بعد الدونباس.. زيلينسكي يتواضع أو يستدرج “بطرس الأكبر”!

ماذا بعد الدونباس؟ هل تنفتح أبواب التسوية أم تستمر الحرب؟ ما مدى طاقة كييف على تحمل المزيد من الخسائر البشرية والمادية؟ ألم يحن الوقت للولايات المتحدة كي تقتنع بأن الطريق إلى هزيمة روسيا، تنطوي على ثمن أكبر من أن يتحمله الغرب.. ومعه العالم؟ 
تلتقي معظم التقارير الغربية عند القول إن التكتيكات التي يعتمدها الجيش الروسي منذ إنسحابه من محيط كييف في نيسان/أبريل الماضي، قد نجحت في تحقيق مكاسب له في مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك في الدونباس، وأنه بسقوط سيفيردونيسك في الأيام المقبلة، تكون روسيا أحكمت سيطرتها على لوغانسك بالكامل، وبعدها تتجه للضغط على بقية المدن التي لا تزال تحت سيطرة الجيش الأوكراني في دونيتسك. ومن المشكوك فيه أن تتمكن أوكرانيا من عكس هذا المسار في الدونباس، بعد أن تتسلم راجمات “هيمارس” الأميركية المتطورة.
الدونباس بالنسبة لروسيا يمكن أن يشكل أرضية كافية للرئيس فلاديمير بوتين كي يعلن وقف “العملية الروسية الخاصة” في أوكرانيا والإستعداد للتفاوض إنطلاقاً من المكاسب الميدانية التي حققها حتى الآن. ويبقى معرفة مدى إستعداد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لسلوك طريق أكثر واقعية والشروع في بحث عن تسوية مع الجانب الروسي.
هنا ثمة نقطة ينبغي تفكيك ألغازها، هل أهداف واشنطن في أوكرانيا هي أهداف زيلينسكي أم أن لديها أهدافاً تتجاوز أوكرانيا إلى الصراع الأوسع مع روسيا ومن خلفها الصين؟
في هذا السياق، يمكن ملاحظة كيف أن فرنسا وألمانيا وإيطاليا بدأت تفترق عن الموقف الأميركي ـ البريطاني ـ البولوني في الملف الأوكراني. أما الزيارة المشتركة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي إلى كييف يوم الخميس الماضي، فلا يمكن أن تكون مجرد زيارة للإعلان عن دعم أوكرانيا من دون أن يكون الزعماء الثلاثة قد فاتحوا زيلينسكي بمسألة المفاوضات. ولعل إقرار المفوضية الأوروبية توصية تجعل أوكرانيا بمثابة عضو مرشح لعضوية الإتحاد الأوروبي، يكون بمثابة جائزة ترضية يحصل عليها زيلينسكي، لكن في المقابل يريد القادة الثلاثة رؤية نهاية سريعة للحرب، لأن دولهم تجد نفسها بطريقة أو بأخرى في خضمها. وهذا ما إعترف به ماكرون عشية تفقد القوات الفرنسية في رومانيا، عندما قال إن فرنسا دخلت “إقتصاد الحرب”. وألمانيا وإيطاليا أُرهق الإقتصاد فيهما بسبب خفض إعتماد كلٍ منهما على إمدادات الطاقة الروسية.
أظهرت دراسة لمدرسة كييف الإقتصادية أن أوكرانيا خسرت 600 مليار دولار نتيجة الحرب. ومن بين الكلفة الإجمالية، هناك 92 مليار دولار نتيجة الدمار في البنى التحتية بينما تم إخراج 195 مصنعاً من الخدمة
وفي الولايات المتحدة نفسها، بلغ التضخم أعلى مستوى منذ 40 عاماً ورفع الإحتياطي الفيديرالي الفائدة بنسبة 0.75 نقطة مئوية لمكافحة التضخم، الأمر الذي لم يحصل منذ 1994. والرئيس الأميركي جو بايدن تراجع عن “نبذ” السعودية وقرر الذهاب إلى الرياض ولقاء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لكن ليس بشكل ثنائي. وفي بريطانيا، يكافح بوريس جونسون لكبح تضخم يبلغ 11 في المئة، ويضع خططاً للتحفيز الإقتصادي شبيهة بتلك التي وضعها عند التعاطي مع الآثار السلبية التي خلفها الإقفال من جراء فيروس كورونا.
وليس تفصيلاً أبداً، التحذيرات المتكررة التي تطلقها الأمم المتحدة ومنظمات إنسانية، من أن إستمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، يهدد عشرات وربما مئات الملايين في انحاء العالم بالجوع، بسبب توقف صادرات الحبوب والزيوت الروسية والأوكرانية، فضلاً عن أن أكثر من 11 بلداً في الشرق الأوسط وأفريقيا مهددة بإضطرابات إجتماعية وسياسية، نظراً للنقص في المواد الغذائية.
