بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، انضم الإتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة وغيرها في فرض عقوبات وحظر على الغاز الطبيعي الروسي، برغم أن العديد من دوله يعتمد على واردات الطاقة الروسية. وهذا ما أدَّى إلى إرتفاع الأسعار بشكل جنوني، وأصبحت تكاليف المعيشة مرهقة بالنسبة للعديد من الأوروبيين. بعض الحكومات الأوروبية سعت بالفعل لإجراءات من أجل تقليل استهلاك الطاقة، مثل: الحدّ من استخدام مكيفات الهواء في المباني العامة، مطالبة المتاجر بإطفاء أنوارها بين عشية وضحاها. لكن الأزمة ستزداد سوءاً، وعلى الحكومات أن تسعى جاهدة للإستعداد لشتاء سيكون قاسياً للغاية.
يركز صُنَّاع القرارات السياسية في جميع أنحاء الإتحاد الأوروبي على مبدأ دعم الإمدادات الوطنية. وقد أبرمت دول الإتحاد صفقات ثُنائية لتأمين الطاقة من مزودين بديلين، بما في ذلك الجزائر وكندا وقطر. والآن، تبحث الحكومات في كيفية إنشاء خطوط أنابيب لنقل الغاز عبر دول جنوب ووسط أوروبا. كما يفكر المسؤولون الأوروبيون بجدية في كيفية جعل بلدانهم أكثر كفاءة في استخدام الطاقة. ففي تموز/يوليو الماضي، وافق مجلس الإتحاد الأوروبي على خطة لتوفير الطاقة تتطلب من الدول الأعضاء خفض استهلاك الغاز بنسبة 15% بحلول فصل الشتاء. وبالفعل، فقد وضعت بعض الحكومات، بينها الفرنسية والإيطالية والإسبانية، أهدافاً لسياسة خفض الإستهلاك، لكن دولاً أعضاء أخرى، مثل ألمانيا، لاتزال مترددة في وضع تدابير للقيام بذلك.
ومع ذلك، لا بد من القول إن مثل هذه المبادرات لا ترقى إلى المستوى الذي تتطلبه معالجة الأزمة التي تواجهها أوروبا. الحكومات تتعامل فقط مع الأعراض وتتجاهل الأسباب. والحل الشامل لا يمكن أن يكون عبر الاستجابات القومية الفردية المُجزأة، بل يتطلب سياسة خارجية أوروبية مُنَسقة، حتى تضع القارة نفسها على الطريق نحو تحقيق أمن الطاقة. وفي غياب مثل هذا التنسيق، ستجد دول الإتحاد نفسها على الدوام في محاولة شاقَّة للمفاضلة بين التمسك بقيمها وتلبية مصالحها المتضاربة مع الاحتياجات الأساسية لمواطنيها. هذا النوع من التدريب محفوف بالمخاطر، وسيضر بالمشروع الأوروبي نفسه. لذا، يجب على الحكومات الأوروبية أن تتحرك بسرعة لدرء العواقب الحالكة للشتاء المقبل.
إشارات تحذيرية
خلال الأشهر الأخيرة، كافحت أوروبا من أجل تحرير نفسها من الاعتماد على الطاقة الروسية. ولكن حتى أكثر الجهود شجاعة لتنويع مصادر الطاقة لم تساعدها في التغلب على اعتمادها التاريخي المفرط على روسيا. في تموز/يوليو، دفع المسؤولون الألمان (بدعم من دول أعضاء أخرى في الإتحاد) كندا للإلتفاف على عقوباتها الخاصة على روسيا من أجل إصلاح خط أنابيب “نورد ستريم-1″، وبالتالي ضمان إستمرار تدفق الغاز الروسي إلى ألمانيا. حدث هذا بعد أيام فقط من قصف القوات الروسية لمركز تجاري في كريمنشوك. ويبدو أن “الإلتزام المُفترض” الذي أبدته أوروبا بمحاسبة روسيا على أفعالها في أوكرانيا قد يصبح في خبر كان بسبب احتياجاتها من الطاقة التي لا يمكن إنكارها.
