ثمة أرقام غير رسمية تفيد أن المهاجرين اللبنانيين خلال اربع سنوات (2018 ـ 2021) تجاوز المائتي الف لبناني بينهم ثمانون ألفا في العام 2021 وحده، ولن يكون عدد المهاجرين خلال النصف الأول من 2022 أقل من هذا الرقم (40 ألفاً)، وهذا يعني أننا أمام كتلة مهاجرة تصل إلى ربع مليون نسمة من المهاجرين اللبنانيين معظمهم من الشباب والشابات. بالمقابل، هناك ما لا يقل عن عشرين ألف مولود سوري في لبنان سنوياً (حوالي الربع مليون نسمة خلال 11 عاماً)، وهذه الأرقام وحدها كافية للإشارة إلى أن لبنان على عتبة تحولات ديموغرافية وإجتماعية وإقتصادية كبرى في السنوات المقبلة.
لقد بدأ تدفق النازحين السوريين الى لبنان على أثر نشوب الازمة السورية مطلع العام 2011، حيث سجلت اول حالة نزوح بتاريخ 28 ابريل/ نيسان 2011، وراحت تتعامل الحكومة اللبنانية مع السوريين الموجودين على اراضيها منذ ذلك الوقت بصفة نازحين وليس لاجئين لاسباب عدة ابرزها:
1ـ لبنان ليس باستطاعته منح السوريين صفة اللجوء بالنظر الى عدم قدرته على اعطائهم حقوقهم كلاجئين تحت القانون الدولي.
2-الازمة السورية مرحلية، ومن المفترض ان يعود الوضع الى طبيعته ولو بعد حين.
شكلت الدوافع السياسية المتمثلة بخيار معارضة النظام السوري والاعمال الحربية السبب الرئيسي للنزوح السوري المستمر، اضافة الى اسباب اخرى اقل تأثيرا ترتبط بخصائص موقع لبنان الجغرافي، نظامه السياسي، الحرية الفردية فيه اضافة الى تركيبته الديموغرافية المتنوعة.
تتوزع محاور دخول النازحين الى لبنان على المعابر الشرعية الحدودية الخمسة مع سوريا في المصنع، العبودية، القاع، البقيعة والعريضة، والعديد من معابر التهريب الممتدة على مساحات الحدود المفتوحة عند السلسة الشرقية بين البلدين، القرى الحدودية المتداخلة في البقاع الشمالي وبعض نقاط العبور غير الشرعية على مجرى النهر الكبير على الحدود الشمالية.
يشكلل الخلل الديموغرافي الناتج عن النزوح السوري ومحاولات توطينهم خطرا كبيرا على لبنان، ومن شأنه الحاق ضرر بالتوازن الطائفي القائم نسبيا بين الطوائف اللبنانية الرئيسية، وما يزيد الامر سوءاً، ان الكثافة السكانية للنازحين السوريين هي في المناطق الاكثر فقرا من لبنان مثل الشمال والبقاع
ماذا عن اعداد النازحين وتوزعهم الجغرافي؟
سجلت المفوضية السامية للامم المتحدة لشؤون اللاجئين حتى تاريخ 31 مارس/اذار 2022 (839086) نازحا سوريا داخل الاراضي اللبنانية منهم (188990) نازحا يقطنون المنازل، علما ان العدد كان قد بلغ (1360000) وانخفض لاسباب عدة منها الهجرة، العودة الى سوريا او انتفاء صفة النازح (يشار الى انه تنفيذا لتعليمات الحكومة اللبنانية توقفت الـ UNHCR عن تسجيل سوريين اعتبارا من 6 يونيو/حزيران 2015).
يتوزع النازحون جغرافيا على الشكل التالي:39.1% في البقاع (328354)، 22.7% في بيروت وجبل لبنان (190636)، 27.3% في الشمال (228758) و10.5% في الجنوب (91338). وتشكل الفئة العمرية 18 – 59 النسبة الاعلى 19.5% من بين الذكور.
