استمرت هذه المناطق بسيطرتها على حركة التاريخ إلى مطلع القرن الثامن عشر، حيث بدأ انزياح الفعل الحضاري نحو الغرب، بعد أن استطاع هضم خلاصة حضارات هذه المنطقة، وأنتج ثورة معرفية متسارعة ومتوسعة أتاحت له السيطرة والهيمنة على حركة التاريخ في القرون الثلاثة الماضية، وترافقَ مع هواجس لم تفارقه خشية عودة هذا الشرق إلى ذاته، وإعادة إنتاج نفسه بصيغة جديدة تتيح له تصدر المشهد العالمي وإنهاء هيمنة الغرب على مقدرات العالم، ووقف عمليات نهب الشعوب.
اتبع الغرب خلال القرون الثلاثة الماضية جملة من السياسات العسكرية والاقتصادية والسياسية استثمر من خلالها بشكل واسع تخلف بنية دول المنطقة، وبقاءها ضمن إطار الإمبراطوريات التي تغيب عنها المؤسسات والمحكومة بإطار معادلة الراعي والرعية، مستنداً إلى قوة بنية دولة ما بعد معاهدة “ويستفاليا”، وظهور الدول ذات الطابع القومي، وهدفت هذه السياسات إلى إنهاك المنطقة بشكل عام ومنعها من التحول إلى بنى حديثة إلا وفقاً لتبعيتها لإطار الأورومركزية.
استخلصت التجربة الغربية في مطلع القرن العشرين ضرورة وجود كيان وظيفي في فلسطين يساهم بإنهاك القوى الإقليمية ومنعها من أن تتحول إلى شكل من أشكال الاجتماع القائم على الغلبة، أو أن تنتقل إرتقاءً إلى إطار التنافس الإيجابي وإيجاد صيغة للشراكة في ما بينها، وخاصةً أن المشتركات الثقافية بينها وطبيعة التجارب التاريخية السابقة تتيح لها عملية التقبل والتداول بالسيطرة بين شعوبها دون التعاطي في ما بينها على أساس الاحتلال وإنّما على تقبّل مفهوم الغلبة.
الإسلام السياسي.. النموذج التركي
ومع بداية الصعود الصيني وعودة روسيا التدريجية إلى المسرح العالمي، ظهرت خلال العقدين الماضيين ملامح تحولات عالمية، فكان لا بد من مواجهة التهديدات الجديدة ومنع وصولها إلى الحالة القطبية العالمية، فعمد الغرب إلى إعادة الاعتبار إلى الإسلام السياسي بشكله العنفيّ، وخاصة بعد أن أثبت نجاحه في إسقاط الإتحاد السوفييتي بإنهاكه في أفغانستان، وأن الأمر يمكن له النجاح مرة أُخرى، وخاصةً أن العالم الإسلامي يتداخل مع هاتين الدولتين إن من حيث الحدود أو ضمن نسيجها الاجتماعي، بالإضافة إلى أن معظم الشعوب المتاخمة أو المتداخلة تنتمي إلى الشعوب التركية، ومن هنا، وقع الاختيار على تركيا لتكون العمود الفقري لمشروع شرق أوسط – إسلامي جديد يمتد من إندونيسيا إلى المغرب، ويمر بآسيا الوسطى التي تنتمي أغلبية شعوبها للقومية التركية، ما يقتضي تعويم نموذج تركي حديث يمتلك مقدرات اقتصادية عالية، ونمطاً من الحياة يتمتع بقدرة جذب الشعوب المسلمة في أنحاء العالم، وذلك ما حصل منذ عام عام ٢٠٠١ بعد انشقاق حزب العدالة والتنمية عن حزب الفضيلة، وتسلمه قيادة الدولة التركية في عام ٢٠٠٢.