الحكومات الأوروبية تتعامل مع أعراض نقص الطاقة وتتجاهل الأسباب والمبادرات المطروحة حتى الآن لا ترقى إلى المستوى الذي تتطلبه معالجة الأزمة التي تواجهها القارة
تحذيرٌ آخر جاء من إيطاليا، عندما أطاح عددٌ من الأحزاب السياسية بحكومة رئيس الوزراء ماريو دراجي بسبب محاولاته تحويل الاقتصاد الإيطالي بعيداً عن الطاقة الروسية. جادلت أحزاب المعارضة بأن مثل هذا الإنفاق غير ضروري، وأصرَّت على أنه سيكون من الأفضل بكثير أن تبقى إيطاليا “عميلاً مخلصاً” للغاز الروسي. والواقع أن خروج إيطاليا (إحدى أكبر الدول الأعضاء في الإتحاد) عن الإجماع المعارض للحرب الروسية ضد أوكرانيا، قد أثار بلبلة في عواصم أوروبية أخرى. وإذا استطاعت روما التخلي عن هذا الجهد الجماعي، فقد يحذو آخرون حذوها، لا سيما وأن الأصوات القومية القوية بدأت تظهر في جميع الدول الأعضاء تقريباً. ففي الأسبوع الأول من آب/أغسطس، دعت مارين لوبان، زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا، إلى إنهاء ما وصفته بالعقوبات “غير المُجدية” على روسيا. وبالتالي، يمكن القول إنه؛ في ظلّ الضغوط الاقتصادية والسياسية المتزايدة، فإن الوحدة المثيرة للإعجاب التي ميّزت موقف أوروبا من الحرب الروسية في أوكرانيا قد أصبحت في خطر.
وربما يكون الكرملين نفسه قد استشعر هذه الشقوق الحاصلة اليوم داخل البيت الأوروبي. فقد اشتد خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة، عندما ألقى باللوم على “القوى المُعاقِبة” في ارتفاع أسعار الغذاء والوقود في جميع أنحاء العالم. ويبدو من غير المرجح أن تتخلى موسكو عن سياسة حافة الهاوية، ما يزيد من اختبار تسامح أوروبا مع روسيا.. وإذا أصبحت التوقعات بانقطاع التيار الكهربائي حقيقة واقعة، فإن القدرة التنافسية الصناعية الأوروبية سوف تعاني بشكل كبير. في الوقت نفسه، فإن الاستجابات السريعة لاستبدال الغاز الروسي المفقود بالوقود الأحفوري من أماكن أخرى، بدلاً من التوسع في المصادر المتجددة، تضع أهداف أوروبا الخاصة بالمناخ في خطر. يبدو أن التحول الأخضر المُخطط له في الإتحاد الأوروبي يتعثر مع تركيز الحكومات على احتياجات الطاقة على المدى القريب. ونتيجة لذلك، فإن مزاعم أوروبا بأنها رائدة على مستوى العالم في معالجة مسألة تغير المناخ تبدو موضع شك أكثر من أي وقت مضى. كما يبدو إلتزامها المُعلن بدعم القيم الليبرالية وسيادة القانون أمراً مشكوك فيه لأنها تواصل شراء الطاقة الروسية حتى في الوقت الذي تعلن فيه إن موسكو تنتهك القانون الدولي وقانون حقوق الإنسان في أوكرانيا. إن النهج القصير المدى، الذي يتبعه الإتحاد الأوروبي تجاه هذه الحرب، يمكن أن يقوّض في نهاية المطاف مصداقية المشروع السياسي الأوروبي برمته.
وحدة استقلال الطاقة
يمكن لأوروبا أن ترسم طريقاً للمضي قدماً إذا بدأت أولاً في حماية أمن طاقتها وأمنها الأوسع في المستقبل. الفوضى التي تسبب بها بوتين لم تمر مرور الكرام في الصين وكوريا الشمالية وتركيا. ويجب على دول الإتحاد أن تستعد لعالم من الفوضى. عليهم أن يجمعوا مواردهم حتى يستطيعوا أن يتأقلموا مع ما ينتظرهم. وعليهم أيضاً أن يستوعبوا أن تحقيق السيادة لا يمكن أن يتم إلَّا بالتنسيق مع بعضهم البعض. أما إذا استمرت الدول الأعضاء في التعامل مع الأزمات بطريقة مُجزأة، وتصرفت بشكل فردي وليس جماعي، فسوف تغرق في هذه المياه المتقلبة.