وهذه التطورات ليست آثاراً جانبية للحرب، بل صارت من الاثار المباشرة المترتبة عليها. ويبدو خارج كل أمر مألوف ومنطقي، أن تكون الأسلحة “الثقيلة” التي سيوصلها الغرب إلى كييف، كفيلة بإزالة هذه الآثار. حتى البحث عن بدائل في أوروبا للغاز والنفط الروسيين لن يحصل بسحر ساحر بل يحتاج إلى سنوات وسنوات قبل أن يؤتي ثماره.
وفي لمحة شاملة لما تكبدته أوكرانيا من خسائر، أوردت مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية تقريراً، تحدثت فيه أنه فضلاً عن ألاف الإصابات، فإن كلفة الحرب على الإقتصاد الأوكراني كانت مدمرة. وأظهرت دراسة لمدرسة كييف الإقتصادية أن أوكرانيا خسرت 600 مليار دولار نتيجة الحرب. ومن بين الكلفة الإجمالية، هناك 92 مليار دولار نتيجة الدمار في البنى التحتية بينما تم إخراج 195 مصنعاً من الخدمة. إن الضرر الذي لحق بالشركات الأوكرانية سيؤدي إلى مضاعفات خطيرة على إقتصاد البلاد، الذي توقع البنك الدولي أن يتقلص بنسبة 45 في المئة. وأعلن برنامج الإنماء التابع للأمم المتحدة، إقفال نصف الشركات الأوكرانية، فيما ستعمل شركات أخرى بطاقة أقل. وتوقفت تقريباً الصناعات الأوكرانية البارزة مثل الفولاذ والحديد والخشب. ومع تدمير مصنع آزوفستال وآخر المصافي النفطية الأوكرانية، فإن إستعادة القدرة الإنتاجية إلى مستويات ما قبل الحرب، ستتطلب عبئاً مالياً كبيراً.
فضلاً عن ذلك، فإن القوات الروسية دمّرت حوالي 24 الف كيلومتر من الطرق، التي سيتطلب إصلاحها سنوات. وحتى لو خرجت أوكرانيا من الحرب منتصرة، فإنها ستواجه مأزقاً إقتصادياً. إن تقليص هذه الخسائر من طريق إحتمال التوصل إلى وقف للنار من شأنه تخفيف العبء المالي الذي ينتظر أوكرانيا.
وأخذاً في الإعتبار هذه المعطيات، لا يبالغ نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديميتري ميدفيديف عندما يتحدث عن أن الحرب ستؤدي إلى “إختفاء أوكرانيا عن الخريطة”.
يستحضر بوتين بطرس الأكبر الذي قاتل في “حرب الشمال العظمى” 21 عاماً، وان العالم ظل عقوداً لا يعترف بسان بطرسبرج أراضٍ روسية وإنما يعتبرها أراضٍ سويدية، في تلميح إلى ما هو حاصل اليوم في أوكرانيا
وإذا كان الرهان الغربي على أن الحرب الطويلة وحدها الكفيلة بإرهاق روسيا عسكرياً وإقتصادياً وجعلها تخرج ذليلة من أوكرانيا، كما خرج الإتحاد السوفياتي من أفغانستان، فإن ما تحقق الآن هو صمود روسيا إقتصادياً وتكيفها عسكرياً مع الهزائم التي منيت بها في الشهرين الأولين من الحرب، بينما خصومها وبقية العالم هم من يعانون، حتى ليبدو أن التضخم الذي يضرب أوروبا وأميركا، هو الحليف الأكبر لبوتين في حربه ضد أوكرانيا.
جملة واحدة يكررها بوتين في كل خطبه الرئيسية وهي أن الحرب بصرف النظر عن الخسائر البشرية والإقتصادية التي تسببت بها لروسيا، فإنها “أنهت عهد الآحادية القطبية”. وفي مواجهة التحذيرات الأوروبية من حرب طويلة، يستحضر بوتين بطرس الأكبر الذي قاتل في “حرب الشمال العظمى” 21 عاماً، وان العالم ظل عقوداً لا يعترف بسان بطرسبرج أراضٍ روسية وإنما يعتبرها أراضٍ سويدية، في تلميح إلى ما هو حاصل اليوم في أوكرانيا.
 ويبقى عامل مهم للغاية في المواجهة العالمية الدائرة اليوم، وهو أن الصين لن تترك الغرب يدمر روسيا، وما يمكن أن تفقده موسكو من أسواق أوروبية من الممكن تعويضه في أسواق الصين. قبل أيام إتصل الرئيس الصيني شي جين بينغ بـ”صديقه القديم” فلاديمير بوتين، للمرة الأولى منذ أواخر شباط/فبراير. اللافت للإنتباه في المكالمة أنها أتت عقب إشتداد الحرب الكلامية مؤخراً بين واشنطن وبكين حول جزيرة تايوان.
 وفي نهاية المطاف، تبقى المفاوضات أقصر الطرق لوقف حرب لا تستنزف روسيا وحدها وإنما تستنزف العالم. وقد تجعل الراجمات الأميركية عندما تصل إلى أوكرانيا الوضع أكثر سوءاً.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  أمريكا والسعودية والتغيير الحتمي.. مَنْ يسبُق مَن؟
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  ماذا جرى بين ماكرون وحزب الله في الساعات الأخيرة؟