الأزمات في لبنان هي نتاج استيراد ادواتها وموادها الأولية الملوثة من الخارج، ثم يجري تجميعها وتصنيعها والترويج لجودتها إعلامياً بهدف تسويقها وبيعها في السوق اللبناني، او إعادة تصديرها لدول الجوار، مختومة بشعار فخر الصناعة اللبنانية.
صُنّاع الأزمات في الخارج نجحوا في جعل لبنان مختبراً لجودة بضاعتهم، وبما أن الصناعة بحاجة إلى سوق مزدهر أوكلوا إلى بعض اللبنانيين المتنفذين تسويق منتجاتهم الجرثومية السياسية والاقتصادية، معززة بفيروسات لبنانية طائفية ومذهبية.
ما من أزمة أصابت لبنان إلا وعولجت بالمسكنات، اي بما يعرف بالتسوية حتى أطلق على لبنان مسمى بلد التسويات مع تغييب معالجة الجذور والمسببات وحجب الترياق الشافي، ما يبقي عوارض الأزمة نشطة وفاعلة ويكفل تفاعلها مع أي التهابات داخلية غب الطلب وطبقاً لحسابات ومصالح دول مالكة مختبر الازمات.
التسويات في لبنان جُلّها لم تكن يوماً منتوجاً محلياً، منذ 1943 مروراً بـ 1958 وأزمة 1975 وصولاً إلى تسوية الطائف 1991 جميعها اعتمدت مبدأ التضميد حتى وان كان على زغل، فالجرح النازف في لبنان لم يلتئم يوماً بشكل صحيح وصحي، ليعود الى قذف القيح وألعن من ذي قبل، عند اول اهتزاز سياسي او طائفي.
ظروف إنضاج التسويات في لبنان غالباً تحكمها عوامل دولية برعاية اقليمية، وكل التسويات تضمنت بنوداً آنية لكنها متضاربة، وكل بند فيها يمكنه تعطيل البند الآخر، حتى ان بنود النظام اللبناني، صارت مرجعاً لتعطيل عمل الدولة.
ملوك الطوائف والفساد في لبنان أوهموا ابناء طوائفهم، بأنهم انبياء مرسلين او وكلاء الله على حقوق الطائفة، وبدونهم تمحق الحقوق وتصبح الطائفة مهددة بالزوال او الهجرة، وهكذا استطاع ملوك الطوائف الامعان بنسف أسس النظام من اجل الابقاء على التوكيل وعلى نبوتهم المزيفة على الطائفة
لم تنفذ تسوية في لبنان الا وكانت تراعي الحصص الطائفية والمذهبية، ولو كان ذلك على حساب مصلحة قيام الدولة، فاختلّ تطبيق النظام في الدولة لمصلحة نظام الطوائف، وآخر إبداعات هذا النظام، قانون انتخابي أقلّ ما يقال فيه انه عزّز الطائفية، وبدل انتاج مجلس نيابي على أساس وطني فاذا بكتل نيابية طائفية متعددة، لا تتشابه لا بالأهداف ولا بالانتماء الوطني، وبذلك فقد ألغي مبدأ المواطنة وصار النائب غير مكترث بتطور بالدولة بقدر ما يهمه تعزيز قوة وسطوة طائفته على الدولة.
المسؤولون في لبنان يدّعون الحرص على الوطن، لكن مقياس حرصهم على الوطن والمواطنة، هو بحجم قدرتهم على نهب خزينة الدولة لمصلحة طوائفهم، اما اذا كان المسؤول متعففاً ونزيهاً يعمل لمصلحة كل الوطن، فمصيره اما الاغتيال السياسي ولو بالقوة واما نبذه وابعاده عن الشأن العام.
منظومة الفساد تمكنت من الهيمنة على مفاصل الدولة، بعدما قررت الارتهان إلى الجهة الخارجية المشغلة بصفة موظف مؤتمن على مصالح دول دأبت على نثر فيروساتها المخصصة لتدمير الدولة واصابتها بداء الشلل، ولو نخرها الفساد والعسس وبذلك نجحت منظومة الفساد المرتهنة بالتحكم بحصص الطوائف، وكل حسب طائفته حتى اطلق على اعضاء المنظومة مسمى ملوك الطوائف.
ملوك الطوائف والفساد في لبنان أوهموا ابناء طوائفهم، بأنهم انبياء مرسلين او وكلاء الله على حقوق الطائفة، وبدونهم تمحق الحقوق وتصبح الطائفة مهددة بالزوال او الهجرة، وهكذا استطاع ملوك الطوائف الامعان بنسف أسس النظام من اجل الابقاء على التوكيل وعلى نبوتهم المزيفة على الطائفة.
