وفي مقابل هذا التصعيد العسكري، سلّمت السفيرة الأمريكية في لبنان ليزا جونسون مسودة اقتراح لوقف اطلاق النار إلى رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري لم يُكشف رسمياً عن مضمونها، لكن ما تسرب من معلومات صحافية عنها، قبيل ساعات من وصول المبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين إلى بيروت صباح اليوم (الثلاثاء) يُشير إلى عدم صدق النوايا في التوصل إلى وقف لإطلاق النار، إذ ما بين التصعيد العسكري “الإسرائيلي” من جهة، والمسودة الملغومة من جهة ثانية، يجد المفاوض اللبناني نفسه أمام أحد خياري العصا “الإسرائيلية” أو الجزرة الأمريكية المسمومة، مما يبقي الأنظار مشدودة إلى مدى قدرة المقاومة على الصمود وإيلام “إسرائيل” عبر التصدي الأسطوري الذي يقوم به مقاتلوها في البر واستمرار تصاعد وتيرة إطلاق الصواريخ والمُسيّرات التي باتت تقض مضاجع أكثر من مليوني “إسرائيلي” من المستوطنات الشمالية إلى عمق الكيان في حيفا وتل أبيب وصفد وعكا وغيرها من مدن فلسطين المحتلة.
عسكرياً، يسعى الجيش “الإسرائيلي” إلى دفع المقاومة للإنسحاب إلى شمال نهر الليطاني عبر تقطيع المنطقة الحدودية إلى مربعات صغيرة المساحة والتقدم في هذه المربعات بواسطة قوات النخبة من وحدة “ايغوز” ولواء “جولاني” ليُعيد وصل هذه المربعات بالتوازي، بعد إخراج المقاومة منها ومن ثم خلق حزام حدودي بعمق خمسة إلى سبعة كيلومترات في المرحلة الأولى على أمل الوصول إلى ضفة نهر الليطاني الجنوبية.
وبالتوازي مع هذه المناورة البرية، يواصل الطيران الحربي “الإسرائيلي” والمُسيّر الضغط على العمق اللبناني في محاولة لضرب القدرات الصاروخية والمسيرة للمقاومة إضافة إلى الضغط على البيئة الحاضنة، قتلاً وتهجيراً وتدميراً ولا سيما عبر استهداف العاصمة بيروت لثلاث مرات متتالية في غضون 24 ساعة (رأس النبع ومار الياس وزقاق البلاط).. وفي المقابل، تتصدى المقاومة لهذا التكتيك العسكري باعتماد مناورة حرب العصابات التي تقوم على استدراج العدو إلى العمق في بعض المحاور وايقاعه في الكمائن المفخخة والقصف الصاروخي والمسير لحشوده عند الحافة الحدودية أو داخل المستوطنات الشمالية المحاذية للحدود اللبنانية.
سياسياً؛ للمرة الأولى هناك مسودة اتفاق مكتوبة تقضي بوقف اطلاق النار قدّمتها السفيرة ليز جونسون إلى الرئيس نبيه بري وهذه الايجابية الاولى تشكل أرضية للمفاوضات، كما أن الإيجابية الثانية هي أنها أكدت على اعتماد قرار مجلس الامن الدولي رقم 1701 كأساس لوقف اطلاق النار، ولكن مقابل هاتين الايجابيتين تضمنت المسودة عدداً من الألغام التي لا يُستهان بها، وأبرزها أنها تتضمن انشاء لجنة دولية للاشراف على عمل قوات الطوارىء الدولية في لبنان (اليونيفيل) والجيش اللبناني في منطقة جنوب الليطاني، وتعطي الأمرة في هذه المنطقة لقوات “اليونيفيل” التي يؤازرها الجيش اللبناني بعد تعزيز قواته لتصل إلى 15 الف جندي في المنطقة، وفق نص القرار 1701.
إن الآلية التي اعتمدها الأمريكيون بجعل لبنان يوافق على مسودتهم قبل “إسرائيل” يترك الباب مفتوحاً أمام رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو للمناورة السياسية في رفض المسودة، حتى لو قبل بها المفاوض اللبناني كما هي، وهذا ليس بالأمر الجديد إذ سبق له أساساً أن وافق على المبادرة الأمريكية الفرنسية العربية لوقف اطلاق النار التي أعلنت من نيويورك في الثلث الأخير من شهر سبتمبر/أيلول الماضي ليعود وينقلب على المبادرة ويُعطي الأمر باغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله من أحد مكاتب البعثة “الإسرائيلية” في الأمم المتحدة، كما سبق أن فعل الأمر نفسه أكثر من مرة في المفاوضات لوقف اطلاق النار في غزة، وكان آخرها عندما رفض الاقتراح الذي قدمه الرئيس الأمريكي جو بايدن في نهاية يوليو/تموز الماضي باسم بلاده وباعلانه موافقة “إسرائيل” عليه. لذلك، يُمكن القول إن نتنياهو الذي كان يوافق على أمر ما ويعود ويرفضه سيكون اكثر راحة في رفض مسودة لم يسبق له أن وافق عليها وبالتالي تحميل لبنان مسؤولية فشل المفاوضات.
