يعني الكثير من الفوضى. ويعني الكثير من غياب الرؤية. وهذه، للإشارة، النتيجة شبه الحتميّة للسياق غير المكتمل للتحوّلات الإعلاميّة التي تشهدها مجتمعات دولٍ مثل لبنان. فهذه دولٌ منذورة للتغيّرات السياسيّة والخضّات الاجتماعيّة والاهتزازات الاقتصادية. ما يجعل الإعلام فيها، قصّةً غامضةً وعصيّةً على الفهم والتطوير. بخاصّة، عندما يغيب مفهوم الثقافة الصحفيّة الذي يعرِّفه المفكّر الفرنسي بيار بورديو بـ”مجموعة من الأفكار والممارسات التي يُضفي الصحافيّون، من خلالها، مشروعيّةً على دورهم في المجتمع، ومعنى على عملهم”.

يقضي الإعلام في لبنان على دوره ومكانته، بنفسه. تصوّروا! فهو استحال، أحياناً، أداةً من أدوات التأزّم في البلاد. واتّسعت الفجوة بين ما تعرضه التلفزيونات اللبنانيّة. وبين الواقع الذي يعيشه المواطن العادي

ومن أين للصحافيّين والإعلاميّين اللبنانيّين أن “يكتسبوا” هذه الثقافة، مع الحرب الباردة التي تخوضها المؤسّسات التي يعملون فيها يوميّاً؟ حرب تتأزّم وتنفجر وتهدأ، تبعاً لأجندات القيّمين عليها. وتمارس دوراً ترويجيّاً، للأحزاب والتيّارات السياسيّة والإيديولوجيّة المسيطرة عليها، أكثر منه دوراً إعلاميّاً. ويغلب على خطابها الإعلامي الطابع الدعائي والإعلاني. وميلٌ فاقع إلى المبالغة والإثارة والمعالجة الجزئيّة والسطحيّة للقضايا والأحداث. وبدل أن تكون تلك المحطّات أداةً متقدّمة في إدارة النقاشات العامّة (في برامجها الحواريّة تحديداً). وأن تلعب دور الضابط للأداء العامّ للسلطات. نراها تمعن في ممارسة عقليّة الوصاية والهيمنة والتحريض. لتفقد بذلك الدور المركزي للإعلام. وتحرمه من الحريّة والاستقلاليّة.

إقرأ على موقع 180  يوميات أمّ لبنانية.. مع "بطيخاتها"!

مفارقة غريبة. إذْ يقضي الإعلام في لبنان على دوره ومكانته، بنفسه. تصوّروا! فهو استحال، أحياناً، أداةً من أدوات التأزّم في البلاد. واتّسعت الفجوة بين ما تعرضه التلفزيونات اللبنانيّة. وبين الواقع الذي يعيشه المواطن العادي. فجوة، يعزّزها وضوح تحيّز هذه المحطّة أو تلك، لدولٍ أو جهاتٍ أو شخصيّاتٍ بعينها. ويجعل هذا التحيّز (المدفوع ثمنه غالباً) من كلّ رأيٍ مستقلّ، رأياً غير مُرحَّب به. بل رأياً منبوذاً، بصريح العبارة. وأعني بالرأي المستقلّ، ذاك الذي يرى الوطن والدولة والناس بعينٍ لا تكسرها المصالح. ولا “تغريها” لعبة القوى السياسيّة ومراكزها الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وأكثر ما تبرز هذه اللعبة، مع مقدّمي البرامج الحواريّة السياسيّة. كيف؟

