“مُسيرات كاريش”.. الحساب “مفتوح” بين حزب الله وإسرائيل!

طغى قرار حزب الله بإرسال ثلاث مُسيرات للتحليق فوق حقل "كاريش" الغازي المتنازع عليه بين لبنان وإسرائيل، أمس (السبت)، قبل أن يُسقطها سلاح الجو الإسرائيلي، على ما عداه لبنانياً، حيث غاب الحديث عن الحكومة اللبنانية الجديدة أو نتائج إجتماع وزراء الخارجية العرب في العاصمة اللبنانية.

حتى الآن، إلتزم حزب الله بسقف البيان الصادر عن ذراعه العسكرية (المقاومة الإسلامية)، فلم تصدر عن أي من قياداته السياسية مواقف تشرح مضمون خطوة إرسال المسيرات الثلاث في هذا التوقيت بالذات. لكن من المفيد التوقف عند نص بيان حزب الله الذي لا يتعدى الخمسين كلمة:

أولاً؛ سمّى حزب الله العملية بإسم “الشهيدين جميل سكاف ومهدي ياغي”، ذلك أن الأول كان قد نعاه حزب الله في العام 1994 من دون أن يحدد كيف سقط في مواجهة مع الإسرائيليين، ليتبين لاحقاً أنه كان يستعد لتنفيذ عملية بواسطة طائرة شراعية ضد الجيش الإسرائيلي، أما مهدي ياغي فهو من مقاتلي حزب الله الذين سقطوا في الحرب السورية في العام 2013، وتميزت وصيته بعفوية اللهجة البقاعية وحيوية الشاب العشريني الذي يُحب الحياة ولا يبحث عن “حور الجنة” ونصح والدته، وهو يضحك، بألا تبالغ بالردح والبكاء وطالب خطيبته بأن تنفذ ما إتفقا عليه.

هنا، ينبغي التوقف عند إسم جميل سكاف وماهية التذكير بعملية الطائرة الشراعية وهي الأولى من نوعها لدى حزب الله قبل أن يمتلك على مر السنوات ترسانة من المسيرات يُقدرها مركز أبحاث “ألما” الإسرائيلي بنحو ألفي طائرة مُسيّرة، وذلك في إطار جهد إنطلق في نهاية ثمانينيات القرن الماضي وإستمر طوال ثلاثة عقود من الزمن، وكانت “مرصاد 1” هي البداية في العام 2002 (حلّقت فوق مزارع شبعا)، قبل أن تتدحرج هذه الترسانة وتتراكم وصولاً إلى الأمس فوق “حقل كاريش”.

ثانياً؛ قال حزب الله في بيانه إنه تم “إطلاق ثلاث مسيرات غير مسلحة ومن أحجام مختلفة”. هذه الفقرة رسالة بحد ذاتها وقد قرأها الإعلام العبري على هذا الأساس، فالتحقيق الإسرائيلي هو الذي سيحدد نوعية (طراز) كل مُسيرة من المُسيرات الثلاث والمديات التي يمكن أن تصلها في التحليق والإرتفاع عن سطح البحر والوزن والحمولة والكاميرات التي تم تزويدها بها فضلا عن المحركات وباقي تفاصيل هيكل كل واحدة منها، ناهيك بنظام التشغيل والمناورة وبث الصور إلخ..

وقد حسم حزب الله أمر المهمة بأنها “إستطلاعية”. فالمُسيرات الثلاث “غير مسلحة”، أي ليس وظيفتها أن تُفجر نفسها في أهداف محددة ولا أغراض عسكرية مباشرة من وراء إطلاقها. إطلاقها كان يضعها أمام إحتمال من إثنين: أن تحلق فوق الحقل لفترة زمنية معينة وتعود إلى قواعدها سالمة، وعندها يُعلن حزب الله عن “العملية” ويبث صورا وفيديوهات إلتقطتها الطائرات، وهذه رسالة بحد ذاتها لإسرائيل وللشركات الدولية التي تُنقب في المكان. الإحتمال الثاني هو إسقاط جزء منها وعودة جزء آخر أو إسقاطها كلها وهذا ما حصل، وعندها سيعتبر حزب الله أن المُسيرات “انجزت ‏المهمة المطلوبة وكذلك وصلت الرسالة”؛ كما جاء في بيانه حرفياً..