بدأ تعويم النموذج التركي وضرورة استلام حركة الإخوان المسلمين لأنظمة الحكم في كل المنطقة العربية مع خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في القاهرة عام ٢٠٠٩، مع المراهنة على انتقالها إلى آسيا الوسطى ومن ثم إلى روسيا والصين لزعزعة استقرارهما، وهذا ما بدأ مع ما يسمى حركة الربيع العربي في نهايات عام ٢٠١٠ وبدايات ٢٠١١.
مع استلام حركة الإخوان المسلمين السلطة في كل من مصر وليبيا وتونس ودخولها في حكومات المغرب والأردن، وظهور الصراع الدموي الذي قادته في سوريا، بدت آثار التحول على بنية هذه المجتمعات – المتهالكة أصلاً بفعل المشاكل الكبيرة التي تعاني منها- فزادت من تعقيدات المنطقة، وكان لمقتل السفير الأمريكي في ليبيا (كريستوفر ستيفنز) بتاريخ ١١أيلول/سبتمبر من عام ٢٠١٢ على أيدي “تنظيم القاعدة” في ليبيا الأثر البالغ على عدم إمكانية احتواء مخاطر هذه الجماعات، بالإضافة للتهديدات المتصاعدة باستبدال أنظمة الخليج، ما دفع بمصر لإسقاط حكم الإخوان المسلمين بالشارع المصري وبدعم من الجيش المصري، وسبقه الجيش السوري وحلفاؤه بالتصدي لهذه الجماعات.
مصر ليست بعيدة عن هذا الصراع ضد “العثمانية الجديدة” من خلال دفاعها عن أمنها القومي بشكل واضح في ليبيا وبشكل خجول ومتردد في سوريا لحسابات متعددة، مع أن موقف الجيش المصري الإيجابي واضح لكل ذي بصيرة في سوريا
أين مصر من المشروع الأمريكي؟
برغم نجاح الولايات المتحدة في إخراج مصر من سياقها التاريخي الطبيعي بعد اتفاقية “كامب ديفيد” مع “إسرائيل”، فإن الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، يدركون أن مصر تمتلك قيمة جيوسياسية لا مثيل لها، وأنها إذا ما استعادت دورها الإقليمي الكبير في هذا الشرق، فستكون مركز استقطاب لكل الشعوب العربية، وستعود كعاصمة لقارة إفريقيا بأكملها كما حصل في مرحلة خمسينيّات القرن الماضي، وستشكل تهديداً للكيان الوظيفي الذي فصلها عن امتدادها الطبيعي نحو الشمال، لذا كان لا بد من تمزيقها وتدميرها من الداخل والخارج والذي لا يمكن أن يتم سوى باستمرار اتباع سياسات الإنهاك الاقتصادي والاجتماعي داخليّاً، وحصارها وتهديدها من الجنوب بمصدر حياتها وأساس وجودها، أي نهر النيل، وتهديد أمنها القومي من الشمال عبر بلاد الشام التي تعتبر صِمَام الأمان لها عبر التاريخ، ومن الغرب حديثاً بعد أن تغلب التطور الحديث على عزلة الصحراء، وهو ما ينطبق على ليبيا.
كان لسقوط مشروع الإخوان المسلمين في مصر وسوريا واضمحلاله في ليبيا أثرٌ بالغٌ على مراهنات تركيا على دورها في المشروع الأمريكي الذي تم تقويضه في أكثر من ساحة من ساحات المنطقة، ومع ذلك، فإن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لم يستسلم للأمر الواقع، بل اندفع بعيداً لتحقيق حلمه لإلغاء مفاعيل معاهدة لوزان في الذكرى المئوية الأولى لها عام ٢٠٢٣، مستغلاً بدء الانكفاء الأمريكي من المنطقة وتخبط السياسات الداخلية الأمريكية وأثر ذلك على السياسات الخارجية، وبالاستفادة من احتياج كل من روسيا والولايات المتحدة له في تحديد تموضعه، فاتجه لاحتلال المناطق الشمالية في سوريا، وقفز إلى ليبيا ليتموضع هناك بالاتفاق مع حكومة الوفاق الليبية التي انتهت صلاحيتها منذ سنتين وهو بذلك يحقق مجموعة من الأهداف.
