في تحقيق فائض القيمة، نشرته مجلة “العربي” الكويتية في تشرين الثاني/نوفمبر 1969 أن “القبائل السلافية بدأت بالتوجه نحو السهوب الروسية في القرنين السادس والسابع الميلاديين، وقبلهم كان الخزر والآفار والهون (قبائل تركية) والحيثيون (هضبة الأناضول) والقوط (جرمانيون) وفي سنة 868 ميلادية استولى امير الفايكنغ روريك (rurik) على مدينة نوفجورود، واستولى خليفته اوليغ على كييف وبعد قرن اصبح هؤلاء الفايكنيغ جزءاً من الروس”، وعلى ذلك “أصبح روريك مؤسس سلالة روريك التي حكمت روسيا حتى القرن السادس عشر”، بحسب نبذة تعريفية بالتاريخ الروسي منشورة في موقع “روسيا اليوم” في 31 كانون الأول/ديسمبر 2013.
وما بين الأعوام 1224 و1237 غزا التتار موسكو وأحرقوها، كما جاء في مقدمة كتاب “إيفان الرهيب” لستيفن غراهام الصادر عن وزارة الثقافة السورية عام 1996، وموسكو آنذاك لم تكن قد تحولت مدينة. كانت عبارة عن بلدة كبيرة وحصن وحامية، وأعيد بناؤها بعد حرقها بموافقة التتار بشرط ان تدفع جزية للغزاة، ولم ينعقد الصلح بين التتار وأمير موسكو إلا بعدما تزوج الأمير جورج بن دانيال من شقيقة خان التتار الأكبر.
ولو جرى التمعن في هذا الخليط الإثني الذي يجري في الدم الروسي الممزوج بين ما هو تركي وتتاري وهوني وحثي وجرماني واسكندنافي، لبسط السؤال العريض إشكاليته المرتبطة بالهوية الروسية الحائرة بين الشرق والغرب، وهذا ما جعل المفكرين والأدباء الروس في حيرة من أمرهم، فمن قائل بأرجحية العنصر الغربي، أو العنصر السلافي، إلى قائل بأنه “لولا تتاريا ما كانت روسيا” كما هي المقولة الشهيرة للمفكر الروسي نيقولا سافيتسكي (1895 ـ 1968) وما يقره أيضا المؤرخ وعالم الإجتماع الروسي ليف غوميلوف (1912-1992) إبن الشاعرة آنا اخماتوفا بقوله “إن الروسي هو مزيج السلافي والتركي”.. ومن هذا المزيج تبزغ فكرة “أوراسيا”.
هذه الحيرة بتحديد الهوية الروسية، كانت وما زالت تشكل دافعا خصبا لقراءة الشخصية الروسية، ومن دلالات ذلك ما طرحته مجلة “الهلال” المصرية (آذار/مارس 1932) بسؤالها “هل الإمبراطورية الروسية العظيمة التي شيّدها بطرس الأكبر قامت على تقاليد أسيوية أم أوروبية”؟
وهذا التساؤل أضافت “الهلال” إليه أمثلة أوروبية شائعة من نوع “إذا نزعت ثوب الروسي ظهر تحته التتري، أي أن الروسي في ظاهره غربي وفي باطنه تتري”، وعلى رأي “الهلال” أن “الشعب الروسي كان في خضوعه لحكامه المستبدين اقرب الى الشعوب الأسيوية منه إلى الأوروبية، وقد جاءت البلشفية فأرجعت الشعب الروسي إلى النظام الذي اعتاده”، وهذه الخلاصة لن يبتعد عنها كثيرا القائد والمفكر الشيوعي ليون تروتسكي في كتابه “تاريخ الثورة الروسية” حين يقول “القياصرة الموسكوفيون تبنوا الحكم الفردي البيزنطي” وكان “يتزايد اقتراب الدولة الروسية من الأنظمة الأسيوية التسلطية ولعبت تفاهة المدن الروسية دورا هاما في خلق دولة أسيوية الشكل والمحتوى”.
هل في ما تقدم قوله تمازج أم تنافر في الشخصية الروسية؟
هذا السؤال متروك لإجابات ما زالت عصية على الإكتمال، ولعل قراءة ما كتبه المفكر الروسي قسطنطين ليونتييف (1831 ـ 1891) بقوله “الروسي يستطيع أن يكون قديسا ولكنه لا يستطيع أن يكون أمينا” وما كتبه نيقولا بيرديائييف (1874 ـ 1948) بقوله “روسيا لا يمكن ان تُفهم بالعقل”، توجز التركيبات والمكونات المتعددة والمعقدة في تشكيل الشخصية الروسية التي تبدو عناصرها متنافرة ومتوحدة في آن.
