عقد التسعينيات الأحادي القطبية.. حروب وإنقلابات ودماء كثيرة

فى مصطلحات العلاقات الدولية والعلوم السياسية إذا ما تمكنت عدة دول أو فاعلون سياسيون من السيطرة على المسرح الدولى من حيث امتلاك القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية وما يستتبعه ذلك من التأثير الثقافى والإعلامى على الشعوب وفرض الأولويات الاقتصادية والسياسية على أجندة المؤسسات الدولية فإن النظام الدولى يطلق عليه نظام «متعدد الأقطاب»، أما إذا كان المسيطر دولتين فقط فيطلق على النظام الدولى «ثنائى القطبية»، وأخيرا فإنه وفى حالة وجود دولة واحدة عظمى مسيطرة فإن النظام يطلق عليه نظام «أحادى القطبية».

هناك جدل كبير فى هذا الإطار عما هو النظام الأفضل للعالم، هل هو نظام متعدد الأقطاب أم نظام القطبية الثنائية أم القطب الأوحد؟ قطعا الحديث عن النظام «الأفضل» يحتاج إلى نقاش منفصل عن المقصود بالأفضلية، ولكن اختصارا ولمراعاة مساحة النشر فإن المعيار الأكثر شهرة فى تحديد الأفضلية هو توفير السلم والأمن الدوليين! بعبارة أخرى، يصبح السؤال، أى من الأنظمة الدولية الثلاثة السابقة أفضل فى توفير السلم والاستقرار الدوليين؟

***

هناك اعتقاد بين بعض الباحثين فى مجال العلاقات الدولية أن توزيع عناصر القوة بين عدة دول (التعددية القطبية)، يفرض نوعا من التوازن ويمنع من احتكار القوة بواسطة دولة واحدة ومن ثم فإنه النظام الدولى الأكثر استقرارا! لكن يختلف البعض مع هذا الطرح ويرون أن التعددية القطبية كانت أحد أسباب اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية حيث أن كل قوة صاعدة تحاول السيطرة والهيمنة فيصبح الصدام بين الأقطاب المتعددة حتميا! يرى هذا الفريق من الباحثين أن نظام القطبية الثنائية هو الأكثر استقرارا مدعمين رأيهم بعدم اندلاع حرب عالمية فى مرحلة الحرب الباردة بين القطبين الأبرز (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى)، فعلى مدى أكثر من أربعة عقود (١٩٤٩ــ١٩٩١) ــ هى فترة الحرب الباردة ــ لم تندلع حروب عالمية بسبب الردع الدولى الذى فرضه كلا القطبين على الآخر!

وأخيرا يرى فريق ثالث أن وجود قطب واحد فالتعددية القطبيةقط مهيمن هو وحده القادر على توفير الأمن والسلم الدوليين لأنه سيتصرف بحرية فى العلاقات الدولية وسيفرض قيمه ونظمه الأمنية والسياسية والاقتصادية ومن ثم يتصرف كالحكومات فى الدول المستقرة حيث تكون هناك قدرة غير متنازع عليها لهذه الحكومات على إنفاذ القانون ومن ثم تحقيق الأمن والاستقرار!

إذا قيّمنا عقد التسعينيات باعتباره العقد الأول التالى للتحول نحو القطبية الأحادية، سنجد أن الإجابة بالسلب! صحيح لم تندلع حروب عالمية، ولكن صحيح أيضا أن مقدار الدماء التى سفكت فى العديد من الحروب الثنائية والإقليمية، فضلا عن الحروب الأهلية، بالإضافة إلى ضحايا العمليات الإرهابية

انهيار الاتحاد السوفيتى كان يعنى بالفعل أننا تحولنا من نظام القطبية الثنائية إلى نظام القطب الواحد حيث تسود القيم الغربية المتحيزة لليبرالية والديموقراطية، والمفضلة للنظام الرأسمالى باعتباره النظام الواحد الحاكم للعلاقات الاقتصادية والمالية بين دول العالم، فهل وفّر هذا النظام أحادى القطبية عالما أكثر استقرارا بالفعل؟

***

نحن نعيش الآن على بعد ثلاثة عقود من لحظة التحول هذه، فهل شهدنا عالما أكثر استقرارا بالفعل من ذلك العالم الذى شهده آباؤنا وأجدادنا فى الفترة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضى؟

إذا قيّمنا عقد التسعينيات باعتباره العقد الأول التالى للتحول نحو القطبية الأحادية، سنجد أن الإجابة بالسلب! صحيح لم تندلع حروب عالمية، ولكن صحيح أيضا أن مقدار الدماء التى سفكت فى العديد من الحروب الثنائية والإقليمية، فضلا عن الحروب الأهلية، بالإضافة إلى ضحايا العمليات الإرهابية كان كبيرا بشكل لا يمكن أن يترك مجالا للجدل بأن عقد التسعينيات لم يكن سوى عقد دموى شهد المزيد من عدم الاستقرار فى الكثير من دول العالم!

