لحرب غزة خصوصياتها.. هل تحمل نهاياتها مفارقات جديدة؟

شهد العالم في هذه الحقبة أحداثاً وحروباً مختلفة ومتعددة منها الحرب في سوريا أو على سوريا، حرب ناغورنو كراباخ، حرب ليبيا، حرب السودان، حرب اليمن، حروب أفغانستان وغيرها. تميّزت جميع هذه الحروب بأنها وقعت بين فريقين أو اكثر ولكل داعميه، إلا حرب غزة التي تختلف كثيراً عن غيرها من الحروب التي انتهت أو ما تزال ناشبة بشكل أو بآخر.

من خصوصيات حرب غزة أن فريق غزة هو حركة حماس بقيادة يحيى السنوار ومحمد الضيف ورفاقهما، فيما تقف باقي قيادة حماس في الخارج موقف الداعم والمؤيد والمتبني لعملية “طوفان الأقصى” التي جرت، حسب الرائج، من دون علم قيادة الخارج. أما على الساحة الفلسطينية، فقد وقفت السلطة الفلسطينية جانباً ولم تشارك أبناء الوطن معركتهم، لا بل انتقد بعض قادتها حركة حماس علناً وأحياناً بلهجة قاسية جداً.

ومن خصوصياتها أن معظم الدول العربية اتخذت موقف المنتقد أو المتفرج خلافاً لمواقفها في معظم الحروب العربية الإسرائيلية لا سيما حرب ١٩٧٣ واجتياح لبنان عام ١٩٨٢.

ومن الخصوصيات أيضاً أن حركة حماس لا تمتلك عمقاً استراتيجياً مباشراً، لا سياسياً ولا عسكرياً ولا لوجستياً يُمكنه أن يسندها في حربها القاسية، وحتى في القضايا الإنسانية من معالجة الجرحى والتموين بالأغذية والوقود والعناية الطبية لم يكن هناك داعم عربي ولا حتى من المنظمات الدولية والإنسانية التي تحرك بعضها متأخراً وبشكل خجول وضعيف.

انتظار سقوط حماس!

ومن خصوصياتها أيضاً أن سبب عزوف هذه الدول وشعوبها عن التحرك هو أن معظم هؤلاء كانوا ينتظرون سقوط غزة وحماس وانتصار إسرائيل الحاسم في وقت قريب، وقرّروا التزام الصمت من أجل ضمان دور ما في ما يسمى “اليوم التالي”، لكن بعد أن تكون مؤسسات حماس قد انهارت نهائياً وفكرة المقاومة ماتت وتفتحت زنابق وأفكار التطبيع!

راهنت العديد من الدول العربية وبعض القوى السياسية فيها على سقوط حماس وراهنت كذلك الدول الغربية وفي مقدمها الولايات المتحدة على وجود فرصة للتخلص من حماس ودفنها في رمال غزة ولاحظنا كيف أن مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان راح يُحدّد تاريخ “المرحلة الثالثة”، ويُكثر الحديث عن “اليوم التالي”، لكن سوليفان وغيره لم يحدّدوا ما إذا كانت المرحلة الثالثة قد بدأت أصلاً؟ وهل انتهت؟ وما هي تفاصيل هذه المرحلة؟

ومن الخصوصيات أيضاً أن هؤلاء جميعاً يُدركون التفوق الكاسح لإسرائيل في امتلاك أسلحة الدمار وتكنولوجيا توجيه القذائف والصواريخ والقدرات اللوجستية والقوة النارية الإسرائيلية الهائلة والدعم السياسي الدولي غير المسبوق، بينما راح العالم يحاصر حماس بتهمة “الإرهاب”، قبل 7 أكتوبر وبعده، إلى حد اكتمال نصاب المحاربين للحركة دولياً وعربياً. زدْ على ذلك قدراتها العسكرية المحدودة التي يصعب أن تمكنها من الصمود بوجه الهجوم الإسرائيلي العاتي، من دون أن نغفل أن قطاع غزة محاصر منذ حوالي العقدين من الزمن.