في المقابل، تشير ارقام مديرية المخابرات في الجيش اللبناني التي باشرت باحصاء اعداد النازحين السوريين اعتبارا من 1 مايو/ايار 2011 الى وجود (1490926) نازحا كانوا (1719335) نازحا حتى اواخر عام 2016. السبب في ذلك الفارق يعود الى تمنّع بعض النازحين عن التسجيل لدى الامم المتحدة لاسباب سياسية او بسبب الدخول غير الشرعي او بسبب المغادرة من المعابر الجوية والبحرية.
تجدر الاشارة الى ان موجات النزوح كانت ترتبط بالاوضاع الامنية السائدة في مختلف المخافظات السورية، وبالتالي فان الهدوء في معظم المحافظات السورية يشكل حافزا لعودة هؤلاء الى بلدهم. يذكر ان المديرية العامة للامن العام اللبناني نظمت عودة طوعية لـ(21136) سورياً عام 2019 و(1263) سورياً في مطلع عام 2020 ولكن هذه المبادرة توقفت بسبب تفشي وباء كورونا، علماً أن المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم وفي معظم زياراته إلى دمشق يثير هذا الملف مع السلطات السورية.
ماذا عن الاجراءات المتبعة على المعابر الشرعية؟
قرر مجلس الوزراء في نهاية العام 2014 وقف استقبال النازحين السوريين في لبنان، وبوشر التنفيذ اعتبارا من 5 يناير/كانون الثاني 2015، حيث تم تكليف الامن العام بتنفيذ القرار باستثناء عدد محدد من الحالات كالمرتبطين بعقود عمل، الاستشفاء، السياحة والتجارة، الا ان عددا كبيرا من السوريين الوافدين يدخلون الاراضي اللبنانية من دون وجه حق تحت هذه الاستثناءات.
اما بالنسبة للزيادات الناتجة عن الولادات، فتشير الاحصاءات الى ان عدد الولادات في لبنان فاق الـ 200 الف طفل سوري، بمعدل 20 الف مولود سنويا. كما تدل الدراسات ان معدل حجم الاسرة السورية 5 افراد وهذا يعكس حجم الضغط الديموغرافي. اما مكتومو القيد فتشير دراسة اعدتها سابقا الجامعة الاميركية عام 2016 الى ان 80% من السوريين لا يملكون اقامة صالحة في لبنان، الامر الذي سيؤدي الى زيادة عدد مكتومي القيد الناتج عن الولادات (نسبة منهم على يد قابلات غير مرخصات قانونياً). تضيف الدراسة ان حوالي 20% من المولودين السوريين في لبنان قد تم تسجيلهم في دوائر النفوس في حين ان 2% فقط مسجلون في قيد الاجانب لدى الاحوال الشخصية (الامر الذي يتيح لهم الحصول على الهوية السورية)، وبالتالي فان 98% من المولودين سيصبحون مكتومي القيد.
ما هي تداعيات النزوح السوري؟
على الصعيد الامني، ادى تواجد عدد كبير من النازحين السوريين وانتشارهم العشوائي على مختلف الاراضي اللبنانية، اضافة الى الظروف الحياتية الصعبة التي يعيشها عدد كبير منهم، ناهيك عن الانقسام السياسي االلبناني حول ازمتهم بين مؤيد للنظام ومعارض له، الى تداعيات ومخاطر عديدة. فمنذ وصول الموجات الاولى للنازحين، راحت اعداد المتورطين منهم بالجرائم والمخالفات على الاراضي اللبنانية ترتفع، وشملت تأليف عصابات الخطف، السرقة، النشل، ترويج العملات المزورة، قطع الاعمدة والاسلاك الكهربائية، افتعال المشاكل، تعاطي وترويج المخدرات، فضلا عن تسجيل مخالفات تندرج في خانة التعدي على الاشخاص والاملاك العامة.. من دون إغفال توقيفات شملت مئات السوريين ممن نجحت تنظيمات إرهابية في تجنيدهم على الأراضي اللبنانية ولا سيما في مخيمات النزوح.