انبياء السياسة في لبنان ابتعدوا عن الدولة ونظامها، بعد نجاحهم في ارساء نظام خاص بهم وبطوائفهم، كل طائفة لها وطنها ونظامها وحتى أزماتها الخاصة ومفتاح الأزمة معلق في عواصم دول اما اقليمية او دولية، اما المحاصصة الطائفية في الدولة فهي مقدسة ومصانة، فكل الأحزاب والتيارات متفقة على نهش جسد الدولة وتحويلها إلى جيفة، وجميعها تخشى قيام الدولة خصوصاً بعدما صار لكل نبي طائفي دولته ونظامه الخاص، الذي لا يجمعه ونظام الدولة الجامعة بشيء.
ملوك الطوائف يخافون الدولة الجامعة والعادلة، ذلك انه مع قيامتها تلغى نبوتهم المزورة ويُطاح بمنصب ملك الطائفة، ولذلك لجأوا الى تخويف الطائفة وصوروا لطوائفهم ان قيام الدولة هدفه مواجهة الطائفة وتهميشها والحاقها بالمظلومين.
الدولة العادلة تعني احتواء فسيفساء كل الطوائف وفيها تنصهر المذاهب وتلقائياً يلغى مبدأ احتكار او تخصيص اي منصب او مركز رسمي لاي طائفة وحينها يسود مبدأ الكفاءة والنزاهة، ويختفي شعور الغبن وحينها يشعر المواطن بالمساواة، لأن منطق الدولة العادلة والجامعة لا يتسامح مع منطق الطائفية.
كل دساتير الدولة اللبنانية منذ الاستقلال حتى الطائف لم تلحظ معالجة التناقضات التي زرعت عن سابق تصميم في مجمل بنود التسويات والدساتير بصورة متناقضة، وذلك لجعل الازمة من داخل الدستور الواحد، فمثلا تنص المادة 12 من الدستور على أن لكل لبناني الحق في تولّي الوظائف العامّة، لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة، فيما الممارسات البهلوانية المتلاعبة بنصوص الدستور قدّمت المنطق الطائفي فأصيب الدستور بتشوهات وعاهات دائمة، قوّضت تطبيق القانون بلجوء ملوك الطوائف الى خزعبلات المادة 95 من الدستور وهكذا دواليك.
لبنان وطن بلا جنسية وطنية، ضائع بين طوائفه وباحث عن هويته، والى حين تجنيس لبنان بمرسوم وطني لا طائفي، والى حين العثور على هوية وطنية، سيبقى لبنان بلد الأزمات المفتوحة والهوية الضائعة
منذ قيام دولة لبنان الكبير لم يحظَ ملف وطني واحد باجماع طوائفه، فكل طائفة لديها مفهومها وتفسيرها الخاص، بما يكفل التماهي مع مصلحة الدولة الداعمة لها ثم مصلحة الطائفة، حتى لو كان الملف الوطني يعود بالنفع لكل طوائف الوطن.
لبنان بلا هوية وطنية جامعة ولو كان ذو وجه عربي، لكن في الممارسة ثبت أن لبنان ذو وجه طائفي بامتياز، فتجد طائفة تدعي التمسك بالعروبة وتعتبرها حبل النجاة من الطائفية، وتجد طائفة تدعي الحرص على الحضن العربي فقط في المواسم وللمزايدات، فيما تاريخ بعض قادة الطوائف يثبت أنهم لا يتورعون عن الاستعانة بالهوية العبرية للاستقواء على باقي الطوائف، وهناك طائفة اخرى توارب بعروبتها للمحافظة على قوتها المستمدة اقليمياً بحجة أن العروبة لم تعد تكفي وان لبنان بحاجة إلى هوية جامعة، وهناك طائفة تتنكر للعروبة ولو كانت ناطقة باللغة العربية ووسائل اعلامها تذيع اخبارها بالعربية، وهناك طائفة تميل بهويتها حسب ميل علم الدول الداعمة، خليجية كانت ام غربية لا فرق.
لبنان وطن بلا جنسية وطنية، ضائع بين طوائفه وباحث عن هويته، والى حين تجنيس لبنان بمرسوم وطني لا طائفي، والى حين العثور على هوية وطنية، سيبقى لبنان بلد الأزمات المفتوحة والهوية الضائعة.