ومهما يكن من أمر، فقد انعكس هذا التركيب في الشخصية الروسية على السياقات السياسية للقياصرة الروس، فالتطلع نحو الغرب غلب على اتجاهاتهم، وفي الوقت نفسه، عملوا على المحافظة على سلطاتهم المطلقة وغير المقيدة، وهذا ما سلكه لاحقا النظام البلشفي بعد ثورة عام 1917، فاستقدم الماركسية من الغرب وأبقى على نمط السلطة الحديدية التي كانت بحوزة القياصرة، وكل ذلك يوجب التطرق إلى ما جرت عليه العهود السياسية والتيارات الفكرية في روسيا القيصرية وما بعدها:
في عام 1797، طاف القيصر بطرس الأكبر في أوروبا، فمكث في هولندا أربعة أشهر وفي بريطانيا مثلها ومرّ على النمسا، ساعيا إلى استلهام نماذج التقدم الأوروبية، لكن هذه المساعي لم ترق للعموم ولا لرجال الدين ولا لقسم كبير من جيشه كما تقول مجلة “المقتطف” المصرية ـ اللبنانية (1 ـ 8 ـ 1913) فثاروا عليه “فقد حاول ان يجعل الروس يقتدون بالألمان والإنكليز والفرنسويين في المأكل والمشرب والملبس والعادات، وكانوا إلى ذلك الحين مثل سائر الأمم الشرقية فألزمهم أن يحلقوا لحاهم ويخلعوا الجبة والقفطان ويلبسوا السترة والبنطلون، وأتى بالرجال من ممالك أوروبا ليستعين بهم في ما هم متفوقون وأمر بترجمة الكتب من اللغات الأوروبية، وأنشأ أكاديمية كل أعضائها من الألمان والفرنسويين”.
وفي التحقيق السابق ذكره في مجلة “العربي” هناك من يقول “إن البناء الذي قام به بطرس الأكبر طلاء خارجي وإنه لم يحمل الروس على التشبع بالروح الأوروبية وإنما شوّه القومية الروسية”، إلا أن المفكر والناقد الروسي المعروف فيسارون بيلينسكي (1811ـ 1848) يعتبر “ان عناية بطرس الأكبر بالمظاهر الخارجية مثل تغيير الملابس وحلق اللحى كان ضروريا، وبطرس الأكبر لم يهدم الروح القومية بل طوّرها، وأنقذ روسيا من التخلف الأسيوي والهمجية التترية، وحالما فتح بطرس الأكبر أبواب روسيا لمؤثرات الغرب أخذ ينقشع ظلام الجهل”.
والمثير للدهشة كما يقول المؤرخ السوفياتي بوغانوف في كتابه “حياة بطرس الأكبر” الصادر عام 1990 عن دار “التقدم” في موسكو أن بطرس الأكبر في تطوافه الأوروبي “حمل معه ختما من الشمع كتب عليه أنا طالب أبحث عن معلمين، ولم يكن القيصر يخشى صراحة القول بأنه شخصيا والبلد الذي يقوده قد تخلفا كثيرا عن البلدان المتقدمة في أوروبا”.
وبعد موت بطرس الاكبر خلفته زوجته كاترين الأولى لسنتنين، فبطرس الثاني لثلاث سنوات ثم آنا ايفانوفنا وفي ايامها علت كلمة الألمان في بلاط روسيا وصارت بلاد الروس مغنما لهم. ويقول نخلة قلفاط في الجزء الثاني من “تاريخ روسيا الحديث” الصادر في بيروت عام 1886 عن آنا ايفانوفنا “مما زادها حذرا من الروسيين وكُرهاً فيهم ما كان وقع منهم بتقييد سلطتها، ولهذا أرادت ان تحيط ذاتها بجماعة من الألمان فتسلم إلى يدهم الأمور الأولى في كل الخطط العالية، وهكذا أصبحت كل غاياتها أن يتقدم الألمان في بلادها وتسلطهم على أحسن المراكز فيهما فحكّمتهم بالأهالي الوطنيين كالأسياد بالعبيد”.
