لم يأسف على رحيله كثير من مواطنيه، ولكن احتفلت الصحافة الغربية بشخصه وعدّدت مآثره، ولا غرابة فى ذلك، فقد ارتبط اسم جورباتشوف فى روسيا بانهيار الاتحاد السوفيتى، وتمزقه إلى خمس عشرة دولة يعادى بعضها البعض، ليس فقط فى أرمينيا وأذربيجان وغيرهما، ولكن الأخطر هو ما نشهده منذ ستة شهور من حرب مستعرة بين روسيا وأوكرانيا، لا يعرف أحد لها نهاية، وتتعدى آثارها الاقتصادية والسياسية حدود الدولة التى كانت تضمهما معا وتمس كافة أرجاء المعمورة.
***
التقييم السلبى لدور جورباتشوف فى التاريخ لا يقتصر على المواطنين الروس، وإنما شاركهم فيه كثيرون من اليسار الماركسى فى كافة أنحاء العالم، وأذكر أن بعض القيادات الفكرية فى صفوف الحركة الشيوعية فى مصر كانت لا تتردد فى حديثها معى عن نعت جورباتشوف بالخيانة، بل وبالعمالة لأجهزة المخابرات الغربية.
ومع ذلك كان هناك من علقوا آمالا كبيرة على محاولات جورباتشوف الإصلاحية فى بداياتها فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى فى أن تنجح فى الخروج بالاتحاد السوفيتى ونموذجه الاشتراكى من أزمة الركود التى كان يعانى منها فى ذلك الوقت، وأن تعرف الاشتراكية السوفيتية التغلب على الصعاب التى نتجت عن الركود الذى لم يكن اقتصاديا فحسب يتمثل فى الانكماش الاقتصادى، وتباطؤ التحسن فى مستويات معيشة المواطنين، والتخلف عن الغرب فى السباق العلمى والتكنولوجى، ولكن كان هذا الركود سياسيا وثقافيا واجتماعيا بسيطرة الكوادر البيروقراطية على الحزب الشيوعى، ومناهضة المبدعين فى مجالات الفكر والأدب والفن، وشيوع سلوكيات الفساد على كل المستويات. تمنى كثيرون من أنصار اليسار والحركات المناهضة للاستعمار الجديد أن تنجح إصلاحات جورباتشوف المسماة بالبيريسترويكا أو إعادة البناء فى تشييد النظام الاشتراكى على أسس من الديمقراطية والمكاشفة وفقا للتوجهات العريضة لمشروعه الإصلاحى.
***
نهاية هذه التجربة الإصلاحية معروفة الآن. لم تنجح البيريسترويكا، صحيح أن المجتمع السوفيتى عرف انفتاحا سياسيا منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضى، واتسع نطاق حريات التعبير، وعرف المواطنون السوفيت انتخابات تنافسية لمجالس السوفيت النيابية، وذلك للمرة الأولى منذ أعقاب الثورة البلشفية فى 1918، وتذوق مواطنو الدول الاشتراكية فى شرق أوروبا تدريجيا طعم هذا المناخ الجديد، ولكن جهود إعادة البناء تعثرت، بل وسقط البناء كله فى كانون الاول/ديسمبر 1991، بإعلان جمهوريات الاتحاد السوفيتى الخمس عشرة سيادتها، وهو ما يعنى خروجها عن حكم موسكو.
وقد كنت من المتابعين لهذه التطورات، بل وشاء حظى أن أحيط بالتفاصيل من خلال الصحافة الأمريكية عندما كنت أقضى عاما دراسيا فى جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، وقد تملكتنى الحسرة، فقد كنت أتوقع ألا تكون لهذه التطورات نتائج إيجابية على وطننا العربى، والذى كان الاتحاد السوفيتى يساند معظم قضاياه، وفى مقدمتها القضية الفلسطينية، وكنت أخشى أن يؤدى انفراد الولايات المتحدة بالسيطرة على الشرق الأوسط إلى انفتاح شهية إسرائيل لتدعيم احتلالها الاستيطانى، والاستهانة بأمن الدول العربية، والتدخل العسكرى ضد البلدان العربية المحيطة بها كما يشاء قادتها، وهو ما حدث بالفعل.