ومن الخصوصيات غير المسبوقة أنه مضى أكثر من مائتي يوم وما زال القتال ناشباً في شمال غزة ووسطها.. والآن في جنوبها (رفح تحديداً)، وإسرائيل عاجزة عن تحقيق هدفيها المعلنين: سحق حماس وتحرير الأسرى الإسرائيليين، ولو أنه يُسجل لها أنها نجحت في تدمير غزة وأن آلة الدمار الإسرائيلية تمكنت من قتل حوالي 35 ألف فلسطيني وجرح أكثر من 78 ألفاً ناهيك بأكثر من عشرة آلاف مفقود وجعل أكثر من 75% من مناطق القطاع غير قابلة للحياة جرّاء تدمير ثلاثة أرباع المباني ومعظم المستشفيات ودور العبادة ومؤسسات الأونروا والجامعات والمدارس والمقابر والبنى التحتية.

وأخيراً.. محكمة العدل والمحكمة الجنائية 

ومن الخصوصيات على الصعيد الدولي، حصول ما لم يكن بالحسبان، أي تحرك الضمير الدولي الذي كان نائماً منذ ثلاثة أرباع القرن؛ وتمثل ذلك بتقدم دولة جنوب إفريقيا البعيدة عن ساحة الصراع، بدعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية. لم تأتِ الدعوى بطلب من حركة حماس أو أي جهة فلسطينية بل من تلقاء نفس هذه الدولة التي عانت ما عانت على مر التاريخ، فقرّرت أن تستجيب للضمير الإنساني والأخلاقي، فكانت هذه الدعوى بمثابة قنبلة انفجرت بوجه إسرائيل وداعميها وكل السرديات الإسرائيلية الممجوجة منذ عقود من الزمن. أصبحت إسرائيل متهمة وتجهد للدفاع عن نفسها وعن صورتها ولم ينفعها اتهام جنوب إفريقيا بالخضوع لحركة حماس بل أثار سخرية العالم.

ومن الخصوصيات أيضاً، ما تسرب عن اقتراب اصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يؤاف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هليفي، وهذا ما أثار قلق الولايات المتحدة حيث أعلنت عدم موافقتها على فتح التحقيق الذي يُجريه مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية.

وفي تدخل فاضح، نقل موقع “إكسيوس” أن عدداً من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي من الحزبين الجمهوري والديموقراطي أجروا لقاءً افتراضياً مع كبار المسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية، للتعبير عن قلقهم بشأن احتمال إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين. ونقل الموقع عن مسؤولين إسرائيليين أنّ نتنياهو الذي يشعر بتوتر شديد بشأن مذكرات الإعتقال المحتملة، تحدث إلى العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين والديموقراطيين في الأيام الأخيرة، وطلب منهم الضغط على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لعدم المضيّ قدماً في إصدار مذكرات الاعتقال. وكان سبق ذلك اتصال تلقاه الرئيس جو بايدن من نتنياهو الذي طلب مساعدة البيت الأبيض في الضغط على المحكمة الجنائية الدولية لمنع صدور قراراتها المرتقبة.

إقرأ على موقع 180  شيرين.. يا ربيعاً أزهر دماً

وهكذا وجدت الولايات المتحدة الأميركية نفسها تحاول تقويض ما تبقى من منظومة عدل دولية لمصلحة مضي إسرائيل بحرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.

حماس وحيدة.. وقوية

مع بدء الشهر الثامن للحرب، ما تزال حركة حماس تحتفظ بالقيادة والسيطرة وتقود قواتها وتفاوض بحيوية برغم التفوق الإسرائيلي والدعم الأميركي؛ وفي المقابل، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها، كما ذكرنا أعلاه، أي سحق حماس واستعادة الأسرى، وظهرت إمارات التعب على جيشها وسياسييها ودبت الخلافات الداخلية الجدية وتراجع اقتصادها وباتت تعيش في ضائقة سياسية وتضررت صورة التفوق التي كانت تظهر بها أمام دول العالم ولا سيما أمام جمهور اليهود.