بعد وفاة آنا ايفانوفنا عام 1740 دبّ الخلاف بين “الحزب الألماني” في روسيا وكبار النافذين الروس، ثم اختلفت الجماعة الألمانية، ولم تكن فرنسا بعيدة عن ترقب الأحداث وفي الوقت ذاته الإتصال بالأميرة اليزابيت فتولت الأخيرة العرش عام 1741، فأفل نفوذ ألمانيا وعلا نفوذ فرنسا، وعلى ما يكتب نخلة قلفاط “كان السفير الفرنسي منظورا إليه كمخترع لهذه الثورة، وكان يأتيه ضباط الحرس يقبلون يديه ويدعونه بأبيهم” وفي عهد اليزابيت أنشىء “مجلس علماء الآداب في بطرسبورغ وجيء بمدرسين فرنسويين وذهب كثيرون من أولاد الأمراء الروس وأعيانها إلى فرنسا ودخلوا مدارسها”.
جاء بطرس الثالث بعد رحيل اليزابيت، وسعى الى اعادة النفوذ الالماني وقيل انه لم يكن مواليا لروسيا لإعتناقه المذهب البروتستانتي، “وكان يغير من عوائد الجيش وتعليمه ولباسه قاصدا تشبيهه بالجيش البروسي وكان يحلف بإسم ملك بروسيا ـ المانيا ـ وأعاد اليها كل الأملاك التي اخذتها روسيا وحالف ملكها فريدريك الكبير وفي حفل عام وأمام الملأ قال نشرب نخب رئيسنا” (مجلة “المقتطف”، تشرين الثاني/نوفمبر 1913) قاصدا بذلك ملك بروسيا.
كان لبطرس الثالث زوجة من أصل ألماني، قيل إنه تزوجها بتدبير من ملك بروسيا حين كان في السابعة عشر من عمره، تلك هي كاترين الثانية، التي انقلبت على زوجها فخلعته عن العرش وقطعت دابر الألمان في روسيا وتناغمت مع الفرنسيين إلى حدود التماهي، ومنذ أن تزوجت بطرس الثالث “تقصدت ان تتسلط على البلاد، فتعلمت اللسان الروسي وأتقنت اللغة الفرنسية”.
وعندما شكّلت كاترين الثانية لجنة لسن القوانين كتبت للفيلسوف الفرنسي فولتير قائلة “كم ستكون سعيدا اذ ترى هذه اللجنة حيث الأرثوكسي يجلس بين الإسرائيلي والمسلم ويستمعون إلى وثني والأربعة يتفاوضون لكي يجعلوا آراءهم مقبولة لدى الجميع”. وفي عهدها “كثر الإهتمام باللغة الفرنسية وآدابها، وترجم الكتاب الروسيون مؤلفات الكتّاب الفرنسويين، وصار علماء روسيا وأدباؤها يباهون بمراسلة أدباء فرنسا، وكانت الإمبراطورة أشد رغبة من شعبها في مجارة الفرنسويين ومراسلة علمائهم وأدبائهم”، وفي عهد كاترين الثانية “كان نفوذ عظيم للمعارف الفرنسية حتى قيل إن غشاء دقيقا من العلم الفرنساوي كاف لأن يصون التمدن الروسي”، وحين اندلعت الثورة الفرنسية عرضت كاترين الثانية على انكلترا والنمسا إرسال آلاف الجنود من الدول الثلاث لإخماد شعلة الجمهورية التي رفع راياتها الثوار الفرنسيون، استنادا الى ما ورد في “المقتطف” و”تاريخ روسيا الحديث”.
توفيت كاترين الثانية سنة 1796، وغدت معروفة بكاترين العظيمة، واعتلى العرش بعدها بولس الأول إلى عام 1801، وكان شديد الإعجاب بنابوليون بونابرت، وحين قُتل بولس الأول خلفه إبنه ألكسندر الأول، فسعى الى التقرب من الإنكليز في بداية عهده، فأغاظ الفرنسيين بذلك وأحنقهم عليه، خصوصا بعد إحاطة نفسه بمجموعة من المستشارين المنجذبين إلى النموذج الإنكليزي على الرغم من ان وزيره الأول ميخائيل سبيرانسكي كان من المسترشدين بالنموذج الفرنسي، مثلما يجمع المؤرخون ومنهم محمد فؤاد شكري في الجزء الثالث من كتابه “الصراع بين البرجوازية والإقطاع”، وتعمقت الفجوة بين فرنسا وروسيا إثر إبرام ألكسندر الأول حلفا عسكريا مع ممالك أوروبية عدة ودخول الجيشين الروسي والفرنسي في منازلات ومعارك شتى، وإذ حاول الروس والفرنسيون ترميم عوامل الثقة بينهم عبر زواج نابوليون بونابرت من شقيقة الكسندر الأول، فإن سقوط هذا التفاهم ادى إلى إسقاط مجمل محاولات إصلاح الأحوال بين روسيا وفرنسا، وفي عام 1812 غزت الجيوش الفرنسية الأراضي الروسية ودخلت إلى موسكو، ثم انسحبت من روسيا مهزومة.
