ما بعد الإنتخابات.. تغيّرت قواعد اللعبة

لطالما حاولت المنظومة الحاكمة في لبنان تغييب الناس ومطالبهم الحقيقية، لكن نتائج الإنتخابات النيابية التي جرت في الخامس عشر من أيار/مايو 2022 تشي بأن ثورة 17 تشرين تحفر في وجدان ووعي الغالبية العظمى من اللبنانيين.

لم يستطع حزب الله أن يقنع جمهوره أن الأولوية في الصراع الآن هي للمواجهة مع الامبراطورية العظمى. لم يستطع حزب الله أن يقنع جمهوره بجدية هذا الخطاب. بالمقابل، لم يستطع خصوم حزب الله إقناع جمهورهم بأن الأولوية يجب أن تكون ضد الامبراطورية العظيمى، أي إيران، وما سموه “احتلالها” للبنان. كأن المعركة الانتخابية في لبنان جرت بين أنصار “المقاومة” الأوفياء لها، وبين أنصار “السيادة”. كأن المعركة بين مقولتين: المقاومة والسيادة. يخوضها اللبنانيون بالوكالة (proxy) عن القوى الخارجية. كأن اللبنانيين غير معنيين بأزمات خانقة. الواحدة تلو الأخرى. مفتعلة في سبيل إفقارهم وإذلالهم، ثم معاقبتهم على ما اقترفوه من ذنب بـ”ارتكابهم” ثورة 17 تشرين، وتوليدهم هوية فوق الهويات. “سوبر هوية” تعلو على الهويات الطائفية.

دخل أهل الطبقة السياسية هذه المعركة الانتخابية وكأنها مصيرية. لكنهم لم يميّزوا بين الخطاب الكاذب والخطاب الواقعي. بين خطاب المقولات وخطاب الوجود. الأوّل يعبّر عن ايديولوجيا وهمية للتعمية، والثاني يعبّر عن مشاعر وحاجات؛ حاجات ليست للترف، بل حاجات ضرورية للبقاء؛ توفرها يعني الفرق بين الحياة الكريمة والذل، وبين البقاء والمجاعة.

لم تفهم المنظومة السياسية مجتمعها؛ بالأحرى لم ترد أن تفهم أن ما يهمها يتناقض مع ما يهم الناس. طبقة سياسية تكتنز الأموال المنهوبة وتعيش حياة ترف بحواصل هذه الأموال. تسلب وتصادر أموال وأملاك الناس بقيادة أكباش الطوائف وبواسطة المصارف. هذه المؤسسات التي لا تستطيع ولو للحظة واحدة أن تفعل ما تفعله بالناس لولا مباركة الطبقة السياسية ومشاركتها في القرار بإنتاج الأزمة التي تتشكّل من أزمات متلاحقة ومتزامنة. أزمات تكفي كل واحدة منها لإسقاط نظام في بلد آخر لا يُحْكِم السيطرة عليه أكباش الطوائف وبيوتات سُمّيت لسبب أو لآخر بالإقطاع السياسي؛ تلك المنظومة التي تقرر الايديولوجيا الطائفية السياسية السائدة التي أصبح خطابها غير ملائم للناس بعد تغيّر حياتهم وانحدار معيشتهم نحو الانهيار الكامل والمريع.

في الانتخابات النيابية كانت النتائج، برغم قلة عدد الناجحين من أهل مقولة التغيير، انتصاراً على السلطة. المجتمع انتصر على السلطة. فهل يستفيد أهلها من العبر؟ أم يصح القول أن الدرس الوحيد الذي تعلموه من التاريخ هو أن لا يتعلموا دروس التاريخ، وأن العبرة الوحيدة التي يدركونها من التجربة هو أن يتجاهلوا دروسها؟

