لكن بعد مشاهدة الفيلم، لا أعلم – أو ربما لا أتذكر الآن – لماذا لم يعجبني، ولم يصبح أحد أفلامي المفضلة، برغم الجودة العالية لكل عناصره. لكنني أتذكر جيداً أكثر ما لفت انتباهي وإعجابي، بعيداً عن أداء دي كابريو الرائع كالعادة وإخراج سكوت القوي. لقد كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها جلشيفته.. وما أدراك ما جلشيفته! الممثلة التي تؤدي دوراً صغيراً بتلقائية لافتة للإنتباه.. واسمها في الفيلم “عائشة”.
بعد انتهائي من مشاهدة الفيلم، بدأت بحثي المعتاد عن أبطال الفيلم الذين لم أكن أعرفهم، ورحت أقرأ بعض التحليلات عن قصته وصناعته. فوجئت أثناء البحث، أن هذه الممثلة التي تقوم في الفيلم بأداء دور ممرضة أردنية تثير إعجاب دي كابريو، ليست عربية الأصل، بل فارسية.
جلشيفته فرحاني، من مواليد عام 1983، بالعاصمة الإيرانية طهران. إبنة الممثل وكاتب السيناريو الإيراني بهزاد فرحاني، الذي أنجبها من زوجته الممثلة الإيرانية فهیمة رحیمينیا. ولها أخت تعمل بالتمثيل، وأخ يصنع الموسيقى إلى جانب التمثيل أيضاً.
استمر اهتمامي بهذه الفنانة ذات الأداء المميز، ليس بمشاهدة فيلم تلو الآخر لها فقط، بل بقراءة قصة تلو أخرى عن حياتها التي أخذت منحىً غير سعيد فجأة منذ العام 2009، حين تسبب ظهورها في فيلم “كتلة أكاذيب” في غضب السلطات الإيرانية عليها. والأسباب عديدة أبرزها اشتراكها في فيلم هوليودي يروج للبروباجندا الأمريكية، وكذلك ظهورها به من دون ارتداء الحجاب في بعض المشاهد.
لم تخذلني هذه الممثلة، فاهتمامي بموهبتها – وأعترف هنا – وبجمالها الفارسي الشرقي (الطبيعي)، قادني إلى الاستمتاع بأدائها الرائع في أفلام من إنتاج إيراني، وكذا من إنتاج دول أخرى غير بلدها الأم، مع تنوع حجم أدوارها فيها، من بطلة إلى ضيفة في عدة مشاهد، مع تأديتها أدوار شخصيات من أصول شرقية، فارسية، عربية، أفغانية، كردية أو غيرها، مثل أفلام:
Si Tu Meurs Je Te Tue – (2011)
Just Like A Woman – (2012)
Exodus: Gods And Kings – (2014)
Paterson – (2016)
The Night Eats The World – (2018)
Arab Blues – (2019)
Extraction – (2020)
فوجئت بحجم موهبة هذه الفنانة الإيرانية الأصل (فرنسية الجنسية بعد سنوات من النفي)، ولا سيما عندما شاهدت لها فيلمين كل منهما ينافس الآخر في الروعة، سنستغل أولهما لطرح ومضات نقاش فكري، والثاني ومضات نقاش فني سريع.
الفيلم الأول هو:
Syngué sabour (The Patience Stone) – 2012
هو فيلم للمخرج الأفغاني-الفرنسي عتيق رحيمي، يروي قصة امرأة عالقة مع زوجها المتوفي إكلينيكياً في منزلهما بأفغانستان نتيجة إصابته برصاصة في عنقه أثناء قيامه بأعمال “جهادية”، فتضطر إلى رعايته وهو في هذه الحالة الخامدة التي تبدو كغيبوبة عميقة، ولا يبقيه على قيد الحياة سوى زجاجات تتولى تغييرها له كل فترة لتوصل الجلوكوز إلى أنبوب مُثبت في حلقه.