يحتاج صانعو السياسات، والحكومات التي تعمل مع الصناعة والمستهلكين، إلى تقديم سردية أقوى في ما يتعلق بالحاجة إلى أمن الطاقة المُستدام في جميع أنحاء أوروبا؛ بما في ذلك تدابير كفاءة الطاقة المصاحبة. ويتعين على القادة أن يكونوا واضحين في أن الإتحاد الأوروبي لن ينجح دون اتخاذ إجراءات على مستوى المجتمع الأوروبي ككل. كما يتعين على الإئتلافات الحاكمة أن تتحمل التكاليف السياسية لشرح مثل هذه الرسالة. على سبيل المثال، تعاملت مختلف الأحزاب في الحكومة الائتلافية الألمانية مع ضرورة الحدّ من استهلاك الطاقة بمستويات مختلفة، أي بحسب تقدير حالة الطوارئ بالنسبة لفئة وأخرى. هذا التناقض لا يمكن الدفاع عنه. ونظراً لحجم ألمانيا ونفوذها، فإن النهج المبدئي الذي تتبعه الحكومة لدفع المستهلكين والشركات إلى شدّ الأحزمة له عواقب تتجاوز برلين بكثير، مع تأثير مُدمّر على أي جهد أوروبي موحد لتوفير الطاقة.
النهج القصير المدى، الذي يتبعه الإتحاد الأوروبي تجاه الحرب الأوكرانية، سوف يقوّض مصداقية المشروع السياسي الأوروبي برمته
وهذا يعني أيضاً التخطيط الجماعي للطاقة لفصل الشتاء على مستوى عموم أوروبا، وليس بشكل فردي من قبل الحكومات الوطنية. يحتاج الإتحاد الأوروبي لأن يفكر بطريقة إستراتيجية في الموارد التي يمكن للبلدان الأوروبية تأمينها معاً قبيل فصل الشتاء؛ أي قبل حدوث النقص المُحتمل. إن تسييس الطلبات الفردية (المجزأة) وزرع بذور الانقسام داخل الإتحاد أمرٌ في غاية السهولة. في المقابل، يتطلب النهج الوقائي التعاوني استثمارات جادَّة ورغبة جماعية في تصور تقاسم الأعباء على المستوى الأوروبي لتمويل الاستجابة للأزمة.
إن الإتحاد الأوروبي يعيش “لحظة ما يتطلبه الأمر”، التي وصل إليها نتيجة جائحة كورونا وأزمة اليورو. ويجب على قادته التفكير في تكرار بعض الإجراءات التي اتخذوها أثناء الجائحة، بما في ذلك الاقتراض على نطاق واسع من السوق، لزيادة مصادر الطاقة الأكثر موثوقية كمورد جماعي لدول الاتحاد ليلبي متطلبات الطاقة بعد هذا الشتاء. إن الاستثمار في تلبية حاجة القارة إلى أمن الطاقة يجب أن يكون مساوياً لحجم الأزمة الحالية.
ولعلَّ الأهم من ذلك كله هو أن الإتحاد الأوروبي بحاجة إلى تطوير إستراتيجية للسياسة الخارجية تبني شبكة واسعة من العلاقات مع طرف ثالث مما يدعم مستقبلاً أكثر استدامة وأماناً لأوروبا. يجب على الإتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، زيادة استثماراته في برامج الابتكار المشترك وتكثيف التعاون بشأن كفاءة الطاقة ومبادرات الطاقة النظيفة في البلدان الواقعة على حدوده الشرقية وفي إفريقيا، من أجل توفير مصادر موثوقة للطاقة الخضراء. يجب على الإتحاد أيضاً دعم تسريع التحول الأخضر في الصناعات الرئيسية في البلدان الشريكة، مع منع الوصول إلى سلاسل التوريد الأوروبية والتمويل للشركات التي تتعارض مع المعايير الخضراء الأكثر صرامة. لهذا السبب، يجب أن تتطلع سياستها الصناعية الخضراء إلى الخارج وتساعد الشركات في الجوار الأوسع لأوروبا على أن تصبح جزءاً من نظام بيئي أوسع للإتحاد الأوروبي. وإذا لم يتم تطبيق دبلوماسية الطاقة المُستدامة هذه، تكون أوروبا تُخاطر بالسير وهي نائمة نحو التبعيات الخطيرة ذاتها التي سبقت الحرب الأوكرانية.
يمكن لأوروبا أن تتغلب على هذه الأزمة، بل وأن تخرج منها مع الحفاظ على سيادتها. لكن الخيارات التي ستتخذها خلال الأسابيع المقبلة ستُحدد ما إذا كانت تضمن استقلالها أو ما إذا كان المشروع السياسي الأوروبي ضحية أخرى لحرب بوتين القاسية، وآخر فصولها وقف تزويد القارة الأوروبية بالغاز عبر خط “نورد ستريم 1” حتى إشعار آخر!.
– النص بالإنكليزية على موقع “فورين أفيرز“.
(*) مديرة برنامج الطاقة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR).