سميح صعب14/08/2022
لم تنتهِ بعد ذيول زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى جزيرة تايوان، وستظل ترخي بثقلها على العلاقات الأميركية - الصينية في السنوات المقبلة، من دون أن إستثناء إحتمال إندلاع مواجهة عسكرية بين أكبر إقتصادين عالميين وقوتين نوويتين.
تكاد التطورات المتسارعة في مضيق تايوان، تُزاحم الأنباء الواردة عن إحتمال حصول تسرب إشعاعي يغمر أوروبا بكاملها من محطة زابوروجيا النووية الأوكرانية، إذا إستمر القصف “الغامض” للمحطة التي تقع تحت سيطرة الوحدات الخاصة الروسية.
المضيق قد يكون شرارة حرب لا تقل ضراروة عن الحرب الأوكرانية. في الأيام المقبلة تعتزم مجموعة من السفن الحربية الأميركية عبور المضيق بينما ستحلق مقاتلات حربية أميركية فوق مياهه في عرض للقوة، يأتي غداة مناورات صينية غير مسبوقة حول تايوان منذ الرابع من آب/أغسطس الجاري رداً على زيارة بيلوسي، وشملت إطلاق صواريخ باليستية فوق الجزيرة سقط بعضها في البحر بالمنطقة الإقتصادية اليابانية، في تذكير بالتجارب الصاروخية التي يجريها الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون بين الفينة والأخرى، تعبيراً عن الضيق من السياسات الأميركية.
إن أي خطأ في الحسابات السياسية والعسكرية في المحيط الهادىء اليوم سيكون بمثابة إشعال شرارة في حقل كبريت، في عالم لم يعرف بعد تلمس سبل الخروج من الحرب الدائرة في أوروبا، حتى تنشب أخرى في المحيط الهادىء
العروض العسكرية الصينية والأميركية قد تكون هي الأخطر التي تجري حول تايوان منذ مواجهات سابقة أبرزها عام 1958 عندما حاول ماو تسي تونغ غزو جزيرة كينمن التايوانية التي لا تبعد عن البر الصيني سوى عشرة أميال. يومذاك، هدّدت الولايات المتحدة بإستخدام الأسلحة النووية ضد الصين إذا لم توقف عملياتها، وردّ الإتحاد السوفياتي بتهديد أميركا بضربة إنتقامية. وبين عامي 1954 و1955، وبينما كانت الحرب الكورية قد وضعت أوزارها للتو، ساعدت أميركا القوات التايوانية على رد هجمات صينية للسيطرة على مجموعة من الجزر التي تحيط بتايوان. أما أزمة 1995، التي نشبت بسبب زيارة الرئيس التايواني عامذاك لي تنغ هوي، فقد ردت الصين عليها بمناورات تخللها إطلاق ستة صواريخ باليستية، بينما عززت القوات الأميركية من وجودها في المنطقة.
ما يحدث اليوم أمر مختلف، ذلك أن زيارة بيلوسي تركت الرئيس الصيني شي جين بينغ (وهو بالمناسبة أكثر زعيم صيني، بعد ماو تسي تونغ يلهج بضم تايوان) أمام خيارين، إما إسقاط طائرة رئيسة مجلس النواب الأميركي قبل وصولها إلى تايبه، أو التعبير عن الإستياء بسلسلة من الإجراءات المتدرجة التي قد تصل إلى فرض حصار عسكري وإقتصادي حول الجزيرة ذات الـ24 مليون نسمة، فضلاً عن قطع التعاون مع أميركا في مجالات عسكرية وبيئية وإنسحاب شركات صينية من بورصة وول ستريت.