على مستوى الساحة السورية يكون قد حقق جزءاً من الطموحات المرتجاة لتثبيت خارطة الميثاق المللي لعام ١٩١٨، ويصبح جزءاً أساسياً من معادلة الداخل السورية وشريكاً في رسم مستقبل سياساتها، وبالتالي يتحول إلى تهديد للأمن القومي المصري الذي يعتبر سوريا خطاً أحمراً منذ عهد الهكسوس وحتى الآن، وخاصةً أن كل الغزوات التي اجتاحت مصر بعد الهكسوس من فرس ويونانيين ورومان وبيزنطيين ومماليك وأتراك جاءت عن طريق سوريا، وفي الوقت نفسه، فإن اتفاقه مع حكومة الوفاق الليبية يجعل التهديد لمصر من الغرب قائماً وسيشرع الحدود الغربية لدخول كل الجماعات التكفيرية عبر حدودها، بالإضافة للتهديد الإسرائيلي المستمر الذي يعمل من جهة الشمال ومن جهة الجنوب من خلال دعمه لبناء سد النهضة الإثيوبي، وهذا التهديد الإسرائيلي لم يتوقف عند استلاب مصر لدورها الإقليمي بل ذهب بعيداً بالتضافر والتعاضد مع المشروع التركي والإخواني، لتمزيق مصر نهائياً، كي تخلو شمال إفريقيا وكامل القارة الإفريقية لهم.
بعد اندفاع تركيا إلى معركتي إدلب وليبيا، ظهرت تموضعات وتحالفات جديدة يملك العنصر الروسي دوراً فاعلاً فيها لمنع تركيا من أن تأخذ حجماً أكبر من حجمها الإقليمي، مما يؤثر على المصالح الروسية العليا التي تتعامل مع شؤون المنطقة كدولة عظمى، فكان لا بد من الصدام في ليبيا وإدلب لتحديد حجم الدور التركي وبالتالي الدور الإخواني في المنطقة، ما جعل من هاتين المعركتين بمثابة ساحة واحدة، ما عُبّر عنه بعودة العلاقات بين دمشق وبنغازي بمباركة من مصر وروسيا والإمارات وصمت من السعودية، مع العلم أن مصر ليست بعيدة عن هذا الصراع ضد “العثمانية الجديدة” من خلال دفاعها عن أمنها القومي بشكل واضح في ليبيا وبشكل خجول ومتردد في سوريا لحسابات متعددة، مع أن موقف الجيش المصري الإيجابي واضح لكل ذي بصيرة في سوريا، ولكن هناك فرصة تاريخية لمصر قد لا تعوض من خلال الإنخراط المباشر مع الجيش السوري – والذي لا تزال تعتبره الجيش الأول في مواجهة التهديدات التركية في سوريا – والإنضمام إلى مجموعة الدول التي حاربت التنظيمات التكفيرية بشكل حقيقي، وخاصة روسيا وإيران والصين، وهي تستطيع ذلك الآن بفعل الهامش الكبير للحركة والمناورة بعد ظهور ملامح الانكفاء الأمريكي وتخبّطه، وبدء انسحابه من أفغانستان والتأهب للانسحاب من العراق وبالتالي من سوريا، والعمل مع سوريا والعراق وإيران وروسيا لكبح جماح سياسات الرئيس التركي، والعمل على بناء نظام إقليمي جديد ركائزه مصر وتركيا وإيران وسطحه العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين بغياب إسرائيل، فهل ستلتقط مصر هذه الفرصة التاريخية ويعود لها ثقلها الجيوسياسي المسلوب؟
(*) راجع تقرير المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق عن أفاق الحرب في ليبيا:https://180post.com/archives/10179