وقد أدت التوقيفات المتزايدة إلى اكتظاظ السجون واغراق الاجهزة الامنية والقضائية بعدد كبير من الملفات، الامر الذي ادى الى عرقلة سير العمل او معالجة الملفات بالجهد الادنى لضيق الوقت. ويشكل السجناء السوريون ما نسبته 27% من السجناء البالغين الذكور. لكن الرقم الاخطر هو نسبة السجناء من فئة الاحداث، حيث يتبين ان عدد الاحداث السوريين الموقوفين يفوق عدد اللبنانيين، ويشكل حوالي نصف كافة الاحداث الموقوفين وهذا يدل على تصاعد المنحى العنفي والاجرامي للجيل الجديد من النازحين السوريين المتواجدين في لبنان.
والملاحظ أنه بعد العام 2020، وحيث اصبحت معظم الاراضي السورية تحت سيطرة الحكومة وتوقفت فيها الاعمال الحربية، غادر عدد من النازحين الى سوريا عبر معابر غير شرعية بهدف تجنب انتزاع صفة نازح منهم، ولكن تبين أنهم كانوا يعودون خلسة بهدف استلام المساعدات المادية والعينية. هذه الظاهرة تسببت بحركة تهريب ناشطة جدا. وعلم ان قيادة الجيش اللبناني ستزود المفوضية السامية للامم المتحدة لشؤون اللاجئين لوائح اسمية بالسوريين الذين يدخلون ويخرجون خلسة، بهدف شطبهم عن لوائح النزوح وقطع المساعدات عنهم.
وتنص المادة (2) من اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين على ما يلي: “على كل لاجئ ازاء البلد الذي يوجد فيه واجبات تفرض عليه خصوصا ان ينصاع لقوانينه وانظمته وان يتقيد بالتدابير المتخذة فيه للمحافظة على النظام العام”، كما تنص المادة (32) من الاتفاقية على الآتي: “لا تطرد الدولة المتعاقدة لاجئا موجودا في اقليمها بصورة نظامية الا لاسباب تتعلق بالامن الوطني او النظام العام”..
ماذا عن التداعيات الاقتصادية والمالية؟
ساهم النزوح السوري في تفاقم ازمة البطالة التي تجاوزت، بحسب تقديرات رسمية لبنانية، الـ40% من اجمالي القوى العاملة في لبنان، ويعود احد اسباب استبدال اليد العاملة اللبنانية في العديد من القطاعات الانتاجية باليد العاملة السورية الاقل كلفة، لعدم وجوب تقديم ضمانات مختلفة لها كما هي الحال مع اليد العاملة اللبنانية. يضاف الى مشكلة البطالة تأثر الاقتصاد المحلي سلبا في مناطق النزوح جراء منافسة السوريين للمؤسسات التجارية الصغرى التي يديرها لبنانيون. ووفق تقارير غير رسمية، نشأت آلاف المؤسسات السورية غير المرخصة، حيث يعمد السوريون الى انشاء مؤسساتهم الخاصة بطريقة غير شرعية ويتهربون من دفع الضرائب، اضافة الى قيامهم ببيع السلع المهربة عبر الحدود بأسعار تنافسية مما ادى الى اقفال العديد من المؤسسات اللبنانية.
من جهة اخرى، ادى الاكتظاظ السكاني جراء النزوح الكثيف الى تزايد الضغوط على البنى التحتية في لبنان، علما ان قطاعات الكهرباء، المياه، وشبكات الصرف الصحي، كانت تعاني اصلا من ضغط ملحوظ منذ ما قبل النزوح السوري، الامر الذي ادى الى تفاقم هذه الضغوط الى مستويات غير مسبوقة. ويقدر الطلب الاضافي على الكهرباء لمليون نازح ب350 ميغاوات بكلفة 350 مليون دولار سنويا.