خصوصية لبنانية ويمنية

وسط التخلي العربي والدولي عن حماس وانتظار وفاتها، اتخذ حزب الله في لبنان منذ صباح ٨ أكتوبر قرار إسناد جبهة غزة من خلال حرب استنزاف أدت إلى نزوح نحو مائة ألف مستوطن من ديارهم في الشمال وخلق مشكلة نازحين غير مسبوقة في إسرائيل واشغال قسم كبير من الجيش الإسرائيلي في الأعمال القتالية في الجبهة الشمالية، فضلاً عن إصابة مواقع عسكرية وتجهيزات رادارية وقتل وجرح أعداد من العسكريين. طبعاً كلّف ذلك شهداء وجرحى ونزوحاً وأضراراً إلا أن البيئة الحاضنة لحزب الله ظلت تحت سقف القرار السياسي الذي اتخذته قيادة المقاومة منذ اليوم الثاني لحرب “طوفان الأقصى”.

وفي خصوصية فريدة من نوعها، كان قرار “أنصار الله” في اليمن بفرض حصار بحري على حركة الملاحة إلى موانئ العدو ومنع البواخر الإسرائيلية من عبور البحر الأحمر وبحر العرب وخليج عُمان وغرب المحيط الهندي. وقد نفذت البحرية اليمنية قرارها فاعترضت بالنار أكثر من مائة باخرة وشلّت العمل في مرفأ إيلات.

كما أسهمت فصائل عراقية بزيادة الضغط العسكري على اسرائيل، من دون اغفال الدور الإيراني الداعم المقاومة الفلسطينية في غزة والذي بلغ ذروته ليل 13 ـ 14 نيسان/أبريل، عندما قرّرت طهران الرد على ضرب قنصليتها في دمشق باستهداف العمق الإسرائيلي في مواجهة عسكرية مباشرة هي الأولى من نوعها بين الجانبين منذ انتصار الثورة الإيرانية قبل 45 عاماً.

حراك جامعات أميركا

ومن أهم الخصوصيات صحوة الضمير التي انطلقت من إفريقيا وأميركا اللاتينية وبلغت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وهكذا تسنى لنا أن نشهد ثورة طلابية (وأكاديمية) غير مسبوقة في أعرق الجامعات الأميركية، وهي ثورة شبّهها البعض بـ”ثورة العام ١٩٦٨” ضد حرب فيتنام. هذه الثورة التي تجري محاولات لوأدها وقمعها يومياً رفعت شعارات دعم غزة ووقف النار ونصرة قضية فلسطين، والأهم أنها كسرت السردية الصهيونية المفروضة على شباب الغرب الذي رفضها بشدة معلناً بصوت عال “فلسطين حرة”، برغم محاولات شيطنته ووسمه بـ”معاداة السامية” أو “دعم الإرهاب”.. ومن الخصوصيات أيضاً أنها كشفت أن معظم الجامعات الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا ترتبط بشراكات مع إسرائيل، وهذا يُشكل رصيداً علمياً وثقافياً كبيراً لم يكن أحد على علم به من قبل.

تحديات جديدة

ومن الخصوصيات أيضاً ما قالته مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية افريل هاينز (تجمع لـ١٨ جهاز مخابرات أميركي) في شهادتها أمام الكونغرس بأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة هزّت المنطقة، وتسببت بـ”تحديات أمنية وإنسانية جديدة”، وأكدت أن واشنطن تعتقد أن كيفية حل الصراع في الشرق الأوسط ستُحدّد مستقبل الإقليم لعقود قادمة، وذلك في إشارة إلى الطريقة التي ستنتهي بها الحرب الإسرائيلية على غزة.

من كان يتصور في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ أن حرباً ستنشب في غزة وسيكون لها خصوصيات تكسر المحرمات وتبدأ بتشكيل وعي عالمي حطّم الكثير من السرديات والخدع والمقولات الغربية والصهيونية التي عمرها من عمر نشوء كيان جعل المنطقة العربية أسيرة حروب وويلات ومآس كثيرة.

بعد عرض كل هذه الخصوصيات، يبقى السؤال هل سيكون لهذه الحرب خصوصية ما تُوفر لها نهاية مختلفة عن نهايات حروب كثيرة؟

Print Friendly, PDF & Email
إلياس فرحات

عميد ركن متقاعد

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  هزّات الحرب الأوكرانية.. "الجبهة الغربية" لم تعد هادئة داخليّاً