فباستثناء الحديث عن سلام هش لم يستمر كثيرا فى الشرق الأوسط، وكذلك باستثناء إنهاء سياسة الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا، فإن عقد التسعينيات كان مليئا بالحروب، فبعد انتهاء حرب الخليج الثانية بتحرير الكويت، اندلعت الحروب فى جمهورية يوغوسلافيا بعد إعلان كرواتيا وسلوفينيا الاستقلال، وشهدت هذه الحرب الدموية العديد من الانتهاكات لحقوق الإنسان سواء بالمذابح أو بسياسة التطهير العرقى التى مارسها الصرب ضد أعدائهم فى الجمهورية المنهارة، ولعل أسوأ هذه المذابح على الإطلاق كان فى البوسنة والتى شهدت قتل الآلاف من المسلمين بشكل ممنهج، ولم تنتهِ هذه المأساة بشكل نهائى سوى بعد ضربة قوات حلف شمال الأطلسى (الناتو) ليوغوسلافيا وإسقاط حكم سلوبودان ميلوسوفيتش!

كذلك وقعت حربان كبيرتان بين الانفصاليين فى الشيشان وجمهورية روسيا الاتحادية شهدتا بدورهما سقوط الآلاف! كذلك فقد اندلعت الحروب فى أفريقيا لعل أبرزها تلك الحرب الأهلية التى اندلعت فى زائير (الكونغو الديموقراطية حاليا) وانتهت بخلع الديكتاتور مابوتو سيسى سيكو، وما تلاها من حرب أخرى ورطت فيها العديد من الدول المجاورة! هذا فضلا عن الحرب الإثيوبية ــ الإريترية التى أسقطت آلاف الضحايا من المدنيين والمدنيات، وإن كانت مذابح رواندا تظل الأبشع فى تاريخ أفريقيا وتاريخ العالم الحديث بأثره حينما قتل مئات الآلاف من الهوتو والتوتسى وسط صمت أوروبى ودولى كاشف عن بشاعة حسابات العالم الرأسمالى الجديد!

وفى كشمير اندلعت حرب جديدة بين باكستان والهند حينما دخلت قوات رئيس الوزراء الباكستانى نواز شريف فى مغامرة عسكرية فى كشمير المتنازع عليها مع الهند وتكبد الجيش الباكستانى خسائر فادحة مما مهد الطريق أمام برويز مشرف للانقلاب العسكرى على الحكم المدنى فى البلاد!

إقرأ على موقع 180  حرب رفح.. لترفع مصر صوتها أياً كانت الكلفة

هذا فضلا عن اندلاع العديد من الصراعات والحروب الأهلية الأخرى فى الجزائز وإثيوبيا وتيمور الشرقية، والصومال، وطاجيكستان، وأفغانستان! وحتى فى معقل القطب الأوحد اندلعت أسوأ اشتباكات عنصرية فى الولايات المتحدة وتحديدا فى ولاية كاليفورنيا بعد أن تم الإفراج عن ثلاثة من أصل أربعة ضباط تورطوا فى تعذيب الشاب الأمريكى من أصل أفريقى رودنى كينج والذى قبض عليه بتهمة القيادة تحت تأثير الكحول وتعرض للتعذيب أظهره فيديو صوّره أحد المواطنين الذين تواجدوا فى مكان اعتقال كينج بالصدفة فى عام ١٩٩١! وبعد تبرئة المتهمين اندلعت الاضطرابات التى وصلت إلى حد يشبه الحروب الأهلية مما اضطر جيش ولاية كاليفورنيا للتدخل لقمع المتظاهرين وإعادة الأمن لتنتهى الأحداث الدموية بقتل العشرات وإصابة الآلاف من المواطنين المدنيين وأغلبهم من الأقليات العرقية فى الولاية الشهيرة!

كذلك ترصد الدراسات إنه وفى الفترة بين ١٩٩٠ و٢٠٠٠ فقد وقعت ٣٣ محاولة انقلاب عسكرى على مستوى العالم طالت العديد من دول العالم مثل الجزائر وقطر وأفغانستان وسورينام وروسيا وجورجيا وهاييتى وتشاد وتايلاند والفلبين وباكستان ومالى والبيرو وفنزويلا وجواتيمالا وأذربيجان.. إلخ.

***

على مستوى الضربات الإرهابية، كان عصر التسعينيات هو عصر انتشار وتمكن الإرهاب الدولى الذى ضرب سفارات الولايات المتحدة فى نيروبى ودار السلام، وكذلك سفارة مصر فى باكستان، بالإضافة للعملية الإرهابية الأشهر لتفجير برج التجارة العالمى فى ١٩٩٣، ومهاجمة مركز لليهود فى الأرجنتين، فضلا عن تفجيرات أخرى ضربت مدينة أوكلاهوما الأمريكية ومانشستر البريطانية، وأيرلندا الشمالية، والبوسنة والهرسك!

***

قطعا لم يكن العقد الأول من عهد الأحادية القطبية مستقرا بأى حال من الأحوال، بل ربما كان واحدا من أكثر العقود دموية منذ الأربعينيات، ولكن قد يكون الربط بين عدم الاستقرار وبين سيطرة القطب الأوحد فى غير محله، كون أن معظم هذه النزاعات والحروب والصراعات قد تكون مرتبطة بتصفية حسابات فترة الحرب الباردة أكثر من كونها نتيجة لسيطرة الولايات المتحدة على الشأن الدولى، ولذلك فحتى تكون الإجابة أوضح علينا مراجعة ما حدث فى العقدين الأخيرين.

(*) بالتزامن مع “الشروق

 

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أميركا ما بعد أفغانستان.. "محاربة الإرهاب" بلا جدوى!