عودةٌ إلى محمود درويش وسميح القاسم

اقتربا وابتعدا، لكنهما ظلا حتى النهاية توءمًا ملتصقًا. لا يمكن الاقتراب من عوالم أحدهما دون التطرق بالفهم والاستيعاب لتجربة الآخر. إنهما الشاعران الفلسطينيان الكبيران «محمود درويش» و«سميح القاسم».

 بعد ست سنوات من رحيل الأول، لحقه الثانى فى الشهر نفسه، أغسطس/آب (2014).

«درويش» بعلة فى القلب إثر عملية جراحية أُجريت بالولايات المتحدة، و«القاسم» بمرض عضال أنهك طاقته فى سنواته الأخيرة.

من قلب المأساة الفلسطينية وُلدت ظاهرة شعراء الأرض المحتلة.

 بعد نكسة (1967) تبدّت تلك الظاهرة أمام الرأى العام العربى، كأنها أقرب إلى عوالم السحر فى لحظة ألم عميق وشبه يأس، لا يفوقه ألمًا ويأسًا سوى ما يمر به العالم العربى الآن.

لم تنشأ الظاهرة من فراغ، ولا احتكرها شاعر واحد مهما بلغت قيمته.

كان الروائى والمناضل الفلسطينى «غسان كنفانى» من موقعه فى بيروت أول منصة مسموعة أشارت إلى شعراء الأرض المحتلة، الذين بزغوا بعد نكسة «يونيو».

 وكان الناقد الأدبى «رجاء النقاش» من موقعه فى القاهرة أول من كتب عنها بتوسع، لفت الانتباه إليها ودعا لاحتضانها.

عندما يُجرى الحديث عن ظاهرة شعراء الأرض المحتلة، فإن اسمى «درويش» و«القاسم» يتصدران الذاكرة، كأنهما «شطرا برتقالة»، كما عنونا مساجلات بينهما، تجربة واحدة وشاهد واحد على العذاب الفلسطينى.

درويش وتوفيق زياد والقاسم في حيفا 1963

برغم التوأمة، نشأت أوضاع التباس ومناكفة بين الشاعرين.

 إذا أراد أحدهما أن ينتقد البناء الشعرى للآخر، يتحفّظ مسبقًا على أى تأويل محتمل باستباق اسم توءمه بـ«حبيبنا».

هكذا استمعتُ إلى «سميح القاسم» ذات لقاء قاهرى جرى الترتيب له قبل أن يغادر الأرض المحتلة إلى العاصمة المصرية.

فى القاهرة بدا مندهشًا أمام إحدى العمارات الشاهقة قائلًا: «هل يُعقل أن كل من يسكنونها عرب»!

 كانت تلك مشاعر يفتقدها فى الأرض المحتلة.

ارتهنت حياته كلها لاعتقاداته ومواقفه.

 اتسق مع نفسه، فلسطينيته وعروبته، ودفع الثمن باهظًا.

عندما أُطلقت مطلع تسعينيات القرن الماضى صواريخ عراقية على إسرائيل، وصلت بعضها قرب حديقة بيته، سألته محطة تلفزيونية إسرائيلية عن شعوره؟

 فقال كما أخبرنى بنفسه:

«ولا أى شىء.. أزحت الغبار بيدى وواصلت شرب قهوتى».

فى روح القصيدة، يتداخل عالما «درويش» و«القاسم» بصورة مثيرة. «درويش»، الذى كتب: «عابرون فى كلام عابر»، هو نفسه «القاسم»، الذى قال: «كل سماء فوقكم جهنم.. وكل أرض تحتكم جهنم».

تجربة «درويش» أخذت زخمها من إطلالته على العالم، التى انعكست على بنية قصائده وروح التجديد فيها.

كان سفيرًا فوق العادة للقضية الفلسطينية أمام الضمير الإنسانى، فهو صوتها المسموع والمتحدث باسم عذاباتها، غير أنه حاول إلى أقصى طاقته إثبات أن شاعريته لا تلخصها أناشيد الحماسة.

