قبرُنا العربي.. وثقافة الخنازير!

انها لعقوبة فادحة ان نعيش في هذا الزمن، وفي هذا الربع العربي الخالي. كأننا منذورون للتخلف والضياع. هل نستحق هذه العقوبة؟ الأوبئة السياسية متفشية. البحث عن مستقبل مستحيل.

منذ مئة عام أو أكثر قليلاً، كانت الخريطة العربية، من المحيط الى الخليج، على موعد مع الحرية والعدالة والتقدم والعلم. كُتَّاب ورُوَّاد تلك البدايات، من عبد الرحمن الكواكبي، الى محمد عبده، وشبلي الشميل وفرح انطون وأديب اسحق و.. سلسلة من المفكرين، هؤلاء جميعاً، رسموا الطريق الى الحرية والعدالة والمساواة، ودعوا بحرارة وإيمان الى تغيير المجتمع بالمعرفة. لكن ذلك انطفأ. فالتغيير السياسي لا يتم بالمعارف فقط. كان التخلف اقوى من العقلانية وأشرس من الرجعية واشد فتكاً من الاستعمار. والتخلف في بلاد تعيش ماضيها، وتتوغل فيه، وتستدعيه ليكون الركيزة، يمهد الطريق للنكوص والتعصب والتخلف.

“ابناء الماضي”، يؤلهون السلف. يتحول الدين الى صنم. يصير تقليد الماضي هو المستقبل. ولا يتم ذلك بالتبشير والتبصير، بل بالقوة والعنف. أنتج ابناء الماضي، جماعات متناسلة دينياً ومذهبياً وتيارات رسّخت في العقول والنفوس، ثقافة النسخ والتدجين والقبول والاجترار، وفرضت ذلك بالقوة عبر اشهار سيف التكفير، فيصبح النص سيفاً وقمعاً وتشنيعاً. وهكذا تتسيد ثقافة النفي والقمع، وتتحول الجماعات المتخلفة الى ممارسة القمع علناً، واشد انواع القمع “اقناع” الاتباع بالعنف. وهكذا بدل ثقافة المجتمع، تسود ثقافة تأييد البدع الدينية.

العدو ليس خارجياً دائماً. الاستعمار ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بامتياز. هذا ليس جديداً. تاريخه ملوث. الاجرام والقتل والابادة والتحقير، هي مرتكزات وجوده. الاستعمار فوقي، آمر، لا يقيم وزناً للقيم. وليس غريباً ان نكتشف ان الغرب، عندما استقبل الحداثة وانطلق منها الى تأسيس عالم جديد تسود فيه الحرية والديموقراطية والعدالة، في مطلع القرن التاسع عشر، هذا الغرب “الحديث”، حسَّن شروطه الاجتماعية، وأفلت جيوشه لغزو افريقيا وتدميرها، ولغزو الهند، ولاحتلال كل أرض رخوة.. الغرب، يكذب دائماً. لا يصدق الا مع نفسه. نحن ضحايا غرب كاذب، شرس، مدعٍ، متعالٍ. إنه يمثل أحقر مرحلة في تاريخ البشرية. حروبه تبرهن على ذلك. ولقد اصابنا من هذا الغرب الكثير: كيانات على قياس طوائف، ممالك، امارات وعائلات.. الغرب ضد الشعوب كان ولا يزال. هو مع “دول” مُطيعة. والطاعة تعني، أن تتسلط القوى المحلية الرجعية والسخيفة، على الشعوب. الغرب، يكره الشعوب. هو لا يريد تحديثاً في العمق، في البنية، في الثقافة. هو يريد مخلفات حاكمة. (فتشوا عن حكامنا وضعوا صفاتهم امامكم). كل الرجعيات والامارات والكيانات الحاكمة، تحظى برعاية الغرب. وكل من يتجرأ على غير ذلك، مصيره الحصار والحروب الاهلية.

في هذا المدى. الدين ليس بخير ابداً. انه دين مأزوم، لأن المذهبية والطائفية والتسيس، اصبحت العقيدة الغالبة للأكثريات والاقليات، الشعوب العربية تعاني ابشع اضطهاد. ولا فسحة ديمقراطية تتسلل الى جسد هذه الجثة العربية.. انتهى زمن عظمة الدين عندما اسس حضارات ومقامات فكرية. الدين اليوم، في اقصى درجات الرجعية

مئة عام من نفوذ الغرب، ادت الى احتلال العقل العربي، الذي تمذهب “بالواقعية”، وتعلق بذيل الغرب، وهو الآن يبرر الاحتلال والعنف، ويحاول ان يصطف الى جانب “اسرائيل” التي هي جريمة الغرب ضدنا. نعم، لولا الغرب الاستعماري لم تنشأ “اسرائيل”. “اسرائيل” هذه مشروع غربي استعماري، وكل من يقول غير ذلك يعفي الغرب من أفدح جرائمه.

رسّخ الغرب “اسرائيل” يهودية، واسرائيليات عربية. وهي كلها تسير بهدى اوامر ومصالح الغرب. الثقافة المصاحبة، هي ثقافة الاستهلاك، ثقافة الحرمان الانساني. ثقافة السلعة. كل القيم والاحداث، تتحول الى سلع.. معظم “دولنا”، من زمان التأسيس الى يومنا هذا، رجعية، بوليسية، ضد الحرية على طول، ضد التفكير دائماً، ضد المواطن ابداً. انها في معظمها دول ثرية، ليس بإنتاجها، بل بما في بواطنها. الغرب يغض الطرف عن العنف السلطوي. القمع المذهبي مسموح. تحريم الكلام فضيلة ونعمة. تحريم الفكر ضروري. انها فلسفة قتل الانسان واحياء الانسان المستهلك، بشروط الاخضاع والتبعية. وهكذا، النظام المثالي للغرب، والانسان المثالي، هو “الانسان الببغاء”.

