حرفة حماية الدول من السقوط.. هل تسري مصرياً على لبنان؟
Arab League Secretary General Ahmed Abul-Gheit (L) welcomes Lebanese President Michel Aoun at an Arab League meeting in Cairo on February 14, 2017. / AFP / STRINGER (Photo credit should read STRINGER/AFP via Getty Images)

لم تبلغ مساحة الدور المصري في لبنان مداها الحالي، إلا في سني ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية. بعد توقيع إتفاق كامب ديفيد، إتسمت السياسة المصرية بالإنكفاء، قبل أن تبدأ بإستعادة حضورها منذ حرب الخليج التي أدت إلى تحرير الكويت في العام 1991.

قبل أن يعتلي الملك سلمان سدة العرش السعودي في العام 2015، كانت المملكة تحرص على صيانة دورها اللبناني. دورٌ تقدم لبنانياً على مثيله السوري، غداة مقتل رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في شباط/ فبراير 2005 وإنسحاب الجيش السوري من لبنان في ربيع العام نفسه. حدثان متتاليان أفسحا أمام توغل السعوديين في التفاصيل اللبنانية الدقيقة، من خلال عبدالله بن عبد العزيز، ولياً للعهد ومن ثم ملكاً.

وليس خافياً على أحد أن المملكة لعبت دوراً بارزاً في صياغة “التحالف الرباعي” الذي أعاد إنتاج أول سلطة في لبنان في مرحلة ما بعد الوصاية السورية. كان الأميركيون والفرنسيون شركاء بارزين للمملكة في إدارة الملف اللبناني دولياً، ولم يكن يقارعهم سوى الإيرانيون الذين إستفادوا أيضاً من الإنسحاب السوري ومن إزدياد نفوذ حزب الله السياسي والعسكري والأمني، فصار حضورهم وازناً ومقرراً.

وعندما صاغ السعوديون والإيرانيون “إتفاق الرياض” (نهاية 2005)، كان “الفيتو” الأميركي ـ الفرنسي كفيلاً بإسقاطه بأدوات لبنانية. شكل فؤاد السنيورة ووليد جنبلاط، وقتذاك، رأس حربة المُنقلبين على هذا الإتفاق، قبل أن ينجح رئيس مجلس النواب نبيه بري في إعادة دق ابواب المملكة في العام 2007، فيزورها ويفتح الباب أمام زيارة مماثلة لوفد من حزب الله برئاسة الشيخ نعيم قاسم، لكن سرعان ما تبددت مفاعيل الزيارتين بفعل ضغط دولي (أميركي فرنسي)، جعل فريق 14 آذار يكبّر رهاناته على الخارج، إلى أن وقعت الواقعة في السابع من أيار/ مايو 2008.

في تلك اللحظة المفصلية من التاريخ اللبناني الحديث، بادرت السفارة المصرية في بيروت، وكان على رأس بعثتها السفير حسين ضرار يعاونه فريق من ضمنه القنصل (السفير الحالي) الدكتور ياسر علوي، إلى محاولة تبريد بعض الرؤوس الحامية في محيط رئيس تيار المستقبل سعد الحريري في زمن قصر قريطم. طلب المصريون من بعض مساعدي الحريري أن لا يكونوا أسرى أوهام من نوع القدرة على مواجهة حزب الله من خلال ظاهرة تفريخ “الشركات الأمنية”، وقدموا من المعطيات ما يشي بأن حزب الله قادر على السيطرة على بيروت ولبنان في أقل من 24 ساعة، وهذا ما حصل، ولكن في غضون ساعات قليلة فقط!

منذ العام 2008 حتى يومنا هذا، تعمق حضور الدبلوماسية المصرية في الواقع اللبناني. فقد لعب المصريون دوراً بارزاً، بشراكة مع عواصم عربية وإقليمية وغربية، في تزكية قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، حتى أنهم تدخلوا وقتذاك في لون الورق الذي زيّن علب الشوكولا التي وضعت للضيافة في القصر الجمهوري، وفي البرادي التي تم تغييرها في الجناح الخاص برئيس الجمهورية في بعبدا!

ومنذ نهاية العام 2010، وتحديداً مع بدء مواسم “الربيع العربي” من تونس إلى القاهرة وليبيا واليمن وسوريا، إنهمكت القاهرة (الثورة) بنفسها، إلا أن ذلك الإنشغال لم يدم طويلاً. تراكمت الملفات المتصلة بالأمن القومي المصري، من ليبيا عند الخاصرة الحدودية الغربية إلى غاز المتوسط عند الخاصرة الشمالية، مروراً بسيناء (البعدان الإسرائيلي والتكفيري) عند الخاصرة الشرقية وصولاً إلى الخاصرة الجنوبية الأكثر حساسية لإتصالها بملف سد النهضة بكل تداعياته وإرتداداته على أمن مصر القومي وعنصره الأكثر حيوية، أي نهر النيل.