كفَّ عن إلقاء ونشر قصيدته التى بنت صيته: «سجّل أنا عربى».

طوّر قصائده من الغنائية إلى الرمزية، ومن صخب التعبئة إلى عمق الفلسفة، مستفيدًا من إطلالته على العالم واتساع قراءاته وحواراته.

لم يكن ذلك هو خيار «سميح القاسم»، الذى بقى فى الأرض المحتلة، يكتب الشعر ويلهم قصائده بنبض المعاناة تحت الاحتلال.

«غزة تبكينا

لأنها فينا».

هكذا أنشد ذات يوم بعيد، كأنه يقرأ من كتاب مفتوح ما سوف يحدث مُروّعًا فى المستقبل.

البكاء، ولا شىء غير التأسى على ما وصلنا إليه، لا غضب يُوضع فى الحسبان ولا أدوار حقيقية فى العالم العربى تردع سيناريوهات احتلال غزة ووضعها تحت الحكم العسكرى، أو توقف مشروعات فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية والتهجير القسرى تاليًا.

المفارقة الموجعة أن الرأى العام الغربى، على العكس تمامًا مما يحدث هنا، ينتفض بتظاهرات حاشدة فى مدنه الكبرى للمطالبة بالحرية والعدالة لفلسطين وإنزال العقاب بمجرمى الحرب.

«هل من فرج ما»؟

درويش ومعين بسيسو والقاسم

 تساءل «القاسم» ذات رسالة إلى «درويش» عن انفراج ما يبدو صعبًا وبعيدًا.

 بدا الممكن الوحيد أمامه، ألا نفقد الأمل ولو من أجل الأجيال القادمة.

أجابه «درويش»: «نحن فى حاجة إلى درس الوطن الأول، أن نقاوم بما نملك من عناد وسخرية.. وبما نملك من جنون».

 إنها المقاومة تحت كل الظروف وأمام كل التحديات.

كان ذلك هو نفس خيار «القاسم».

 ظل الأمل معلقًا عنده على إرادة المقاومة، ولا شىء غيرها.

«تقدّموا

من شارع لشارع

من منزل لمنزل

من جثة لجثة

 تقدّموا».

بأبيات أقرب إلى النبوءة وقت كتابتها، لما يحدث الآن فى غزة، كتب:

«يموت منا الطفل والشيخ

ولا يستسلم

و تسقط الأم على أبنائها القتلى

ولا تستسلم».

الأبيات الملهمة تبدو الآن كما لو كانت رسالة إلى اللحظة الكئيبة الجاثمة فوق الصدور والمصائر، حتى لا تحنى غزة رأسها تحت وطأة الإبادة الجماعية والتجويع المنهجى والإذلال المقصود.

فى ذكرى رحيله، تبقى رسالته أن يظل الفلسطينى تحت أسوأ النكبات رافعًا رأسه:

«منتصب القامة أمشى

مرفوع الهامة أمشى

فى كفى قصفة زيتون

وعلى كتفى نعشى».

لم تكن مصادفة أن يُغرم بأشعاره الموسيقار اللبنانى الراحل «زياد الرحبانى»، كواحد من أعظم الشعراء العرب قاطبة، كما قال فى حوار تلفزيونى، أو أن يجاريه فى محبته مع «درويش» موسيقار لبنانى آخر «مارسيل خليفة».

إقرأ على موقع 180  "هآرتس": "وحدة ساحات دبلوماسية" بين غزة.. ولبنان!

«يا عدو الشمس لكن لن أساوم

وإلى آخر نبض فى عروقى سأقاوم».

فى أغسطس/آب الآخر (2025) تظل المعانى الكبرى التى أنشدها «سميح القاسم» ممتنعة على الإنكار والانكسار.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  وداد يونس تسرد "بوكالتها".. عن قصصنا!