لن يكون هذا نهاية المطاف، فالرئيس الصيني شي جين بينغ الذي يستعد للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في تشرين الثاني/نوفمبر على الأرجح، لا يمكنه أن يدخل المؤتمر زعيماً ضعيفاً في مواجهة تايوان ومن خلفها الولايات المتحدة، أخذاً بالإعتبار ما تملكه الصين من ترسانة أسلحة متطورة من السفن إلى الغواصات والمقاتلات. وبرغم أن أميركا تتفوق على الصين في حاملات الطائرات (11 حاملة أميركية مقابل 3 حاملات صينية)، لكن بكين حوّلت عدداً من الجزر الإصطناعية في بحر الصين إلى مطارات يمكن للمقاتلات الصينية الإنطلاق منها في أي مواجهة محتملة. ويضاف إلى ذلك أن الموازنة العسكرية الصينية هي ثاني موازنة عسكرية في العالم بعد الولايات المتحدة (250 مليار دولار). والصين قد ترد على أي إستفزاز أميركي جديد بإعلان مضيق تايوان، مياهاً إقليمية صينية.
فضلاً عن ذلك، يرى شي جين بينغ أن إدارة الرئيس جو بايدن تتحلل من إلتزامات إتفاقات التطبيع عام 1979، لجهة الإعتراف بـ”صين واحدة”. أكثر من ثلاث مناسبات أعلن فيها بايدن أن أميركا ملتزمة الدفاع عن تايوان عسكرياً. وهو بذلك ألغى سياسة “الغموض الإستراتيجي” التي تعتمدها الإدارات الأميركية المتعاقبة حيال هذه القضية. وعندما سئل بايدن عن رأيه في زيارة نانسي بيلوسي قبل حصولها، اجاب أن القوات الأميركية ترى أنها “غير مناسبة” لكنه في الوقت نفسه لم يفعل شيئاً لثني بيلوسي عن زيارتها.
إدارة بايدن كررت أن رد الفعل الصيني على الزيارة مبالغ فيه. وحاولت أول الأمر تجنب مزيد من الإستفزاز للصين فأرجأت تجارب صاروخية كانت مقررة في المحيط الهادىء. لكن لم يطل الأمر حتى قرر البنتاغون قبل يومين إرسال سفن حربية لعبور مضيق تايوان وغبار المناورات العسكرية الصينية لم ينجل بعد من المنطقة، مما سيدفع الصين إلى رفع حال الإستنفار أكثر ويذكر بتحذير شي جين بينغ لبايدن في آخر مكالمة بينهما من “اللعب بالنار”.
الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي يستعد للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في تشرين الثاني/نوفمبر على الأرجح، لا يمكنه أن يدخل المؤتمر زعيماً ضعيفاً في مواجهة تايوان ومن خلفها الولايات المتحدة، أخذاً بالإعتبار ما تملكه الصين من ترسانة أسلحة متطورة من السفن إلى الغواصات والمقاتلات
وفي الوقت نفسه، يدعو المتشددون في البيت الأبيض والكونغرس، إلى تكثيف الدعم العسكري الأميركي لتايوان، والإستفادة من التجربة الأوكرانية، والبدء فوراً في إرسال أسلحة مضادة للدروع من طراز “جافلين” المضادة للدروع وتعزيز عمليات التدريب التي يقوم بها جنود أميركيون للجيش التايواني، فضلاً عن رفع الوضع الديبلوماسي للجزيرة في سياسة قد تستغلها الرئيسة التايوانية تساي إنغ-وين في توطيد عملها على خلق هوية وطنية تايوانية مستقلة عن الصين بالكامل، وهي ترفض أن يسري على تايوان مبدأ “دولة واحدة ونظامين” الذي طبق على هونغ كونغ وماكاو بعد خروج بريطانيا والبرتغال منهما.
إن أي خطأ في الحسابات السياسية والعسكرية في المحيط الهادىء اليوم سيكون بمثابة إشعال شرارة في حقل كبريت، في عالم لم يعرف بعد تلمس سبل الخروج من الحرب الدائرة في أوروبا، حتى تنشب أخرى في المحيط الهادىء.
فهل إقتربت المواجهة المؤجلة بين الولايات المتحدة والصين، أم أن الجانبين يستعرضان قوتيهما الآن، قبل العودة إلى الحوار.