أما اللغم الثاني فيتمثل في الإشارة إلى انشاء لجنة دولية (يُحكى أنها ستكون بقيادة جنرال أمريكي) تتولى الاشراف على عمل “اليونيفيل” والجيش اللبناني في منطقة جنوب نهر الليطاني وتكون مؤلفة من مجموعة دول حليفة لـ”إسرائيل” وهي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ألمانيا وهذا ما يُحوّل “اليونيفيل” من قوات تابعة في مرجعيتها إلى مجلس الأمن الدولي إلى قوات تتبع في مرجعيتها للدول الأعضاء في هذه اللجنة وهي دول أعضاء في “حلف الناتو”، أي بمعنى آخر تحول “اليونيفيل” إلى أداة عسكرية لـ”الناتو” في احتلال جنوب لبنان لنزع سلاح المقاومة فيه ومطاردة المقاومين عبر الاستعانة بالجيش اللبناني. وبالتالي افراغ القرار 1701 من مضمونه الدولي وتحويله إلى قرار لإدارة قوات متعددة الجنسيات.
وهنا يكمن أيضاً اللغم الثالث، أي لغم الدور الذي سيُناط بالجيش اللبناني خلال مرحلة ما بعد الحرب، فالقرار 1701 أعطى الجيش اللبناني الأمرة في منطقة جنوب الليطاني على أن تؤازره قوات “اليونيفيل” فيما المسودة المطروحة تقلب الأمر رأساً على عقب بحث تصبح الأمرة لـ”اليونيفيل” يؤازرها الجيش اللبناني، أي أن يصبح الدور المطلوب من الجيش اللبناني هو مؤازرة القوات الدولية لنزع سلاح حزب الله ومطاردة مقاتليه في منطقة جنوب الليطاني، ما يطرح التساؤل عما إذا كان سيتمدد هذا الدور ليطال باقي المناطق اللبنانية مع ما يحمله من امكانية تصادم بين الجيش والمقاومة على امتداد الوطن، وبالاستنتاج البسيط فإن الدور المطلوب من الجيش اللبناني وفقاً لهذه المسودة هو أن يتحول من جيش يحمي الوطن إلى جيش يحمي حدود العدو تماماً كالدور الذي كانت تلعبه ميليشيا “جيش لبنان الجنوبي” العميلة لـ”إسرائيل” بقيادة انطوان لحد خلال مرحلة الاحتلال لجنوب لبنان قبل التحرير في العام 2000.
إن الثقة التي أولتها قيادة المقاومة للرئيس نبيه بري لإدارة المفاوضات وأكد عليها الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في اطلالاته المتلفزة المتتالية تُشير إلى أن المقاومة تُقدّر عالياً دور بري وتعرف أن ما سترفضه أو تقبله سيكون هو المبادر إليه أولاً من موقع القناعة والحرص على سيادة وطنية غير قابلة للتجزئة ورفض أي أمر من شأنه المس أو التفريط بورقة المقاومة وذلك وفق مبدأ “أُكلت حينما اكل الثور الأبيض”. في الوقت نفسه، يؤكد بري، بحسب المقربين منه، ثقته برجال الميدان ودورهم المركزي ليس في المعركة العسكرية فقط بل أيضاً في ضرب الشروط الأمريكية “الإسرائيلية” في التفاوض السياسي، واستناداً إلى هذه الثقة، أكد أنه لا يقبل تقديم أي تنازل عن أي شبر من أرض لبنان.
أمام هذا المشهد، يصبح منسوب التفاؤل في التوصل لوقف إطلاق النار قريباً مرتبطاً بالموقف “الإسرائيلي”، ولا سيما موقف نتنياهو الذي ربما يحاول الاستفادة من مهلة السماح الأمريكية الممتدة من الآن حتى تولي الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مهامه الرئاسية في العشرين من يناير/كانون الثاني المقبل، سيعمل خلالها على زيادة منسوب الضغط العسكري لتكبير مكاسبه السياسية، فيما تعمل المقاومة من جهتها على افشال المناورات الميدانية ومواصلة ايلام الجبهة الداخلية “الإسرائيلية” وتعزيز مهمة الصمود في الجبهة الداخلية اللبنانية. باختصار؛ إنها معركة إرادات تخوضها المقاومة باللحم الحي لأبنائها المقاومين وأهلها الصامدين.