وهنا تقرر هذه المرأة التي لا تخرج من منزلها دون برقع، أنها فرصتها الوحيدة للحرية، برغم رقابة المجتمع الصارمة، وحالة الدمار والاهتراء التي تخيم على قريتها، التي لا يغادرها أزيز الرصاص وتساقط المقذوفات إلا فيما ندر. هذه الحرية تتمثل في أنها تقرر أن تتكلم فقط، لتحكي لزوجها وهو في هذه الحالة الاستاتيكية غير الواعية، عن مشاعرها الحقيقية، عن نفسها كأنثى، عن تجربتها حينما أجبرت قاصراً على الزواج منه، عن خالتها التي تعمل في الدعارة. ويتطور الأمر بهذا الكبت الذي عانته طوال حياتها، إلى نشوء علاقة جنسية مع أحد المجاهدين الذين يقتحمون منزلها ذات مرة. وبالطبع مشاهد كتلك ربما لم تكن جلشيفته لتحلم بالتجرؤ على تأديتها إذ لم تكن تعلم أن منعها من العودة إلى بلادها أصبح واقعاً تعيشه، وأصبحت فرنسية العيش واللسان تدريجياً.
وكأن الكبت الذي تعبر عنه الفتاة الأفغانية لزوجها الغائب عن الوعي، نظير كبت تشاركه إياها جلشيفته كفتاة إيرانية، تجرأت على خلع الحجاب والاشتراك في فيلم أمريكي، وتنفيذ مشاهد جريئة أمام الكاميرات.
وهو الكبت ذاته الذي دفع جلشيفته ذات مرة للقيام بجلسة تصوير شبه إباحية للمجلة الفرنسية Madame Le Figaro، ظهرت فيها عارية، في مزايدة وتحدٍ فج لكل ما تم نفيها بسببه، وكل ما نشأت عليه في بلدها الشرقي المحافظ، الذي إزداد محافظةً أو يمينيةً منذ اندلاع الثورة الإيرانية في العام 1979.
والموقف هنا، ليس تهجماً على إيران، ولا دفاعاً عن التعري. الشاهد هنا، إلام أدى نفي ممثلة ومنعها من العيش ببلادها، لأنها فقط كشفت شعرها، الإجابة هي، أنها قامت بكشف ما هو أكثر من ذلك. ربما لو كان التشدد الزائد، الذي يؤدي لإجبار الناس، وفرض طريقة عيش معينة عليهم، أذكى، أكثر إقناعاً وأوسع صدراً، لربما لم تكن جلشيفته كشفت أياً من مفاتنها، ولا قامت بتقبيل ممثل في فيلم فرنسي، ولا ظهرت ببذلة راقصة في فيلم أمريكي.
وعلى الجانب الآخر من محاولة الفهم، ربما الأمر يثبت عكس كل ذلك. فربما هذا ما كان مكبوتاً داخل جلشيفته وما تمثل من جيل من الفتيات الشرقيات، فما أن يبتعد عن محظورات ردة الفعل الأبوية، الذكورية، المجتمعية أو الدينية، حتى ينطلق بلا كوابح.
يبدو أن هذا الصراع الداخلي/الاجتماعي/الديني لا يتأجج فقط بداخل جلشيفته، بل هو صراع نفسي وفكري لا بد وأنه دار ويدور في أذهان وقلوب الملايين من الفتيات والشبان الإيرانيين والشرقيين وغيرهم ممن يتأرجح اتجاههم بين مجون وكسر التابوهات، في ما يُطلق عليه الغرب، وبين التزام وتحفظ مفروض يكبت كل شيء بلا نقاش باسم الدين وغيره، في ما يطلق عليه الشرق. وهو ما تمت مناقشته بشكل فني في سياق فيلم الأنيميشن الرائع Persepolis من إنتاج عام 2007، من خلال تجربة فتاة إيرانية واكب نشوء وعيها على الحياة، الثورة الإيرانية التي سيطر عليها الإسلاميون.
