يكثر الجدل في الغرب حول الأسباب التي حالت دون تحقيق الإختراق المستهدف على جبهة تمتد أكثر من 800 ميل. بعض المُحللين العسكريين الغربيين يُلقون باللوم على حلف شمال الأطلسي “الناتو” لجهة التلكؤ في تزويد الجيش الأوكراني بما يحتاجه من عتاد متطور في وقت أبكر. البعض الآخر يخرج بخلاصة معاكسة مفادها أن الجنود الأوكرانيين الذي تلقوا تدريباً على يد عسكريين غربيين، تخلوا عما تعلموه في الغرب وعادوا إلى التكتيك السوفياتي القديم. القيادة السياسية الأوكرانية تلخص المشكلة في عدم الحصول على صواريخ أميركية بعيدة المدى ومقاتلات “إف-16” القادرة وحدها على دك الدفاعات الروسية.
إستهل الجيش الأوكراني الهجوم المضاد بإستخدام الدبابات والعربات القتالية التي حصل عليها من الغرب في أوائل الربيع الماضي على جبهتي زابوريجيا في الجنوب الشرقي وخيرسون في الجنوب وباخموت في الشرق. ومع الإصطدام بحقول الألغام الروسية، تخلى الجنود عن شن الهجمات بأرتال مدرعة، وإنقسموا إلى مجموعات من المشاة تعتمد على التسلل إلى المواقع التي يسيطر عليها الجيش الروسي، ومن ثم طلب العون من مُشغلي المُسيّرات والمدفعية لقصف هذه المواقع، قبل إقتحامها. وهذه عملية تستغرق وقتاً أطول وخسائر أكبر في كل عملية تقدم، بسبب التحصينات الروسية. وفي بعض الأحيان يعاود الروس شن هجمات معاكسة وإسترداد ما خسروه.
قد يضغط الغرب على زيلينسكي كي يجنح إلى الحلول الديبلوماسية، في ظل المأزق العسكري الحالي. وهناك قادة أوروبيون لا يمانعون بطرح عودة روسيا إلى حدود ما قبل 24 شباط/فبراير 2022 للبدء في التفاوض، كمقاربة واقعية تمهيداً للبحث عن حل سياسي للأزمة الأوكرانية
وإذا تم الأخذ في الإعتبار أن روسيا تسيطر على 17 في المئة من الأراضي الأوكرانية، فإن الأستاذ في جامعة هارفارد غراهام أليسون وضع كييف أمام معادلة قاسية، عندما كتب في صحيفة “الواشنطن بوست”، أنه وفقاً لمعدل التقدم الحالي، تحتاج كييف إلى 16 عاماً لإعادة السيطرة على كامل أراضيها.
السرعة التي إتسمت بها الهجمات المضادة للجيش الأوكراني في صيف وخريف العام الماضي من شمال كييف إلى خاركيف، بدت غير قابلة للتطبيق في زابوريجيا وخيرسون. والإختراق الذي كانت تعوّل عليه أوكرانيا هو الذي يمكنها من الوصول إلى بحر آزوف كي تشطر القوات الروسية إلى شطرين وتقطع الجسر البري مع شبه جزيرة القرم وتُطبِق الحصار على المنطقة.
مثل هذا الإختراق سيضع القوات الروسية في فوضى نفسية، ويُجبرها على التراجع على نحوٍ غير منتظم كما حصل العام الماضي. ومن شأن مثل هذا التقدم أن ينزع أوراق القوة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويضطر إلى التفاوض من موقف ضعيف.
أمام صمود الخطوط الدفاعية الروسية، لجأ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى نقل الحرب إلى داخل روسيا. ولا يكاد يخلو يوم من دون وصول مُسيّرات أوكرانية إلى سماء موسكو، لكن من دون إحداث التأثير المأمول منها. كذلك تهاجم المُسيّرات الأوكرانية بكثافة القرم ولا سيما جسر كيرتش كهدف رمزي من دون أن تتمكن من تعطيله لفترات طويلة. ولجأت أوكرانيا أيضاً إلى الزوارق البحرية المُسيّرة لضرب قطع من الأسطول الروسي في البحر الأسود، وأطلقت تحذيراً للسفن التجارية من مغبة الإقتراب من الموانىء الروسية رداً على إنسحاب بوتين من إتفاق الحبوب الشهر الماضي، ومن ثم قصف موانىء التصدير الأوكرانية في أوديسا وعلى نهر الدانوب على بعد أمتار من الأراضي الرومانية (الأطلسية).
