وصلاح الدين حافظ هو واحد من خمسة أسماء قريبة – أو كانت – من عالَم أستاذ جميل مطر، هي أسماء الأعلام: محمد سيد أحمد ومصطفى نبيل وإيهاب وهبة ومحفوظ الأنصاري. كنت تراهم أيام زمان معًا يغلقون على أنفسهم أحد صالونات النادي اليوناني بجاردن سيتي (في القاهرة) ليناقشوا حال العرب والعالم، أو يفضلّون أن ينقلوا نقاشهم إلى هذا البيت أو ذاك. في الواقع فإن الاقتباس من كلام صلاح الدين حافظ والتعليق عليه من جانبي يستحقان شيئًا من التوضيح، فالتمرد بالتأكيد هو صفة من صفات أستاذ جميل مطر إن فهمنا التمرد على أنه الاستعداد لدفع أثمان الاختيارات الصعبة، كأن يختار وهو النابه أكاديميًا ألا يعيّن في كلية التجارة التي تخرّج منها وألا يواصل دراسته للدكتوراه بعد نيله درجة الماچستير من جامعة ماكجيل الكندية، أو كأن يقرر وهو القارئ النهم في العلاقات الدولية أن يترك العمل الدبلوماسي بعدما عمل في عدد من أهم عواصم العالم التي يكفي أن نذكر منها نيودلهي وبكين، أو كأن يهجر جامعة الدول العربية ليفتح مركزًا بحثيًا خاصًا بعدما صنع مع صديقه الدكتور علّي الدين هلال مصطلحًا كان جديدًا تمامًا في حينه على الدراسات العربية ثم سرعان ما ذاع بعدها وشاع، مصطلح النظام الإقليمي العربي.
إذن هو متمرد بالسليقة على القيود والقوالب والألقاب ومنها لقب دكتور الذي ما زال يلاحقه حيثما كان لأن هناك مَن لا يتصورون أن هناك عقلًا جبارًا مثل عقل أستاذ جميل مطر صاحبه لا يحمل درجة الدكتوراه. هو يتمرد لأنه يمّل ويكره القيود ويفضّل أن يكون هو ربّ عمله وصاحب مركزه، ويتمرد لأنه يرفض الانغماس في المعارك الصغيرة التي حاول كثيرون جرّه إليها فكان ينأى بنفسه ويعتزلهم، لكن المعارك الكبيرة أيضًا كان لها دورها المؤثّر في بعض اختياراته المفصلية، فعندما وقعت نكسة ١٩٦٧ اتخذ قرارًا بألا يكون جزءًا من جهاز الخارجية المصرية.. كان مصدومًا ومتألمًا ومحبطًا وهو الإنسان المتفائل بالفطرة والمحب للدنيا وما فيها. لكن التمرد ليس هو صفته الوحيدة، فهناك البعد التام عن الأضواء، وأتحدى أن تضبطه متلبسًا بحديث في فضائية أو بلقاء صحفي في جريدة أو تصريح لوكالة أنباء، وهو حيثما يحلّ يجلس في الصف الأخير ليدّون ملاحظاته ويراقب ويستمع. وهناك طبعًا تلك الصفة التي أشار إليها صلاح الدين حافظ، وهي صفة الغموض أو السريّة التي “لا زالت عالقة به – حذرًا- منذ بدايات عمله في السلك الدبلوماسي”، ولذلك لا تغامر أبدًا بسؤاله عن مصدر المعلومة التي يخبرك بها أو عن اسم صاحب القصة المشوّقة التي يرويها لك وهو كثير التجارب والقصص، فهو لا يبوح ولا يُستدرَج ولا يتورّط، أكثر من ذلك لا تتوهّم أنه يختصّك بسّر مهما كنت عزيزًا عليه، فالسّر عنده يبقى سّرًا وما يقوله هو مجرد جزء مما يسمح هو بتداوله.