التحقيق الإسرائيلي هو الذي سيحدد نوعية (طراز) كل مُسيرة من المُسيرات الثلاث والمديات التي يمكن أن تصلها في التحليق والإرتفاع عن سطح البحر والوزن والحمولة والكاميرات التي تم تزويدها بها فضلا عن المحركات وباقي تفاصيل هيكل كل واحدة منها، ناهيك بنظام التشغيل والمناورة وبث الصور

ثالثاً؛ وهذه النقطة هي الأهم. لقد سبق للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أن حذّر الإسرائيليين بأن حزب الله يمتلك من القدرات والإمكانيات ما يجعله قادراً على منع العدو الإسرائيلي من التنقيب في حقل كاريش، مؤكدا أن حزب الله لن يقف مكتوف الأيدي إذا قرر الإسرائيليون البدء بالتنقيب، داعياً الشركات الأجنبية (اليونانية بالإسم) إلى الإنسحاب “سريعاً وفوراً.. وإلا تتحمل المسؤولية الكاملة من الآن فصاعداً عما قد يلحق بهذه السفينة مادياً وبشرياً”. لقد أعاد بيان حزب الله التأكيد وهذه المرة بالنص المكتوب أنه أطلق المسيرات الثلاث “باتجاه ‏المنطقة المتنازع عليها عند حقل كاريش للقيام بمهام استطلاعية”، وهذا النص يعني أن حزب الله لا يُلزم نفسه بالصياغات التي قدمتها الحكومة اللبنانية مؤخراً للوسيط الأميركي عاموس هوكشتين وفيها يكتفي لبنان بترسيم حدودي يضمن له كامل الخط الحدودي 23 بالإضافة إلى جزء من ما يسمى “حقل قانا” جنوب الخط الـ23، على أن يتخلى مقابل ذلك عن أي مطالبة مستقبلية بالخط 29 الذي يجعل “حقل كاريش” حقلاً متنازعاً عليه بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي.

رابعاً؛ جاءت العملية التي نفذها حزب الله على مسافة 48 ساعة من الحركة الماراثونية التي قامت بها سفيرة الولايات المتحدة في لبنان دوروثي شيا وشملت عقد لقاءات سريعة مع رؤساء الجمهورية ميشال عون ومجلس النواب نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي ونائب رئيس مجلس النواب إلياس بو صعب ووزير الخارجية عبدالله بوحبيب، ونقلت إليهم إستعداد إسرائيل لتقديم تنازلات جديدة في ما يخص الخط 23 (هناك 860 كلم2 متنازع عليها ضمن الخط 23 كانت إسرائيل قد إلتزمت بالتنازل عن أكثر من 500 كلم2 منها سابقاً، فبقيت مساحة تزيد عن 300 كلم2 عالقة بين الجانبين، لكن إسرائيل رفضت التخلي عن الجزء الجنوبي من “حقل قانا” جنوب الخط 23 وإقترحت تلزيم المكامن المشتركة في الجانبين اللبناني والإسرائيلي لإحدى الشركات الأميركية. وأبلغت الحكومة اللبنانية أن واشنطن مهتمة بتسوية قضية الحدود البحرية بين بيروت وتل أبيب قبل أيلول/سبتمبر المقبل، وهي النقطة التي كشف عنها عبدالله بوحبيب اليوم (الأحد) في مقابلة تلفزيونية.

إقرأ على موقع 180  رئاسة البرلمان اللبناني.. الممكن والمستحيل!