أيقظ الغزو الفرنسي لروسيا شعورا قوميا لم تكن عناصره واضحة او مكتملة قبل ذلك، وليس من العبث أن يقال إن هذه الغزو أفضى إلى اكتشاف روسيا لنفسها وهويتها، ولذلك لم يكن ظهور الشاعر الكسندر بوشكين (1799 ـ 1837) ضربا من ضروب الصدفة بعد هذا الغزو، فقصائد بوشكين المصنفة كفعل تأسيسي للأدب الروسي لما احتوته من روح وطنية ورفعة الجودة والإتقان أنتجتها بيئة ما بعد الحرب النابوليونية على روسيا، وكذلك هي الحال مع المؤرخ نيقولاي كارامزين (1766 ـ 1826) الذي وضع مؤلفا تاريخيا موسوعيا بعنوان “تاريخ الدولة الروسية”.
ولكن هذه الحرب لم تدفع الروس إلى بناء جدران القطيعة مع الغرب ومؤثراته الثقافية والعلمية، وإنما دفعت لبروز تيارين، التيار السلافي أو السلافوني والتيار الغربي، والمنعطف الأول لظهور هذين التيارين، تمثل في مرحلة ما بعد “ثورة الديسمبريين” التي اندلعت في الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 1825، متأثرة بالأفكار الأوروبية والفلسفة الفرنسية، وحولها يقول تروتسكي “بدأ تحويل مظهر البلاد وفق الصورة الأوروبية في عهد بطرس الأول، ثم أصبح هذا التحويل في القرن التالي ضرورة بالنسبة للطبقة المسيطرة، وفي عام 1825 عمم مثقفو النبلاء هذه الضرورة بإتجاه سياسي، فتوصلوا إلى حركة عسكرية تستهدف تخفيف حدة السلطة الفردية وتأثرت العناصر المتقدمة من النبلاء بدفع البرجوازية الأوروبية المتطورة”.
القيصر نقولا الأول ورث عرش روسيا عام 1825 حتى 1855 وكانت “إحدى اعتناءات القيصر الأولى أنه أقدم على إنشاء القوانين والشرائع الروسية التي رسمها أسلافه ووضعوا أسسا لها فبطرس الأكبر مع مساعدة شرائع جرمانيا، وكاترين الثانية مع جمعيتها الشرعية ـ الفرنسية ـ وألكسندر الأول مع ميوله البونابرتية وقد رتبها سبيرانسكي، ولكن نقولا وجد من الصواب أن يجمع شتات المواد إلى بعضها”، وهذا ما سيقوله سليم بقعين في “تاريخ آل رومانوف” ويزيد عليه “أن النابغة سبيرانسكي وبعد تعب 7 سنوات وضع 45 مجلدا جمعها من القوانين الموضوعة في أزمان مختلفة”.
وفي عهد الكسندر الثاني الذي اغتيل عام 1881، شاعت التحزبات الفلسفية المتأثرة بالفلسفات الغربية، وبمختلف الأحوال، فروسيا انشقت إلى تيارين منذ ما قبل منتصف القرن التاسع عشر، تيار الحداثة الغربي وتيار السلافيين الروس، وقد تمثلا في شتى الأجناس الفكرية والأدبية والسياسية، واستمرا حتى سقوط النظام القيصري عام 1917، فهل أنهت البلشفية انشطار الهوية الروسية؟ وماذا في تعقيدات ما بعد البلشفية؟
في الحادي عشر من آب/اغسطس الحالي، نقلت وكالة “الصحافة الفرنسية” عن أولغا أندريفا، الكاتبة في مجلة “اكسبرت” الأسبوعية الروسية المحافظة، قولها “إن الصراع بين القوميين السلافيين والموالين للغرب، هو صراع أبدي، وهما مدرستان فكريتان في روسيا منذ القرن التاسع عشر”.
في الختام عن بطرس الأكبر؛
في عدد مجلة “العربي” الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر 1969، مقطع من الشعر الروسي القديم، يقول الآتي:
كانت روسيا ملفوفة في غياهب الظلام لعدة سنوات
قال الله: ليكن بطرس
فكان الضوء في روسيا.