سقوط الاتحاد السوفيتى كان بالفعل كارثة استراتيجية تدفع شعوبه ثمنها فى الوقت الحاضر فى الحرب الروسية الأوكرانية، وتدفع ثمنها أوروبا أمنيا واقتصاديا وسياسيا بعودة الهيمنة الأمريكية عليها، كما تدفع ثمنها الاقتصادى والسياسى شعوب العالم عندما لا تجد حائطا صلدا فى مواجهة سعى الولايات المتحدة لفرض رؤيتها الأحادية
ولذلك فقد كنت سعيدا أن الفرصة قد أتيحت لى للقاء جورباتشوف نفسه فى تشرين الاول/أكتوبر 2003 مع فريق دولى من الأكاديميين وقادة منظمات المجتمع المدنى من كافة القارات بدعوة من مجلس الولايات المتحدة للبحوث الاجتماعية الذى شكّل لجنة تبحث قضايا التعاون والأمن فى كافة أنحاء العالم. وقد ذهبت مع زملاء وزميلات من أعضاء هذه اللجنة من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدة إلى عدد من مناطق النزاعات الكبرى فى أيرلندا الشمالية وفى المجر وفى روسيا، وكان أعضاء اللجنة من المهتمين بقضايا التعاون والأمن يلتقون فى العواصم التى زرناها بمن يشاطرونهم هذه الاهتمامات فى الجامعات والصحافة ومنظمات المجتمع المدنى بل وكذلك بين رجال السياسة. وهكذا فبعد زيارات ولقاءات ثرية فى بلفاست وبودابست جاءت اللجنة إلى موسكو، وكانت مؤسسة جورباتشوف إحدى المؤسسات التى زرناها مع عدد من المؤسسات الأخرى منها أكاديمية العلوم الروسية، وإحدى منظمات المجتمع المدنى الشهيرة فى ذلك الوقت واسمها «الذاكرة».
لم نلتق بميخائيل جورباتشوف فى مقر مؤسسته التى شاركنا فيها فى حوار مع كبار العاملين بها حول تحليلهم للأوضاع الدولية، وقد شعرت أثناء الحوار بأنهم لم يتخلوا عن أسلوب التفكير والتعبير الذى اقترن بالحزب الشيوعى السوفيتى، ولم يكن ذلك غريبا، فجورباتشوف اختار العاملين معه من بين من كانوا يعاونونه عندما كان السكرتير الأول للحزب قبل أن يجمع منصب رئاسة الدولة إلى جانب منصبه الحزبى. كان جورباتشوف متغيبا عن موسكو فقد تصادفت زيارتنا لمؤسسته مع حضوره لعيد إعادة توحيد ألمانيا فى أول تشرين الاول/أكتوبر 2003 بدعوة من الحكومة الألمانية. وأمام رغبة أعضاء الفريق فى لقائه فقد دعاه منظمو الفريق إلى العشاء بعد عودته من برلين.
***
كنت محظوظا عندما ذهبنا للعشاء فقد كان مقعدى إلى جانب رئيس الفريق الذى جلس فى مواجهة جورباتشوف. كان جورباتشوف فى أحسن حالاته صحيا عندما قابلنا، ومتيقظا لكل أسئلتنا، وكنت أول من وجه سؤالا له. ودعتنى اهتماماتى بتجربته الإصلاحية ثم ما جرى لها وللعالم بعد ذلك أن يكون سؤالى الأول له عما جرى للبيريسترويكا، وهل كان هناك خطأ ما لحق بها؟
أجاب جورباتشوف من خلال مترجمه بأن السؤال يوحى بأنه كان هناك ثمة خطأ فى البيريسترويكا، وأن نتائجها جاءت على عكس ما كان مقصودا منها، وليس ذلك بصحيح. فقد أدت البيريسترويكا إلى إنهاء الحرب الباردة، وسيادة السلام فى القارة الأوروبية وتوحيد ألمانيا، ولا يمكن القول بأن تلك نتائج غير مقصودة أو نتائج سيئة. كما أنها أدت إلى انتشار الديمقراطية فى روسيا ودول أوروبا الشرقية، ولما كانت الديمقراطية واحدة من أركان مشروع الإصلاح الذى دعت له البيريسترويكا، فيمكن إذا الاستنتاج بأنها نتائج طيبة وموضع تقدير من شعوب شرق أوروبا وروسيا ذاتها، ولم تكن خطأ فى الحساب. تجاهل جورباتشوف فى إجابته سقوط الشيوعية فى روسيا. كانت تلك هى السنة الثالثة لفلاديمير بوتين على رأس روسيا، ورغم أن بوتين لم يسع إلى استعادة النظام الاقتصادى الاشتراكى، فإن تصريحاته عن أن تفكك الاتحاد السوفيتى كان كارثة استراتيجية ربما جعل جورباتشوف يتصور أن