في لبنان هناك تنامٍ مثير لمكانة مقدّمي البرامج في القنوات التلفزيونيّة. ومع تعاظُم سطوة الإعلام التلفزيوني، صار بعضهم نجوماً. و”موضة” الإعلامي النجم، أمرٌ شائع في كثيرٍ من دول العالم. لكنّ نجوميّة بعض المقدّمين اللبنانيّين، دفعتهم إلى لعب أدوارٍ تتجاوز الأعراف والقواعد المهنيّة المعروفة في المنظومة الإعلاميّة. فيظهر مقدّم البرامج، أحياناً، وكأنّه خطيبٌ أو داعية. يتحدّث إلى الجمهور، مباشرةً، ومن دون وجود ضيوف أو أسئلة. يحاول إقناعهم بفكرة. أو تبنّي موقفٍ سياسي. ويتناسى، أحياناً أخرى، دوره ووظيفته الأساسيّة. فنراه يتحوّل إلى مسؤولٍ سياسي. أو مُصلحٍ اجتماعي. أو خبيرٍ استراتيجي. يتحدّث في كلّ شيء. وعن أيّ شيء. يخلط المعلومة بالرأي وبالموقف وبالإعلان. يهاجم مَن يشاء. ويدافع عمّن يشاء. يطرح ما يحبّ من أسئلة. من دون ضوابط أو معايير. من دون رقيبٍ أو حسيب. وإذا اختلف ضيفٌ مع رأيه، يضيق ذرعاً به. يسخر منه. يهاجمه على الهواء. وغالباً ما يقوم بمعاقبته. فلا يدعوه، مرّةً ثانية، إلى برنامجه الذي يعتقد، بالتأكيد، أنّه الأهمّ والأكثر حضوراً وجماهيريّة!

صار “التوك شو” على الطريقة اللبنانيّة، أشبه ما يكون بالمتاريس الإعلاميّة التي تحمي المصالح السياسيّة والطائفيّة لمرجعيّات الإعلاميّين ومؤسّساتهم

لكن، من أين يستمدّ مقدّمو البرامج اللبنانيّة كلّ هذه السلطة؟

من سلطة الميديا، بعامّة. ومن سلطة التلفزيون، بخاصّة. فلقد جعلوهما حصناً منيعاً لـ”أَسْطَرتهم”. ولحمايتهم الذاتيّة. وضعوا أنفسهم فوق الشبهة وخارج المساءلة. لا أحد لديه الحقّ في انتقادهم. فمن خلال مُمَاثَلة قَدَر مهنتهم مع مهنة الحريّة في العالم، نصّبوا أنفسهم “مطاوعين”. يحدّدون للآخرين ما عليهم أن يقولوا. وما عليهم ألاّ يقولوا. ما عليهم أن يؤيّدوا. وما عليهم أن ينتقدوا. ولمَن لا يعرف، فإنّ الإعلام التلفزيوني غدّار. يشبه كثيراً حقل ألغام. إذْ ببساطة، يمكن للضيف أن يتفوّق في الحديث. وأن يُسهِب في الكلام لساعات. لكن، وبرمشة عين، قد تطيح كلمة واحدة بكلّ ما قاله. ويكسر ارتباكٌ بسيط هالته. ولا سيّما، عندما يكون أمام نجمٍ مُحنَّك!

كلمة أخيرة. صار “التوك شو” على الطريقة اللبنانيّة، أشبه ما يكون بالمتاريس الإعلاميّة التي تحمي المصالح السياسيّة والطائفيّة لمرجعيّات الإعلاميّين ومؤسّساتهم. وتساهم غالبيّة البرامج الحواريّة، وللأسف الشديد، في تردّي الخطاب العامّ في بلادنا المنكوبة. لكن، لا مفرّ من المشاركة في برامج كهذه (على تفاهتها أحياناً). كونها توفّر الفرصة والمجال لتعميم خطاب أصحاب الرأي والموقف. ومن المجحف، للأمانة، إنكار الدور الذي لعبته معظم المحطّات التلفزيونيّة اللبنانيّة خلال ثورة 17 تشرين. ويجب ألاّ نُغفِل، أيضاً، مساهمة بعضها في إعطاء “وقتٍ مجّاني” للحملات الانتخابيّة للمرشّحين المنبثقين من ساحات الثورة. ما ساعد في زيادة حظوظهم في النجاح. وخرْقهم للماكينات العملاقة لأحزاب السلطة. لكن، أن تصل الأمور إلى حدّ تجرّؤ بعض “الإعلاميّين النجوم” على تسخيف خطاب هؤلاء وإفراغه من معناه. والقيام باستجواباتٍ واستفتاءاتٍ مفاجئة لنوّابٍ منتَخبين من الشعب، ومباشرةً على الهواء، فهي “المطاوعة” بعينها. إقتضى التذكير.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  كذبة السيادة.. وأولاد الجرائم المتبادلة!