***
أستاذ جميل مطر هو واحد من الشخصيات القليلة جدًا التي يوجد عليها إجماع، فإن أنت قلت له ذلك سألك بشئ من الخبث “وده شئ كويس والا وحش؟”، يقصد أن الإجماع لا يتحقق إلا لشخص بلا موقف، وهو صاحب المواقف بألف ولام التعريف. لكن أظن أن هذا الإجماع مبعثه قدرته الفائقة على التسامح مع الاختلاف والإنصات للجميع وإنه حقًا لَمُنصت كبير، ولذلك يندر أن تجد اسمًا من الأسماء المنتمية لأي تيار سياسي في مصر أو في الوطن العربي لم يتقاطع مساره يومًا مع أحد مسارات أستاذ جميل. فمن الصحيح أنه ناقد ومختلف ومستقل ومعتّد برأيه ولا يمكن شراؤه أبدًا، لكنه يحتفظ مع الجميع بشعرة معاوية، ولا يبادر بقطع العلاقة الإنسانية مع أحد حتى لو انفضّت معه علاقة العمل. إنه مثقف لا يتطابق حرفيًا مع أفكار أي اتجاه سياسي حتى وإن كان يميل إليها، فهو العروبي لكن بواقعية أنضجتها الخبرة العملية وأزمات المنطقة، والليبرالي المقتنع بقيمة العدالة الاجتماعية وبدور الطبقة الوسطى، وهو أحد أعمدة مدرسة الأستاذ محمد حسنين هيكل – وهي أكثر من مجرد مدرسة في الصحافة كما نعلم – ومع ذلك فإن له مدارس أخرى كثيرة.. إحداها مدرسة الأستاذ أحمد بهاء الدين على سبيل المثال، وهو لن يعترف أبدًا بأن له هو نفسه مدرسته الصحفية الخاصة التي تأثرت بها أجيال متتالية من الصحفيين، لكن هذا واقع. إنه صاحب القبعات الكثيرة: البحثية والصحفية والأدبية والدبلوماسية والإدارية لكنه لا يتوّرع عن خلعها جميعًا وارتداء قبعتك أنت حين تفضفض إليه بما يضايقك.. يخلعها كي يقترب منك ويفهمك ويعذر ضعفك.
***
التقيتُ بأستاذ جميل لأول مرة في عام ١٩٨٧ في المؤتمر السنوي الذي كان ينظمه مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. سألته عن إمكانية التعاون مع مركز دراسات الوحدة العربية وكان وقتها عائدًا من عمله كمدير لمكتب الجامعة العربية بتونس ويشغل منصب أول مدير لمكتب مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة، فرد عليّ قائلًا “طبعًا أنا بافتح الدكان الساعة ٨”. هذه المفردة التي أدهشتني وأنا باحثة صغيرة – ومحبكاها كما يقولون لا أتقبّل وصف المركز البحثي بالدكان – اكتشفت في ما بعد أنها جزء من قاموسه الذي لا يشبه أيًا من المعاجم والقواميس المتداولة، فهو قادر على أن يحدثك عن “العصافير التي لم تَنم كفايتها فتسقط إعياء” ولم أعلم من قبل أن العصافير مثلنا قد تصاب بالسهاد والأرق، كما يحدثك عن “النفاذية السياسية” هذا المصطلح المركّز جدًا والمختلف جدًا الذي يحتاج تفكيكه لجملة طويلة عريضة حتى تشرح معنى القدرة على التمدد والتأثير.
من بعد امتدت صلتي به عندما كوّن مركزه البحثي الخاص بعنوان “المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل” وكانت له بعض تقاليد مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيچية الذي عمل فيه أثناء بداياته الأولى. حول المائدة الطويلة في قاعة اجتماعات المركز كانت تعقد ندوات ثرية يحضرها دكتور ناصيف حتّي من لبنان ودكتور الطاهر لبيب من تونس ودكتور علي خليفة الكواري من قطر ودكتور وميض نظمي من العراق ودكتور أحمد يوسف أحمد من مصر، والقوس مفتوح بحيث يمكنك أن تُدخل فيه كل الأسماء العربية الوازنة. في هذا المركز تعلمنا احترام قيمة العقل وقيمة الوقت، وتلك مناسبة لأذكر أن من الأسباب القليلة جدًا لانفعال أستاذ جميل أن تتأخر عن موعدك المحدّد فهو لا يتسامح مع الاستهانة بالوقت. لاحقًا تحوّل هذا المركز إلى المكان الذي شهد بداية الترتيب لإصدار مجلة دسمة جدًا في مادتها لأنها كانت قائمة أساسًا على تلخيص وتحليل أحدث الكتب الأجنبية والعربية مع عدد قليل ورصين من مقالات الرأي، وكان حجمها أكبر كثيرًا مما اعتادت عليه السوق المصرية وحملت اسم “الكتب وجهات نظر”، والصادرة عن دار الشروق. لا يمكن تخيّل حجم الجهد الذي كان يبذله أستاذ جميل وفريق عمله من الشباب ممن أعطاهم الفرصة لإثبات أنفسهم فلم يضيّعوها وصرنا نعرف منهم هديل غنيم مؤلفة كتب الأطفال المبدعة والصحفي المرموق سيف محمد سلماوي، وبالمناسبة فإن لديه قدرة عظيمة على اكتشاف مَن يصلح لماذا بغض النظر عن نوع التأهيل الدراسي.
في المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل عرفت كيف أن الولادة ليس من الضروري أن تضيف طفلًا للعالم، لكنها قد تضيف للعالم مجلة محترمة، فما كان يجري في صباحات وأمسيات هذا المركز إنما هو عملية مخاض طوييييييلة انتهت في فبراير/شباط عام ١٩٩٩ بصدور أول عدد من المجلة. عشرات المناقشات والمشاجرات الخفيفة والبروڤات والسجائر وفناجين القهوة، وفي النهاية سعادة عظيمة وشعور بالتحقق واستقبال فوق الرائع للمجلة من جانب الوسط الثقافي. لكن المتمرد الكبير لم يتخلّ عن عادته قط، فإذا هو يترك وليده الصحفي بعد سبعة أشهر ليبدأ تاليًا قصة جديدة ومغامرة جديدة مع جريدة الشروق التي صدر أول أعدادها في فبراير/شباط ٢٠٠٩ أي بعد عشر سنوات كاملة من “الكتب وجهات نظر”. وُلِدَت الشروق كبيرة بكتّابها ومساحة الحرية التي تتمتّع بها ومن بعد بالكاريكاتير الذكي للمبدع عمرو سليم الذي جدّد علاقة القارئ مع فن السخرية السياسية، ثم مَن كان يتصوّر أن يكون هناك في صفحة الرأي بجريدة الشروق- حيث تُناقَش القضايا الصعبة بلغة جافة – باب خاص عن الانطباعات الشخصية يكتب فيه أصحابه عن المطبخ والأحفاد والأعياد والصداقة والحب والذكريات وكل ما هو غير سياسي؟ حدث بالفعل، ولعل هذه الفكرة من بنات أفكار أستاذ جميل جاءته وهو يقطع مشواره اليومي من البيت للمكتب على قدميه يمشي ويفكر، فالباب كان تقريبًا جنب الباب كما يقولون.
***
إن فوز أستاذ جميل مطر بجائزة أفضل كاتب صحفي، وهي الجائزة السنوية التي تقدمها مؤسسة مصطفى أمين وعلي أمين – هذا الفوز أحدث في الواقع أثرين، الأثر الأول أن كثيرًا ممن عرفوا أستاذ جميل، سواء عن قرب أو حتى عن بعد، كتبوا عنه عدة مقالات ولعل الجائزة التي حصل عليها ذكّرتهم به وهو الذي كعادته يخاصم الأضواء والضوضاء والكاميرات والمانشيتات والخبطات الصحفية. وهذا التدفّق في الكتابة عنه شجعني بدوري أن أكتب عنه، فمقال اليوم هو حصيلة مؤامرة صغيرة عليه مع بعض أعوانه المخلصين من الشباب، لعل الكتابة عنه تسعده ولو بينه وبين نفسه، وتشعره بأن الذين يقدّرونه أكثر بكثير مما يتصوّر، وربنا يستر ونفلت بمؤامرتنا الصغيرة. وهذا يقودني للأثر الثاني الذي أحدثته جائزة مصطفى وعلي أمين، وهو أن الكل بمعنى الكل حرفيًا تساءل كيف لم يحصل أستاذ جميل مطر حتى الآن على جائزة النيل أو الجائزة التقديرية ولمثل اسمه بالتحديد من المفترض أن تُمنَح الجوائز؟ لكن إجابة هذا السؤال موجودة عند الجهات المسؤولة عن الترشيح للجوائز المختلفة، ومَن يدري.. لعل وعسى.
(*) بالتزامن مع “الشروق“