قبل أقل من شهر من الانتخابات الأكثر أهمية في حياته، يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو كما وكأنه قد فقد عقله. فسلوكه أصبح غريباً، وهو يحاول جاهداً أن يظهر بمظهر طبيعي لكنه في الحقيقة يوغل عميقاً في النهاية التي وضع نفسه فيها. وآخر مظاهر مفقدانه الواضح للسيطرة كان الانتقادات الواسعة التي وجهها لإدارة جو بايدن.
فمع اقتراب المفاوضات، التي توسطت فيها واشنطن بشأن النزاع حول المياه الاقتصادية بين إسرائيل ولبنان، على ما يبدو من الحل، سارع نتنياهو إلى توجيه إتهام مباشر لمنافسه، رئيس الوزراء المؤقت يائير لابيد، بـ”الإستسلام” للأمين العام لحزب الله اللبناني (السيد) حسن نصرالله، و”بيع” حقول إسرائيل من الغاز الطبيعي.
في الوقت نفسه، ومن خلال تسريبات مختلفة ومصادر مجهولة، وجه شُركاء مقربون من نتنياهو إتهامات مباشرة إلى الولايات المتحدة بـ”التدخل الفاضح” في الشؤون الداخلية والانتخابات الإسرائيلية.
بعبارة أخرى، يحاول نتنياهو ورفاقه إستمالة الرأي العام بالتحريض ضد أكبر حليف لإسرائيل، الإدارة الأميركية.
مصدر أمني إسرائيلي رفيع المستوى صرح لـ”المونيتور”، شريطة عدم الكشف عن هويته، إن “رئيس الوزراء السابق يُسبب ضرراً إستراتيجياً صريحاً لإسرائيل”
وقد سبق أن فعل نتنياهو ذلك في الماضي، في عهد الرئيس باراك أوباما، عندما عمل على نسف الإتفاق النووي مع إيران. وها هو الآن يخوض جولة ثانية في عهد رئيس ديموقراطي آخر، جو بايدن، الذي يعتبر مبعوثه عاموس هوكاشتاين العمود الفقري لمفاوضات تسوية النزاع الإسرائيلي-اللبناني حول ترسيم الحدود البحرية-الإقتصادية، المستمر منذ فترة طويلة.
إن غضب نتنياهو موجه نحو ما وصفه بـ”الضغط الأميركي” على إسرائيل لقبول صفقة مع لبنان. كما أنه غاضب من الإشارات الأخيرة من مسؤولين أميركيين كبار، لم يكشف عن أسمائهم، قال إنهم “يشككون” في صحة وعده بتعيين النائب اليميني المتطرف إيتامار بن غفير وزيراً في حكومته المقبلة.
قضية الغاز الطبيعي هي الأكثر أهمية في الوقت الحالي. فقد أعلن نتنياهو، في 2 تشرين الأول/أكتوبر، أنه لن يكون مُلزماً بأي اتفاق. كذلك أعلن مساعدوه أن مثل هذا القرار الحاسم والصادر عن حكومة تصريف الأعمال سيكون “باطلاً“.
في هذا الصدد، تبدو محاولات نتنياهو لجر إدارة بايدن إلى مرجل الانتخابات الإسرائيلية “مسيئة جداً”، كما ذكرت الإذاعة العامة الإسرائيلية.
مصدر أمني إسرائيلي رفيع المستوى صرح لـ”المونيتور”، شريطة عدم الكشف عن هويته، إن “رئيس الوزراء السابق يُسبب ضرراً إستراتيجياً صريحاً لإسرائيل”. إنه يعلم أن الإتفاق الإسرائيلي اللبناني مهم جداً. وهو يعلم أيضاً أن جميع الخبراء الأمنيين، دون استثناء، يدعمون هذا الإتفاق. ويعلم أن إسرائيل لم تتنازل إلا عن القليل مقابل الإستقرار والأمن الإقليميين (المقصود ما يخص حقل كاريش المتاخم للحدود مع لبنان). نتنياهو يعرف كل هذا وأكثر، ومع ذلك فهو يبحث عن المشاكل، ويفتعل التوتر، ويُصدر تهديدات. إنه مستعد لفعل أي شيء من أجل تقويض الإتفاق”.