لا ريب أن الضربات الأوكرانية في الداخل الروسي تترك أثرها المعنوي السلبي، لكنها غير قادرة على تعطيل الحياة اليومية للمواطنين الروس وجعلهم يعانون مثلما يعاني المواطنون الأوكرانيون من جراء إستهداف مدنهم وبناهم التحتية.
وفي محاولة لتعزيز الوضع العسكري لأوكرانيا، زوّدت الولايات المتحدة كييف بقنابل عنقودية كي تساعد على إختراق الخطوط الروسية. لكن لا يزال أثرها محدوداً أمام الإدانات العالمية التي تلقتها الولايات المتحدة نتيجة إقدامها على هكذا خطوة من شأنها ترك آثار لعشرات السنين حتى بعد إنتهاء الحرب.
وقبل يومين، أزالت إدارة الرئيس جو بايدن التحفظ على تزويد أوكرانيا بمقاتلات “إف-16”. وأبلغ وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن هولندا والدانمارك أن في إمكان هاتين الدولتين إرسال هذا النوع من المقاتلات إلى كييف فور إنتهاء الطيارين الأوكرانيين من التدرب عليها. وبذلك يزول خط أحمر آخر على مستوى نوعية السلاح الغربي الذي ستحصل عليه أوكرانيا. ولم يعد يثير الدهشة في حال وافقت واشنطن في مرحلة مقبلة على تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى.
الأستاذ في جامعة هارفارد غراهام أليسون كتب في صحيفة “الواشنطن بوست”، أنه وفقاً لمعدل التقدم الحالي، تحتاج كييف إلى 16 عاماً لإعادة السيطرة على كامل أراضيها!
هذه القرارات تنسجم مع سياسة بايدن الذي تعهد دعم أوكرانيا “طالما إستلزم الأمر ذلك” حتى إنزال الهزيمة الجيوسياسية بروسيا. ولعل من المفيد في هذا المجال التذكير بأن البيت الأبيض الذي كان يُدير الحرب بين حدّي معادلة صعبة: دعم أوكرانيا للإنتصار داخل حدود أوكرانيا وتفادي الإنجرار إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، قد بدأ يُظهر تسامحاً أكثر مع الضربات الأوكرانية للداخل الروسي، وخفتت تلميحات الإنتقاد التي كانت تصدر عن المسؤولين الأميركيين.
وكلما إقترب بايدن من موعد الإنتخابات الرئاسية في 2024، فإنه يخشى المساءلة عن جدوى هذا الكم الهائل من المساعدات الأميركية لأوكرانيا من دون وضع إستراتيجية للخروج من تلك الحرب. ومنتقدو بايدن يقارنون بين حجم المساعدات لأوكرانيا وبين تلك التي قدّمها لإغاثة المنكوبين في حرائق ولاية هاواي الأميركية. والرئيس الذي خاض إنتخابات 2020 واعداً الأميركيين بإنهاء حروب أميركا “الأبدية” في الخارج، يجد نفسه الآن منخرطاً في حرب لا تلوح لها نهاية في الأفق، ولو كانت حتى الآن حرباً بالوكالة.
والمرشح الجمهوري الأكثر إحتمالاً، الرئيس السابق دونالد ترامب يتعهد وضع حد للحرب “في يوم واحد” إذا عاد إلى البيت الأبيض. وهذا ما يضع ضغوطاً إضافية على بايدن ويجعله يُجازف أكثر بنوعية السلاح المُرسل إلى أوكرانيا بهدف تحقيق إختراق سريع يجلب بوتين مهزوماً إلى طاولة المفاوضات. ويراهن بايدن أيضاً على أن الإقتصاد الروسي بدأت تظهر عليه علامات الإرهاق، نتيجة العقوبات الغربية. ومن علامات ذلك هبوط قيمة الروبل أمام الدولار إلى مستويات لم يبلغها منذ أذار/مارس 2022، وإضطرار البنك المركزي الروسي إلى التدخل.
كما يراهن بايدن على أن إستمرار الحرب سيُجبر بوتين على إعلان تعبئة جديدة لقوات الإحتياط. ومثل هذا الإجراء الذي لا يحظى بشعبية في الداخل الروسي قد ينعكس نقمة على الأرض قبل أشهر من إنتخابات الرئاسة الروسية ويترجم ذلك تدنياً في نسبة تأييد بوتين، ولو أنه لا يواجه منافساً جدياً حتى الآن.