حاولت المنظومة الحاكمة تغييب حقيقة أن ما يطالب به الناس ليس هذا ولا ذاك. لا تلك المقولة ولا هذه، بل هي الدولة. الدولة بما يجب أن تكون عليه ومن دون شروط. لا شرط على الدولة. الدولة شرط لما عداها. دولة تكون الوعاء الناظم للمجتمع. دولة تنغرز في وعي المواطنين، فيكون الواحد منهم مواطناً، لا رعية. وتكون الدولة فوق النظام والمنظومة. تتحقق الدولة وتكون هي المجتمع، ويكون الأفراد مواطنين يستطيعون العيش سوية، بحكم الضرورة، ويرى كل منهم في وعيه وبصيرته أنه هو الدولة وأن الدولة هو؛ عند ذلك تنحل “معضلة” سلاح حزب الله تلقائياً، بحيث لن يكون من ضرورة لرفعها كشعار يهدف الى استفزاز الآخرين وتحريض الأتباع. هذا ما يتوجب على الجميع السعي إليه. وهو في حقيقته الشكل الأسمى للعيش سوية؛ وهذا ما ترفضه الطوائف. إذ يقطع عليها الطريق. فهي جماعات مغلقة تتحيّن الفرص لنهب المال العام وسلب الطوائف الأخرى، وفي المحصلة سلب المجتمع مادياً ومعنوياً.

المواجهة الحقيقية، بل المجدية، ليست بين أطراف خارجية تستخدم كل منها أتباعها في الداخل، بل هي معركة في الداخل. داخل الذات المجتمعية بين المجتمع الذي يريد أن يكون دولة، بمواطنيه ونظامه، وبين النظام الحاكم الذي يزدهر على فساد الطائفية وتمزيق المجتمع ليسهل سلبه معنوياً وسرقته مادياً.
أدرك الناس هذا الأمر. لذلك جاءت نتائج الانتخابات مخيبة لآمال جميع أطراف السلطة وأحزابها، الموالي منهم والمعارض. مجتمع منهك بسبب ما اقترفه حاكموه من قمع وبلطجة وإذلال؛ كان القانون الانتخابي أعوجاً وقمة من قمم التكاذب على الناس وعلى الديمقراطية؛ وجاء مفصّلاً لتأبيد الحالة الراهنة، وتعميق الأزمة، لا بل الأزمات، وصولاً الى الانهيار الكامل، إضافة إلى ذلك، التعمية لخداع الناس والتلاعب بالمجتمع. استطاع الناس اختراق المنظومة الحاكمة في عدة مواقع أهمها رموز تمثّل الرأسمال المالي (المصارف)، وهي حليفة لأحزاب السلطة، وعدد من أهل الكلامولوجيا الذين كانت مهمتهم التبرير لجرائم السلطة. المناطق التي سقط فيها هؤلاء كان أثرها موجعاً لأهل السلطة الذين برغم احتفالاتهم بـ”الانتصار” الانتخابي، وبرغم الحذلقات في حسابات الأصوات، وإعادة حساباتها، بهذه الطريقة أو تلك، لدعم وجهات نظرهم، فإن الواحد منهم كان يحتفل ويبتسم “ويرقص متلوياً من الألم”. ما أن أعلنت نتائج الانتخابات حتى عاد أهل السلطة الى لعبتهم السابقة بتوليد الأزمات التموينية، وعادت طوابير الذل. يعاقبون الناس مرة أخرى.

إقرأ على موقع 180  سليم الحص.. يا ضميرنا الحي

تجرّأ الناس على أهل العرش نتيجة ثورة 17 تشرين التي كالوا لها شتى الاتهامات. مهما قيل عن السفارات وأتباعها، إلا أن في هذه الثورة احتلّ الناس الساحات العامة احتجاجاً على السلطة أو النظام، ورفعوا شعار “كلن يعني كلن”. وهو شعار صحيح، وإن وُجِدَ بين أصحاب السلطة أفراد من أصحاب الضمير الحي. صوّت الناس بأقدامهم في ثورة 17 تشرين، ومورست ضدهم شتى أنواع القمع والإرهاب حتى المرحلة الانتخابية. وفي الانتخابات النيابية كانت النتائج، برغم قلة عدد الناجحين من أهل مقولة التغيير، انتصاراً على السلطة. المجتمع انتصر على السلطة. فهل يستفيد أهلها من العبر؟ أم يصح القول أن الدرس الوحيد الذي تعلموه من التاريخ هو أن لا يتعلموا دروس التاريخ، وأن العبرة الوحيدة التي يدركونها من التجربة هو أن يتجاهلوا دروسها؟

لم يسقط النظام. أصابه بعض الخلل في التوازنات. لكن تغيرت قواعد اللعبة. ما عاد طرف يستطيع القول أنه أكثرية في طائفته أو في المجتمع.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "حرب الاستنزاف".. مستمرة!