وما يناقشه فيلم The Patience Stone، غير بعيد عما يدور في حياة هذه الفنانة الإيرانية، وهي الحيرة المستمرة، التي لا يستطيع أحد إيجاد حل لها، سوى الانعزال الناتج عن الاستجابة لالتزام مفروض، وبالتالي مزيف لكونه غير اختياري، أو الانفتاح الماجن الذي يشوه صورة الحرية بالموبقات، وعلى رأسها العري والجنس.
وهروباً من هذا النقاش المعقد الذي لن يحسم أبداً (إلا على المستوى الشخصي)، نتوجه لنقاش فني بحت، ودعوة لمشاهدة تجربة سينمائية إيرانية عالية المستوى اشتركت فيها جلشيفته فرحاني، وهنا لا بد أن أحدثكم عن الفيلم الثاني:
Darbareye Elly (About Elly) – 2009
هل شاهدت عزيزتي القارئة/عزيزي القارىء، أياً من أفلام ألفريد هتشكوك؟
أياً كانت الإجابة، هذا المخرج الكبير، صاحب مدرسة فنية تشعبت إلى مختلف تصنيفات الأفلام، وامتدت منذ بداية عشرينيات القرن الماضي حين كانت الأفلام ما تزال صامتة، وحتى منتصف سبعينياته. ولكن ما نركز عليه هنا، هو عشق وتفوق هذا المخرج والكاتب الشهير في صناعة أفلام الإثارة النفسية Psycho Thrillers، أو كما نحب تسميتها أفلام الجرائم والغموض. قائمة أفلامه تطول. وأذكره هنا فقط لأخبركم، بأنه إذا ما كان ألفريد هيتشكوك إيرانياً، لما صنع فيلماً أفضل من فيلم Darbarye Elly إخراجياً.
فيلم بقصة بسيطة ومعقدة في آن واحد. هادىء في بدايته، مثير ومتوتر للغاية في أغلبه، وحواري في كليته. تدور أحداثه دون إراقة نقطة دم ولا طلقة رصاص، ولا حبكة درامية معقدة، بل ولا إجابة مريحة في نهايته. أبدع فيه مخرجه الإيراني وكاتب قصته أصغر فرهادي، في صنع حالة توتر هتشكوكية، عبر تصرف متنوع بكادرات الكاميرات، الثابتة منها والمتحركة. في عبقرية فنية شهد لها كل من يفهم في صناعة الأفلام من النقاد والمحللين الفنيين. فيلم إيراني، بحبكة تبدو بسيطة. لكنها تمثل وجبة سينمائية دسمة لأي محب لفن السينما.
ناهيك عن الأداء عالي الإقناع وشديد التلقائية في كل الأدوار لهؤلاء الممثلين الإيرانيين الرائعين، وبينهم جلشيفته فرحاني، التي كان هذا الفيلم هو آخر تجربة إيرانية تشترك بها في بلدها، قبل أن يتسبب إصدار فيلم Body of Lies في إجبارها على عدم العودة إلى بلادها مرة أخرى.
قصة فنانة تحمل تفاصيل عن حياة شخصية معقدة، إبعاد قسري، زواجان أولهما فشل، ممارسة هوايات مثل الغناء والعزف، وكسر للتابوهات انتقاماً أو تعويضاً عن كبت قديم، أو ربما سذاجة!. لكن كل ذلك لا ينفي موهبتها التمثيلية المبهرة.
نقاش درنا فيه بين الفن والحياة، ثم عدنا للفن ثانية. شاهدوا Darbarye Elly. ولا تخافوا. لا وجود لأي مشاهد جريئة بالفيلم، فهو إنتاج إيراني، وقد قامت جلشيفته بأداء دورها فيه وهي مرتدية حجابا يكشف عن نصف شعرها!
بينما أدعو نفسي لمشاهدة الفيلم الحادي عشر لجلشيفته، وعلي أن أختار ما بين Girls of The Sun أو Rosewater.
شاهدوا أفلام هذه الفنانة، وفي الوقت ذاته، فكروا في الأمر..
كيف ولماذا.. تحولت جلشيفته، إلى نبتة، بلا جذور!
تحياتي.