ياسر علوي صاحب شخصية كاريزماتية قادرة على نسج صداقات لبنانية، عامودياً وأفقياً، وفي قطاعات السياسة والأمن والإقتصاد والثقافة والإعلام والفن، ناهيك عن شبكة من العلاقات الدبلوماسية التي جعلت مصر تحتل مرتبة متقدمة على صعيد الحضور الدبلوماسي العربي والدولي في بيروت

تميزت مقاربة مصر عن غيرها من الدول العربية، بإرساء قواعد للتعامل مع الوضع العربي، لم يكن من السهل تفسيرها أو تبريرها أو فهمها. على سبيل المثال لا الحصر، لم تتردد القاهرة في تبني أولوية الحفاظ على الدولة السورية، بكل رموزها، منذ اللحظة الأولى لإندلاع الأزمة السورية. لذلك، بذلت مصر جهدا دبلوماسياً إستثنائيا لإرساء قواعد للتسوية السورية، أبرزها الحفاظ على الدولة ومؤسساتها وعدم تكرار تجارب كتلك التي حصلت في ليبيا بعد الإطاحة بمعمر القذافي أو في عراق ما بعد الإطاحة بصدام حسين. رفضت مصر التدخل عسكرياً في حرب اليمن برغم الإغراءات التي قدمها إليها الخليجيون. دعم الدولة الوطنية هو العنوان في سوريا والعراق واليمن وفي كل بلد عربي آخر. يسري ذلك أيضاً على لبنان. ندر أن يتدخل المصريون بوصفهم وكيلاً لطائفة أو مذهب. تكاد تخريجة دار الفتوى التي أمنت خروجاً آمناً للمفتي الشيخ محمد رشيد قباني ودخولاً سلساً للمفتي الحالي الشيخ عبد اللطيف دريان (2014)، هي الظاهرة الأكثر نفوراً على صعيد الدور المصري “المذهبي” في لبنان. ما عداها، إستطاع المصريون أن يؤمنوا جسور تواصل مع مختلف الشرائح والحساسيات اللبنانية، من دون إستثناء.

بطبيعة الحال، تلعب شخصية السفير في اية بعثة دبلوماسية دوراً في توسيع مساحة الحضور الدبلوماسي أو تقليصه، بمعزل عن إسم الدولة، فكيف مع مصر التي تجد نفسها دائماً مضطرة للتواضع إزاء إلحاح اللبنانيين عليها بأن تستعيد دورها العربي وحضورها اللبناني، وفي ذلك حنين لبناني إلى زمن ناصري إنقضى، فمصر عبد الفتاح السيسي ليست مصر جمال عبد الناصر ولا مصر حسني مبارك أو أنور السادات.

إقرأ على موقع 180  فساد لبنان.. ليس كمثله دماراً

يكاد السفير ياسر علوي يشكل خياراً إستثنائياً للدبلوماسية المصرية في لبنان، فهو صاحب شخصية كاريزماتية قادرة على نسج صداقات لبنانية، عامودياً وأفقياً، وفي قطاعات السياسة والأمن والإقتصاد والثقافة والإعلام والفن، ناهيك عن شبكة من العلاقات الدبلوماسية التي جعلت مصر تحتل مرتبة متقدمة على صعيد الحضور الدبلوماسي العربي والدولي في بيروت، بالإستفادة من إنكفاء آخرين، أبرزهم السعودية والإمارات، فضلاً عن سوريا التي تراجع حضورها اللبناني ولو أنه لم ينتف كلياً.

ويكاد ياسر علوي أن يكون لبنانياً بعد تجربة أكثر من خمسة عشر عاماً من السباحة في البحر اللبناني، أو في هذا المستنقع الطائفي والمذهبي اللبناني الذي لا شفاء منه.

ومنذ إنطلاق المبادرة الفرنسية في آب/ أغسطس 2020، حتى يومنا هذا، أصبح المصريون الشريك الأول لفرنسا في لبنان، تماماً كما هم شركاء لها في ليبيا ومنتدى القاهرة (الغازي) المتوسطي، وفي العديد من الصفقات العسكرية، ذلك أن باريس هي المورد الرئيسي للسلاح إلى مصر، حتى أنها رفضت أن تتجاوب مع كل دعوات شركائها الأوروبيين لتقييد وتجميد صفقات عسكرية للقاهرة بحجة إنتهاك حقوق الإنسان.