بدوره، يواجه قطاع المياه في لبنان طلبا اضافيا يقدر ما بين 43 و70 مليون متر مكعب في السنة، اي بزيادة 8 الى 12% على حجم الطلب قبل النزوح. وتشهد مناطق تستقبل اعدادا كبيرة من النازحين في البقاع والشمال زيادة في حركة المرور بنسبة 50% على بعض الطرق، ما ادى الى تدهور حالة شبكتها المرورية، وحالة طريق ظهر البيدر مثال على ذلك. وتؤكد المفوضية السامية للامم المتحدة لشؤون اللاجئين على النقص في تمويل ازمة النزوح السوري في لبنان، وتتكبد الدولة اللبنانية جراء هذا النقص تأمين جزء من الفارق بين التمويل المحقق والتمويل المطلوب، او ان النازحين انفسهم يحاولون الحصول على هذا الفارق من خلال مهن في سوق العمل اللبناني، وهذا ما يؤدي الى ارتفاع نسبة التصادم بين الطرفين السوري واللبناني وتصاعد ظاهرة “كره الاجانب” (Xenophobia) لدى اللبنانيين.
لقد ابدت الدول الاوروبية اهتماما متزايدا بملف النازحين في لبنان وذلك من وجهة نظر امنية، فهي تخشى ان يصبح لبنان منطلقا للهجرة نحوها او مركزا للتخطيط لأعمال ارهابية ضدها. من هنا حاولت تركيز دعمها في اتجاه تثبيتهم في لبنان من خلال مشاريع مختلفة تعزز بقاءهم
ماذا عن التداعيات الاجتماعية والصحية؟
نتيجة تردي الاوضاع الاقتصادية وانعدام فرص العمل، يضطر العديد من النازحين الى اتباع طرق ملتوية لاعالة اسرهم ومن ذلك التسول، الدعارة، الزواج المبكر والعمل بأجور منخفضة باستغلال اصحاب العمل لاوضاعهم.. كما شهدت السنوات الماضية ارتفاعا لافتا للإنتباه في التوقيفات التي طالت شبكات الاتجار بالبشر التي يديرها سوريون، والذين اعترفوا بـ”شراء فتيات” من سوريا وادخالهن الى لبنان بطرق غير شرعية.
ازمة جديدة تفاقمت في السنوات الثلاث الماضية ناتجة عن الفارق في الدخل بين اللبنانيين والسوريين، فالحد الادنى للاجور في لبنان لا يتجاوز الـ25 دولارا بينما تتقاضى عائلة سورية نازحة من برامج المساعدات الدولية ما بين 200 الى 400 دولار، اي ان النازح السوري اصبح افضل حالا من اللبناني الذي يتوجب عليه دفع الضرائب من الـ25 دولارا بينما أعفي السوري منها.
نتيجة تراجع القطاع الصحي في لبنان فان اللبنانيين لا يحصلون على الحد الادنى من التقديمات الصحية في مقابل خدمة صحية جيدة للسوريين على عاتق المنظمات الدولية.
يشكلل الخلل الديموغرافي الناتج عن النزوح السوري ومحاولات توطينهم خطرا كبيرا على لبنان، ومن شأنه الحاق ضرر بالتوازن الطائفي القائم نسبيا بين الطوائف اللبنانية الرئيسية، وما يزيد الامر سوءاً، ان الكثافة السكانية للنازحين السوريين هي في المناطق الاكثر فقرا من لبنان مثل الشمال والبقاع.
لقد ابدت الدول الاوروبية اهتماما متزايدا بملف النازحين في لبنان وذلك من وجهة نظر امنية، فهي تخشى ان يصبح لبنان منطلقا للهجرة نحوها او مركزا للتخطيط لأعمال ارهابية ضدها. من هنا حاولت تركيز دعمها في اتجاه تثبيتهم في لبنان من خلال مشاريع مختلفة تعزز بقاءهم ودمجهم بالمجتمع المحلي. ولعل صرخة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي تؤدي إلى إعادة نظر دولية ولا سيما أوروبية في التعامل مع هذا الملف الإنساني ـ السياسي بما يحفظ مصالح لبنان ولا يُضر بالسوريين الذين ما زالت مناطقهم عرضة للأعمال الحربية أو يمكن أن تتخذ بحقهم إجراءات من قبل السلطات الرسمية السورية.