وسط الرهانات الأميركية، برز إقتراح تقدم به مدير مكتب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ستيان بينسين، يقضي بمبادلة أوكرانيا المقاطعات الأربع التي ضمتها روسيا بإنضمام كييف إلى الحلف.
وبرغم مسارعة بينسين إلى الإيضاح بأن ما طرح أسيء فهمه، وإتصل الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ بزيلينسكي ليؤكد له أن الحلف على موقفه في دعم ما تقرره أوكرانيا، فإن هذا لا ينفي واقع أن المسؤولين الغربيين ربما يتداولون في الغرف المغلقة بغير ما يقولونه علناً. وربما يُعزّز هذا من رهان بوتين على أن الغرب سيتعب في مرحلة ما من الحرب، خصوصاً إذا ما تحولت إلى حرب إستنزاف طويلة الأمد. وتفادياً للوصول إلى هذه المرحلة، قد يضغط الغرب على زيلينسكي كي يجنح إلى الحلول الديبلوماسية، في ظل المأزق العسكري الحالي. وهناك قادة أوروبيون لا يمانعون بطرح عودة روسيا إلى حدود ما قبل 24 شباط/فبراير 2022 للبدء في التفاوض، كمقاربة واقعية تمهيداً للبحث عن حل سياسي للأزمة الأوكرانية.
لكن زيلينسكي ومن خلفه بايدن، لا يزال يُعوّل على العمل العسكري خياراً وحيداً للتعامل مع روسيا، برغم علامات التعب على الجبهات، والتي أحد مظاهرها المشاكل التي تواجهها كييف في تجنيد المزيد من الشباب، فضلاً عن النزيف البشري الكبير مقابل نتائج متواضعة. ومع فتح الجيش الروسي جبهة خاركيف مجدداً منذ منتصف تموز/يوليو وشن هجمات متتالية في هذا القطاع مع الجبهة، فإن ذلك يُضعف الهجوم الأوكراني المضاد، ويُقوي الروس معنوياً.
البيت الأبيض الذي كان يُدير الحرب بين حدّي معادلة صعبة: دعم أوكرانيا للإنتصار داخل حدود أوكرانيا وتفادي الإنجرار إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، قد بدأ يُظهر تسامحاً أكثر مع الضربات الأوكرانية للداخل الروسي
الصيغة الوحيدة التي يتمسك بها زيلينسكي هي مبادرته للسلام ذات النقاط العشر، التي عرضها على ممثلي أكثر من 30 دولة في الدانمارك ثم في السعودية. وهي خطة تطلب إنسحاباً روسياً إلى ما قبل خطوط العام 2014 وإستسلاماً غير مشروط، بما يرقى إلى معاهدة فرساي جديدة ومحاكمات على غرار نورمبرغ ولكن من طريق المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ودفع تعويضات روسية عن كل ما لحق بأوكرانيا من خسائر.
طبعاً، لا تتحلى الخطة بأي نوع من أنواع الواقعية وتتطلب وضعاً عسكرياً على الأرض تكون فيه اليد العليا للجيش الأوكراني. وبما أن مقاتلات “إف-16” لن تصل هذا العام إلى أوكرانيا، وكذلك دبابات “أبرامز إم أي” المتطورة وربما الصواريخ البعيدة المدى، فإن الإستعدادات بدأت منذ الآن لهجوم الربيع المقبل، وهذا دليل شبه قاطع على أن الحرب ستمتد سنة أخرى على الأرجح، برغم صعوبة التكهن بالوجهة التي قد تتخذها في أي لحظة. ألا يتعين أن يُحفّز ذلك ضرورة البحث عن طريقة لولوج سبيل الديبلوماسية؟
أرقام مرعبة سرّبها مسؤولون أميركيون عبر “النيويورك تايمز” عن حجم الخسائر البشرية خلال 18 شهراً من الحرب، متحدثين عن 500 ألف قتيل وجريح من الجانبين. وإذا صحّت هذه الأرقام، ماذا سيكون عليه الحال إذا إستمرت الحرب مدة أطول. والسؤال مَن يستنزف مَن وكم من الخسائر يحتاج النظام الدولي الجديد كي يولد؟