نموذجا معدلا للاشتراكية قد يخرج إلى الوجود فى روسيا تحت قيادة بوتين. لم أشأ مواصلة النقاش مع جورباتشوف حول مصير بريسترويكا، فقد كان منطلقه فى التحليل مناقضا لمنطلقى. كنت أرى أن بريسترويكا أو جهود إصلاح الاشتراكية السوفييتية قد أخفقت، ولم يكن هناك احتمال باستئنافها فى ذلك الوقت. الحزب الشيوعى فى روسيا كان حزبا معارضا، ولم يتجاوز ما يحصل عليه فى الانتخابات عن ربع الناخبين، وبوتين الذى يحلم باستعادة الإمبراطورية الروسية أبعد ما يكون عن أن يكون شيوعيا، وبرنامجه الاقتصادى أقرب إلى رأسمالية الدولة. لم أواصل الحوار مع جورباتشوف حول هذه القضية مؤثرا أن أترك الفرصة لأعضاء الفريق الآخرين، ولكنى فوجئت بسؤال جورباتشوف عن وطنى، ولما عرف أنى مصرى ذكر أنه لم ير القاهرة، ووعدته بنقل هذه الرغبة للحكومة المصرية. وكنت قد رتبت قبل ذلك زيارة للسفير رؤوف سعد سفير مصر لدى الحكومة الروسية عامى 2003ــ2004، والتقيت به فى مبنى السفارة، والذى كان من الكرم أنه أصر على استقبالى فيه رغم أنه كان يخضع لعملية تجديد. نقلت له رغبة جورباتشوف، ولا أعرف ماذا فعل بشأنها، وأظن أن جورباتشوف لم يدع إلى القاهرة حتى غادر عالمنا. كنت أتصور أنه كان بكل تأكيد من المفيد له زيارة عاصمة عربية مهمة بعد أن كان قد سافر لإسرائيل. ربما كان ذلك سيثرى فهم العاملين فى مؤسسته لواقع الأحوال فى عالمنا العربى.
***
لم تكن نتائج البيريسترويكا طيبة لا لروسيا ولا للاشتراكية ولا للعالم العربى ولا للعالم. لم يحدث الإصلاح الاقتصادى الاشتراكى الذى كان مأمولا. كانت هناك أفكار عديدة فى موسكو حول هذا الإصلاح. تراوحت هذه الأفكار بين التخلى عن التخطيط المركزى بمنح الوحدات الإنتاجية سلطات أوسع فى إدارة شئونها كما كان يدعو لذلك بعض الاقتصاديين السوفيت منذ ستينيات القرن الماضى، وبين ابتكار جهاز حساب آلى ضخم يمكن أن يستوعب العدد الهائل من المعادلات التى ينطوى عليها نموذج الخطة فى اقتصاد مركزى، ولم يكن الإصلاح الاقتصادى يحتل مكانة مهمة فى برنامج جورباتشوف وذلك على العكس من المسار الذى مضى عليه الحزب الشيوعى الصينى، كما لم يلتفت جورباتشوف كثيرا لمسألة القوميات المتعددة فى الاتحاد السوفيتى والتى كانت تتطلع لمزيد من الاستقلال عن موسكو، وهو ما كان سببا مباشرا فى سقوط الاتحاد السوفيتى. وأخيرا كان الحزب الشيوعى السوفيتى ذاته منقسما بشدة بين أنصار الإصلاح وخصومه، وقام الآخرون بمحاولة انقلاب على جورباتشوف واعتقلوه مؤقتا فى آب/أغسطس 1991. كما كان هناك من كانت تحركهم المطامح الشخصية مثل بوريس يلتسين، وتدعوهم لتعويق مسار الإصلاح إلا إذا كان يخدم هذه الطموحات. لذلك سقط الاتحاد السوفيتى وتجربته الاشتراكية ليس نتيجة ثورة على الاشتراكية، لكن بسبب الفساد والانقسام فى قمة الحزب الشيوعى ذاته.
أيا كان موقفنا من البيريسترويكا والاشتراكية، فإن سقوط الاتحاد السوفيتى كان بالفعل كارثة استراتيجية تدفع شعوبه ثمنها فى الوقت الحاضر فى الحرب الروسية الأوكرانية، وتدفع ثمنها أوروبا أمنيا واقتصاديا وسياسيا بعودة الهيمنة الأمريكية عليها، كما تدفع ثمنها الاقتصادى والسياسى شعوب العالم عندما لا تجد حائطا صلدا فى مواجهة سعى الولايات المتحدة لفرض رؤيتها الأحادية لما يجب على حكوماتها فعله بالنسبة لسياساتها الداخلية أو مواقفها من دول أخرى صديقة للولايات المتحدة، إلا إذا نجحت هذه الشعوب فى إقامة نظام دولى متعدد الأطراف يحترم قواعد القانون الدولى. ووجدت بديلا واقعيا للرأسمالية.
(*) بالتزامن مع “الشروق“