ومنذ أن أصبحت المبادرة الفرنسية هي الصحن اليومي للسفراء كما لمعظم السياسيين اللبنانيين، صارت القاهرة وباريس على تواصل يومي من خلال بعثتيهما في بيروت والدائرتين الفرنسية (في الكي دورسيه) والمصرية (في القاهرة) المعنيتين بشؤون العالم العربي، فضلاً عن تقديم إحاطات دورية إلى وزيري الخارجية في كلا البلدين.

مصر ليست مقطوعة الصلة عن ركيزتين فرنسية وعربية، وهي تبدو معنية اليوم بتقديم جواب: هل التسوية اللبنانية ممكنة أم أن الإرتطام الكبير صار حتمياً وأي خيار من الإثنين أكثر ملاءمة للأمن القومي المصري؟

في هذا السياق، تأتي زيارة وزير خارجية مصر سامح شكري إلى بيروت حيث يلتقي رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة المُكلف سعد الحريري والبطريرك الماروني بشارة الراعي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي يبدو أكثر إهتماماً من غيره بتزخيم “المبادرة الفرنسية” ولو إستلزم الأمر إدخال تعديلات عددية وسياسية عليها، يلاقيه بالحماسة إياها للمبادرة المصرية رئيس مجلس النواب الذي كان حريصاً دائماً على إبقاء خطوطه المصرية مفتوحة، بما يتعدى الدولة إلى بعض النخب المصرية.

وليست هذه المرة الأولى التي تبرز فيها ملامح التنسيق الفرنسي المصري حيال الوضع في لبنان، اذ ان المراحل الأولى من اطلاق المبادرة الفرنسية في آب/ أغسطس الماضي كانت شهدت تناغما مماثلا بين باريس والقاهرة حيال لبنان، من دون إغفال المساعدات التي قدمتها الحكومة المصرية للبنان، منذ إنفجار مرفأ بيروت حتى يومنا هذا، وذهب جزء كبير منها إلى مؤسسة الجيش اللبناني.

السؤال الأساس يتركز على الوجهة التنفيذية لترجمة حراك القاهرة نحو لبنان وفيه، في حين أن عناصر فقدان الثقة تتراكم بسرعة بين الرئيسين عون والحريري اللذين يستدعيان عناصر قوة خارجية إلى داخل لا يني يتفكك ويتصدع بسرعة ضوئية. وعلى الرغم من التشابك اللبناني الكثيف، فان الدور المصري المتعاظم يهدف في الأساس إلى محاولة كسر حلقة التعطيل ليس للمشهد الحكومي بل لمسار وضع لبنان على سكة التعافي الإقتصادي والمالي التي تحتاج إلى سنوات من الخطط والبرامج (صندوق النقد) والموازنات التقشفية القاسية،

وهذه الاندفاعة المصرية، وإذا كان أساسها السياسي الخوف المتنامي على الاستقرارين الأمني والإجتماعي، إلا أنها تعكس في المقابل مؤشرات مبدئية وراجحة إلى عودة نوع من الإهتمام العربي الذي لطالما كان مفقوداً في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد إنكفاء مملكة محمد بن سلمان عن لبنان (منذ خريف 2017) ونأي العديد من الدول بنفسها عن لبنان.

وإذا كان أي تدخل لدولة في شؤون أخرى يعكس هشاشة الثانية، لكن ما يبعث على شيء من الارتياح للحضور المصري هو أن القاهرة لم تدخل على خط الأزمة اللبنانية نصرةً لفريق على آخر، إذ لطالما حرصت في علاقاتها المتوازنة على أهمية حفظ الدولة ومؤسساتها. هكذا كان موقفها يوم “فازت” قوى١٤ آذار اثر اسقاط حكومة الراحل عمر كرامي في العام 2005. يومها وقف رئيس المخابرات المصرية اللواء عمر سليمان معترضاً على إسقاط رئيس الجمهورية العماد إميل لحود مستقرئاً معنى سقوط الرؤساء في الشارع وحذر من domino effect، وبالتالي، ليس صحيحاً ما قيل عن خط أحمر رسمه البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، وهذا ما يعرفه جيداً وليد جنبلاط وباقي رموز “ثورة الأرز”، فالدولة العميقة في مصر تعرف بالخبرة والتراكم حرفة حماية الدول من السقوط.

مصر المتحركة على الساحة اللبنانية إذا كانت حركتها منسقة مع الإماراتيين والسعوديين شيء ومن دونهما شيء آخر. بكل الأحوال، مصر ليست مقطوعة الصلة عن ركيزتين فرنسية وعربية، وهي تبدو معنية اليوم بتقديم جواب: هل التسوية اللبنانية ممكنة أم أن الإرتطام الكبير صار حتمياً وأي خيار من الإثنين أكثر ملاءمة للأمن القومي المصري؟

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  أثيوبيا تقفز فوق الحواجز.. فهل تُشعل حرب مياه مع مصر؟(3)