والبديل عن ثقافة التغيير والابداع والأنسنة والقيم، هو الانسان المستهلك. او الانسان الفاقد لإنسانيته. وعليه، الانسان العربي، في بلاده (وهي ليست بلاده) انسان يشتري، لا يصنع ولا يزرع. يستورد. يتباهى بالماركات العالمية. انهم اولاد سوق ومن الفحول كذلك. الفحولة العربية تنام في فراش الرأسمالية الاحتكارية القاتلة، وتنجب جيوشاً من المستهلكين. وبهذا يتحول العربي الى انسان، يعقد حذاءه وربطة عنقه ويداوم على التبجح بآخر موضة. هذه كائنات مدعوسة.

التدين السياسي، عربياً، أنجب الكوارث.. والتغرب العربي أعاد العربي الى قوانين الغاب. لقد سماها المفكر كارليل، “فلسفة الخنازير”. وعليه، فإن وجود الفقراء يصير ضرورياً في كل مجتمع.. تباً لهذا العصر.

فشلت الحركات الدينية، بكل وجوهها وتنظيماتها، في أن تؤسس مجتمعاً. لا اكراه في المجتمع. لا اكراه في الدين، تحولت الى عملية اكراه وبالقوة. الارهاب المتعدد والمتناحر والقاتل والمقتول دمر المجتمع. الغرب جمَّد تغيير المجتمع. اراده سلعة. تم له ذلك. الفرق الدينية، في معظم فروعها، اغرقت المجتمع بالأحقاد والفتن والقتل ومعظم ضحايا التدين السياسي هم دينيون اساساً.

إقرأ على موقع 180  الصين تتحصن بالتكتلات.. الإقليمية

منذ مئة عام، كانت الجغرافيا العربية، على وعد الحرية (التحرر) وعلى وعد الدولة – الوطن، وعلى مفترق ان ترسم شخصيتها وتدعم مصالحها وتوفر للإنسان العربي منصة عقلانية، تُرسّخ مفهوم المواطنة، والوطن، والنظام، والانتاج، والمعرفة، وكل ما يحتاجه المجتمع، ليصير معبراً عن روح الجماعة ومصالحها المادية والنفسية. لم يحصل ذلك. انما، تحولت الجماهير العربية، على الاحزاب العقائدية والعلمانية واليسارية. لم توفق هذه الاحزاب، في مسيرتها، اذ سبقتها القوى العسكرية الانقلابية، بادعاء تحرير فلسطين، وتحرير المواطن، وتأصيل الانتاج، وتعميم العدالة الخ..

صدّقت الجماهير القيادات العسكرية، الحزبية واللاحزبية. وسرعان ما انصرف العسكر الى اعتقال شعبه. الحرية خطر. العدالة “انسوها”. التفكير وباء وشر فاجتنبوه. القائد المفكر والمخطط وهو “الجماهير”.

دشّنت هذه القوى العسكرية، في مصر وسوريا والعراق والسودان وليبيا والجزائر، ثقافة التحريم. تحريم الكلام والحرية. الصمت منجاة. تحريم الاعتراض. هذا الاعتراض ابن مؤامرة. العسكري يحبك المؤامرة وينسبها الى الناس. الى المعارضة. الى المثقفين. يتم تحريم الابداع والمحاسبة والنقاش.. الإملاء أفضل. الإملاء اشد وقعاً من الوحي. لم يتحقق أي انجاز من مغامرات العسكر في السلطة. الذي انقلب من الايديولوجيا الى الإرهابولوجيا. وداعاً فلسطين. وداعاً للحرية. وداعاً للدولة. ان العالم العربي، قديماً وحديثاً، هو سجن كبير. بل هو قبر، يشبه قبور دول الممالك والامارات.

صمت غريب يلف العالم العربي. كلامه لا يخصه. هو مشغول بالقضايا الاممية الكبرى. نيويورك، واشنطن، باريس، لندن، اوكرانيا، تايوان، الصين، روسيا.. انه عالم يسترشد بالدولار والتدين كزينة المفلسين اخلاقياً. لكن ذلك كله لا يخفي ان العالم العربي مأزوم. مخنوق. يعيش على بركة الدول العظمى، الناظمة للشعوب الاخرى، مصائرها.

في هذا المدى العربي – اللاعربي، العنصرية تتفشى. حروب الاقليات تتنازع الساحات (لبنان، سوريا، العراق، مصر، السودان، اليمن، الصومال، المغرب الخ) والطائفية والمذهبية تجسيد فظ للعنصرية.

في هذا المدى. الدين ليس بخير ابداً. انه دين مأزوم، لأن المذهبية والطائفية والتسيس، اصبحت العقيدة الغالبة للأكثريات والاقليات، الشعوب العربية تعاني ابشع اضطهاد. ولا فسحة ديمقراطية تتسلل الى جسد هذه الجثة العربية.. انتهى زمن عظمة الدين عندما اسس حضارات ومقامات فكرية. الدين اليوم، في اقصى درجات الرجعية، يتقلب وفق اهوائه ومصالح دعاته. وهؤلاء “يحلفون بالله ومرجعهم الله ودليلهم الله. تبا، هذا كذب ونفاق”.

مئة عام وأكثر، انفقناها، الاهتراء هو السائد، لا قناعة ابداً بأن أمن ممالك النفط هو دليل عافية. الامن الذي يقوم على اسكات الناس، هو نتاج جبن وكذب. هذه الكيانات هي التي روّجت الشعار التالي:

“الانسان المثالي، هو الانسان الببغاء”.

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لبنان مسلخ، لعنة.. جلجلة بلا قيامة!