خامساً؛ يصبح السؤال هل أراد حزب الله رفع البطاقة الحمراء بوجه السلطات الرسمية اللبنانية مخافة إقدام بعض رموزها على تقديم تنازلات للجانب الإسرائيلي بسبب التلويح بعقوبات ضد شخصيات رسمية لبنانية تتابع ملف ترسيم الحدود؟

سادساً؛ سبق الإعلان عن إطلاق المسيرات الثلاث تسريبات إسرائيلية عديدة حول الأسلحة والتقنيات البحرية التي يملكها حزب الله ولا سيما زرع منظومة رادارات ومجسات وروبوتات كفيلة برصد كل ما يجري من أعمال تنقيب في الشمال الإسرائيلي، وهذا يعني أن حزب الله لا يكتفي بالرصد الذي يقوم به الجيش اللبناني، على مدار الساعة، بل أراد أن يكون شريكاً في الرصد، مخافة أن تؤدي الضغوط الأميركية على المؤسسة العسكرية اللبنانية إلى كتمان صوتها وراداراتها أيضاً!

سابعاً؛ من المفيد رصد ردود الفعل الإسرائيلية من خلال مقالات عدد من الكتاب والمحللين السياسيين والعسكريين وأبرزهم الآتي:

-المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل: حزب الله تعمد إرسال تهديد (نوايا) إلى إسرائيل من خلال المسيرات (…) ويصعب استبعاد إمكانية أن خصوم إسرائيل سيسعون إلى اختبار مدى حزم الحكومة الانتقالية في الفترة القريبة.

المحلل العسكري في صحيفة “يديعوت أحرونوت” يوسي يهوشواع: إذا لم تتنازل إسرائيل للبنان فإن رسالة حزب الله كانت واضحة: بإمكاننا إرسال مسيرات غير مفخخة، ولكن بإمكاننا أيضا إرسال مسيرات تتفجر على المنصة عندما يبدأ العمل فيها.. بحوزة حزب الله قدرات أكبر بكثير من القدرة التي بدت أمس (السبت)، التي كان هدفها نقل رسالة وليس التسبب بأضرار بالضرورة. والكلمة الأخيرة في المعركة حول المياه الاقتصادية لم تُقَل بعد، ويتوقع أن تتواصل. والدفاع عن كاريش، الواقع على بعد 100 كيلومتر تقريباً عن الشاطئ، معقد أكثر من الدفاع عن حقل ليفياتان، الذي يبعد 10 كيلومترات عن شاطئ الطنطورة.

يصبح السؤال هل أراد حزب الله رفع البطاقة الحمراء بوجه السلطات الرسمية اللبنانية مخافة إقدام بعض رموزها على تقديم تنازلات للجانب الإسرائيلي بسبب التلويح بعقوبات ضد شخصيات رسمية لبنانية تتابع ملف ترسيم الحدود؟

-رئيس الاستخبارات العسكرية السابق الجنرال تامير هايمن: الأزمة التي طرحت هذه الليلة امام صُناع القرار في إسرائيل تضعنا أمام اربعة خيارات: 1- الامتناع. لأن الحدث لم يؤدِ إلى أي اضرار ونجح الجيش في اعتراضهم. لكن هذا الخيار يمكن أن يدفع حزب الله إلى المزيد من المحاولات المشابهة. 2- مهاجمة موقع في لبنان. لكن هذا الخيار يمكن أن يؤدي إلى تصعيد في فترة حكومة انتقالية في إسرائيل. 3- رد ضد بنية تحتية في سوريا. لكن هذا الخيار يعطي دليلاً ملموساً عن فقدان الإرادة في إسرائيل لمهاجمة لبنان. 4 – رد من نوع “حرب على الوعي” (سايبر، جدار صوت، رسائل استراتيجية من دون أن تؤدي إلى خطر تصعيد). لكن هذا سيبدو كضعف لإسرائيل. لحزب الله قدرات متنوعة وأكثر تطورا مما أظهره حتى الآن. لذلك اقترح التعامل بجدية مع هذا التهديد.

-الناطق باسم الجيش الإسرائيلي ران كوخاف، خلال مقابلة أجرتها معه الإذاعة العامة الإسرائيلية: “الحساب مفتوح واليد تسجل، ولننتظر الأيام والأسابيع القريبة. ونرى حكومة لبنان أنها مسؤولة عن كل ما يحدث على أراضيها”.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  إنه النظام.. وليس قانون الإنتخاب