شهدت الأيام الأخيرة تطورات دراماتيكية بدأت مع التراجع الروسى المفاجئ وتقدم القوات الأوكرانية لمناطق سيطرت عليها روسيا منذ أيام القتال الأولى فى نهاية فبراير/شباط الماضى. وأعقب ذلك إعلان الرئيس فلاديمير بوتين الدعوة لتعبئة عامة جزئية لمئات الآلاف من المقاتلين الروس، ثم مطالبته للعالم بأخذ تهديداته باللجوء للسلاح النووى على محمل الجد. وبعد انتهاء استفتاء مقاطعات إقليم الدونباس الذى تشكل أراضيه 15% من إجمالى الأراضى الأوكرانية بالموافقة شبه الجماعية على الانضمام للاتحاد الروسى، ورفض المجتمع الدولى لهذه الخطوة، لا ينتظر أن تشهد جبهات القتال هدوءا فى المستقبل القريب.
فى الوقت ذاته، تستمر واشنطن فى لعب أحد أهم الأدوار غير المباشرة والخطرة فى حرب أوكرانيا. فبعدما حذرت واشنطن من غزو وشيك منذ ديسمبر/كانون الأول الماضى، لم تتوقف إدارة الرئيس جو بايدن عن إمداد الجانب الأوكرانى بالكثير من المعلومات الاستخباراتية، ناهينا عن أسلحة ومساعدات تخطت قيمتها 17 مليار دولار، مع تعهد متكرر بتقديم المزيد.
وحذر الرئيس الأمريكى جو بايدن من أن العقوبات الأمريكية على روسيا قد تضر بالاقتصاد الأمريكى، لكنه أكد أن دعم أوكرانيا والدفاع عنها يستحق التكلفة، حيث صاغ الحرب على أنها معركة بين الديمقراطية والاستبداد.
***
تلقت القوات المسلحة الأوكرانية العديد من حزم الأسلحة من الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، وهى حزم شملت صواريخ مضادة للدبابات، وأنظمة دفاع جوى، ومدفعية صاروخية بعيدة المدى سمحت للقوات الأوكرانية ليس فقط بوقف التقدم الروسى، بل وحتى دفع القوات الروسية إلى الوراء.
إلا أن استطلاعات الرأى ترصد تردد الشعب الأمريكى تجاه «توريط» بلاده فى القتال بصورة مباشرة فى أوكرانيا، فى الوقت ذاته يرتفع صوت تيار معارض لتقديم المساعدات الواسعة لكييف، ومن المتوقع أن يتسع هذا التيار قوة فى حال فاز الحزب الجمهورى بانتخابات الكونجرس فى نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وفقا لاستطلاع للرأى أجراه معهد كوينسى، فإن 57٪ من الناخبات والناخبين الأمريكيين يؤيدون سعى الولايات المتحدة إلى إجراء مفاوضات دبلوماسية فى أقرب وقت ممكن لإنهاء الحرب فى أوكرانيا، حتى لو تطلب الأمر من أوكرانيا تقديم تنازلات لروسيا. 32٪ فقط ممن شملهم الاستطلاع عارضوا ذلك بشدة أو إلى حد ما
وعلى الرغم من عدم وجود تأثير كبير للقضايا الخارجية فى انتخابات التجديد النصفى بالكونجرس فى الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني القادم، إلا أن أى تغيير فى توازن القوى داخله، وحتى إذا ذهبت أغلبية أحد المجلسين فقط إلى الحزب الجمهورى فلن يكون تقديم المساعدات بالسهولة التى تقدمها واشنطن حالياً نظراً لتحفظ الكثير من أنصار التيار اليمينى بالحزب الجمهورى على تقديم هذا القدر من المساعدات لأوكرانيا.
ويندد الرئيس السابق دونالد ترامب بتقديم مساعدات لأوكرانيا، وقال إن «الديمقراطيين يرسلون 40 مليار دولار أخرى إلى أوكرانيا، ومع ذلك فإن بعض العائلات الأمريكية تكافح حتى لإطعام أطفالها».
ومن المفترض أن تستمر المساعدات لأوكرانيا حتى نهاية السنة المالية بنهاية سبتمبر/كانون الأول 2022، لكن من الصعب تصور تقديم أى مساعدات إضافية قبل انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني.
***
هدف إدارة جو بايدن من الحرب غير واضح، فبعدما اهتمت واشنطن بدعم أوكرانيا للدفاع عن أراضيها، ترتفع أصوات مطالبة بضرورة «هزيمة روسيا وانتصار أوكرانيا». ومن غير الواضح بعد كيف يمكن لواشنطن العمل على هزيمة روسيا دون تجنب صراع مباشر بين أمريكا ومن ورائها حلف شمال الأطلسى (الناتو) وبين روسيا المسلحة نوويا.
تتمتع أوكرانيا بدعم سياسى كبير من الحزبين الديمقراطى والجمهورى، إلا أن غياب أى مسار لحل دبلوماسى يوتر البعض فى واشنطن. ويرفض هؤلاء فكرة أن هناك حلا عسكريا للصراع يتضمن هزيمة روسيا، ويحبذون رؤية جهود دبلوماسية لإنهاء الحرب إذا كان للمساعدات أن تستمر.
وفقا لاستطلاع للرأى أجراه معهد كوينسى، فإن 57٪ من الناخبات والناخبين الأمريكيين يؤيدون سعى الولايات المتحدة إلى إجراء مفاوضات دبلوماسية فى أقرب وقت ممكن لإنهاء الحرب فى أوكرانيا، حتى لو تطلب الأمر من أوكرانيا تقديم تنازلات لروسيا. 32٪ فقط ممن شملهم الاستطلاع عارضوا ذلك بشدة أو إلى حد ما.
يدرك الشعب الأمريكى ما لا يدركه الكثيرون داخل إدارة الرئيس جو بايدن من أنه من المرجح أن تنتهى حرب روسيا فى أوكرانيا على طاولة المفاوضات أكثر من ساحات القتال. وهناك شكوك تتزايد نحو التشكيك فى نهج واشنطن تجاه هذه الحرب خاصة مع استمرار تأثر المواطنة والمواطن في أمريكا بارتفاع الأسعار من حولهم.
فما يجرى الآن ليس استراتيجية أمريكية واضحة المعالم والأهداف، على العكس فهى وصفة لسنوات من الحرب الكارثية التى تُبعد الغرب أكثر عن هدف تأمين أوكرانيا مزدهرة ومستقلة وديمقراطية كما يدعى. حان الوقت للرئيس بايدن أن يشرح للشعب الأمريكى كيف يخطط لاستخدام نفوذ واشنطن السياسى والدبلوماسى الكبير لإنهاء هذه الحرب.
وفى حين ساعد الدعم الأمريكى الجهود الحربية الدفاعية الأوكرانية، يظهر أن هناك مخاوف متزايدة بشأن ما يمكن أن يعنيه المزيد من الدعم بدون دبلوماسية واستمرار هذا الصراع الوحشى ليس فقط بالنسبة لروسيا وأوكرانيا، ولكن بالنسبة لدول أخرى أيضا.
من المحبط عدم وجود ما يشير إلى أن واشنطن تستكشف الفرص للبحث عن تسوية تضمن استقلال أوكرانيا وتحافظ على صورة ومكانة روسيا فى الوقت ذاته.
(*) بالتزامن مع “الشروق”