منمنمات الأتراك.. فن يتمسك بالتاريخ والحياة

يحتل الفن التركي مكانة معتبرة في الشرق بشكل عام. ليست المسلسلات والأفلام والأغاني وحدها ما يعبّر عما يختزنه المجتمع التركي من إمكانات، إنما ما هو أبعد من ذلك. للرسم مكانة خاصة في الفن التركي كذلك، وخاصة رسم المنمنمات.

يرى الأتراك أن رسم المنمنمات هو فن خاص بهم. من الجائز القول أنهم أشهر من استخدمه وأكثر من نشره، وهو يشكل إرثاً حضارياً أخذوه من تجاربهم التاريخية السحيقة، إلا أن بعض الشعوب الأخرى لها باع طويل كذلك في هذا المجال الفني.

والمنمنمات (الرسم المصغر جداً)، هي حسب موسوعة الفنون التركية، فن الرسم العالي الدقة، الذي لا يعتمد في إظهار الصورة على الضوء أو على الظل. وتعود كلمة المنمنمات إلى أصلها اللاتيني (Minaire)، وتعني اللوحات الصغيرة المرسومة باللون الأحمر.

وتشير أغلب المراجع التاريخية التركية أن المنمنمات قد ظهرت في عهد الإيغور (أي أجداد الأتراك) في القرن الثامن ميلادي. ثم بعد انتهاء العهد الإيغوري في آسيا الوسطى، ونزوح التُرك غرباً، استمر السلاجقة في هذا الفن ورسموا المنمنمات الإسلامية الأولية، تلاهم الإيرانيون، ومن ثم العثمانيون الذين استخدموا هذا الفن بشكل واسع النطاق.

أما اليوم، وبعد عصف وباء الكورونا بالمعمورة، تضخم ظهور الفنون التي يمكن تنفيذها وتصميمها في المنازل، ومنها المنمنمات في تركيا، التي باتت أكثر حضوراً، وتشهد إقبالاً متزايداً من الشباب والشابات وصغار السن لإتقان هذا الفن وخوض غماره.

لا يختلف مضمون منمنمات اليوم عما كانت عليه في الماضي، إذ لا يزال تصوير الطبيعة والقصور والمعارك هو الأكثر رواجاً. الفرق الوحيد أنها باتت أكثر حداثية وتصوّر حياة الناس العاديين أحياناً، وليس كما كانت في الماضي؛ تصوّر المناظرة الطبيعية الخلابة وأصحاب الجاه والتيجان وسكان القصور وحملة السيوف حصراً.

وترى الرسامة نيفين يابجي أن فن المنمنمات كان في العصر العثماني “فن القصور”، ويعرض حياة السلاطين والحروب التي خاضوها والاحتفاليات التي حضروها. أما اليوم، فيمكن، بحسبها، لأي شخص أن يدرس هذا الفن، من خلال دورات متخصصة، ويرسم ما يشاء. فيما قامت “بايجي” برفع عدد كبير من مقاطع الفيديو على الإنترنت تعلّم فيها كيفية رسم المنمنمات بإحترافية وإتقان، وهي متاحة للجميع من دون أي بدل مالي.

من ناحية أخرى، يرى الفنان التركي المتخصص بالمنمنمات تانر ألكوش، أن هذا الفن أنتج “وثائق العصر”، لأن المنمنمات كانت توثق ما يحصل في الماضي كآلة التصوير تماماً. معتبراً أن هذا الفن مستمَد من الثقافة التركية، لكنه موجّه إلى كل العالم ولكل الأذواق، ويعطي صورة مجردة لما كانت عليه زاوية من زوايا الحياة الماضية.

على الرغم من قلة عدد الأتراك الذين يمارسون هذا النوع من الفن، إلا أنهم في تزايد حالياً، أكان بسبب تعمد بعض معاهد الفنون الجميلة التركية على استحداث أقسام لتعليم هذا الفن، أم بسبب إمكانية تعلمه على الإنترنت، المتاح للجميع. بالإضافة إلى ذلك، تتزايد الوثائقيات حول المنمنمات وتُعرض على الشاشات المتلفزة، كما المعارض الفنية المعنية بعرض هذا النوع من الفن وفنون الرسم الأخرى في الآونة الأخيرة، وخاصة في رِحاب الجامعات والبلديات والمعارض الراقية وحتى الشعبية.

هذا ويختلف نوع “المنمنمة” بين من يرسم على الورق أو اللوحات، وبين من يرسم على الأشياء، كأكواب القهوة والأقداح أو زهور الأوركيد المجففة وغيرها من الأشياء الجامدة والصغيرة جداً. فيما توضع في معظم الكتب التاريخية والتعليمية التركية رسوم لمنمنمات غاياتها الأساسية هي التوضيح، لكأنها شبيهة برسوم “الإنفوغراف” في عصرنا الحالي، فتفسّر النصوص المكتوبة والمعلومات المرفقة بشكل يسهل فهمه والتعلّم منه.

ومؤخراً، عام 2020، أدرجت منظمة “اليونسكو” التابعة للأمم المتحدة فن المنمنمات التركي ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي حول العالم، وهو ما شجع بعض الأتراك كذلك على ممارسة هذا الفن وتعلّمه، وخاصة الشباب منهم. بالإضافة إلى تشجيع غير الأتراك، وخاصة من أبناء البلقان والقوقاز، على رسم المنمنات، ونقل هذه الثقافة إلى بلادهم.

من المؤكد أن مجمل الفنون المحلية تواجه مشاكل أساسية وعميقة أكان من ناحية الإنتشار أم من ناحية الإبداع، وذلك نظراً لبروز فنون حديثة جداً، وعدم اكتراث معظم الجيل الجديد، في كل العالم، لكل ما يرمز إلى الماضي، ومحاولتهم بتر حياتهم الحاضرة عن ماضيهم السحيق.

محاولات البتر هذه في تزايد مستمر، ليس في تركيا وحسب، إنما في كل العالم. تعيش المجتمعات اليوم في حالة من التنازع المستمر بين ماضٍ بكل ما يحمل من إرث وتراث، وبين جديد بكل يمكن أن يحمل في طياته. يُغري الجديد الشباب بطبيعة الحال، وخاصة كل ما يرتبط بالتكنولوجيا والسرعة، فيما يجنح آخرون، وأحياناً بردة فعل، إلى الماضي والعودة إلى الجذور والأصول. أليس الإرهاب المدفوع بعقيدة دينية نوعاً من أنواع العودة إلى الماضي كردة فعل على سرعة متغيّرات اليوم؟ أليس ميل تركيا تحديداً للعودة إلى عهد السلطنة نوعاً من أنواع ردة الفعل على واقع اليوم؟ أليس التعلّق المستجد بالفولكلور الشعبي عند البعض نوعاً من أنواع ردة الفِعل على الحداثة؟

إقرأ على موقع 180  الجولاني للإمساك بـ"معبر الحمران".. نفط ومال وخيارات!

لا تختلف هذه “الردة” الميالة لتعلم فنون السَلف عن تلك النزعة العامة المنتشرة اليوم. الدنيا تسير إلى الأمام وتواكب التطوّر والحداثة، وقلة قليلة تعود إلى الماضي. أيا ليت كل عودة إلى الماضي، تكون على شكل اتقان فن رسم المنمنمات.

Print Friendly, PDF & Email
تركيا ـ جو حمورة

كاتب لبناني متخصص في الشؤون التركية

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  إردوغان وكليجدار.. آخر المعارك!