من الواضح أن محاولات نتنياهو لتشويه سُمعة لابيد بأنه “خائن يبيع موارد إسرائيل الطبيعية لأمين عام حزب الله حسن نصرالله” لا أساس لها من الصحة. وقد أوضح العديد من الخبراء الأمنيين مؤخراً أن إسرائيل وافقت بالفعل على خط ترسيم أقرب إلى تفسير لبنان لمدى مياهه الإقليمية منه إلى حدودها الخاصة، لكنها فعلت ذلك من منطلق اعتبارات أمنية واقتصادية واضحة تتعلق بفعالية التكلفة.
ويقول الخبراء إن تنازل إسرائيل للبنان عن “خزان غاز صغير”، لم يتم اكتشافه رسمياً بعد، هو تنازل بسيط مقارنة بالمزايا التي يوفرها مثل هذا الإتفاق. ومن خلال الموافقة على التنقيب عن الغاز اللبناني بالقرب من حقل كاريش، وخزانات الغاز الطبيعي المُحتملة الأخرى، تُقلل إسرائيل من التهديد من حزب الله أو العناصر المعادية الأخرى.
علاوة على ذلك، وكما أوضح مصدر استخباراتي سابق رفيع المستوى لـ”المونيتور” طلب عدم كشف اسمه، “يعتمد لبنان حالياً على إمدادات النفط الإيرانية بطريقة غير قانونية، ما يُعزز، وبشكل كبير، نفوذ طهران في لبنان وكذلك نفوذ نصرالله. وبمجرد أن يحقق لبنان شكلاً من أشكال الاستقلال في مجال الطاقة، فإنه سيُقلّل، وبشكل ثابت، من نفوذ إيران واعتماده على نصرالله. وهذا كله يصب في مصلحة إسرائيل في النهاية”.
نتنياهو شخصٌ ناشطٌ، وماهرٌ، ومبدعٌ ومناضل شرسٌ. في الوقت نفسه، يُظهره تاريخه على أنه يفتقر إلى التوازن ولا شيء يمكن أن يثبطه، فهو على استعداد لبذل كل ما بوسعه من أجل تحقيق فوز ما.
وعندما يُخبر نتنياهو الناخبين الإسرائيليين أن لبيد “باع” لنصرالله أراضٍ إسرائيلية ذات سيادة، فإنه لا يكون صادقاً لأن المياه الاقليمية ليست أرضاً ذات سيادة بموجب القانون الدولي الذي يمنح الدولة فقط حقوقاً حصرية لاستخدام الموارد البحرية في هذه المياه. وأيضاً وفق القانون الدولي، يُطلق على هذه المناطق المائية اسم “المناطق الاقتصادية الخالصة”.
نتنياهو يعرف أيضاً أن لبيد لم “يستسلم” لنصرالله. في الواقع، رفض زعيم حزب الله قبول أي صفقة مع إسرائيل لمدة سبع سنوات حتى أجبرته الظروف على الموافقة.
نتنياهو، الذي كان ذات يوم زعيماً براغماتياً ضليعاً في الجغرافيا السياسية، يُركز الآن على إفتعال الفوضى
وهاك أيضاً مصالح دولية كبيرة تلعب دورها. لقد بذلت الإدارة الأمريكية جهوداً كبيرة في الوساطة. هوكشتاين زار المنطقة مرات لا تُحصى، وعمل بجد حتى أصبحت الظروف مهيأة للتوصل إلى اتفاق. إن الرئيس بايدن مدفوع بمصلحة عُليا في توسيع إمدادات الغاز في العالم، أو على الأقل توسيع إمكاناتها، من أجل تهدئة المخاوف الأوروبية قبل شتاء قاسٍ بدون الغاز الروسي. وفي حين أن الصفقة مع لبنان لن توفر طاقة فورية، إلا أنها ستساهم في قطع شوط طويل في تهدئة التوترات والإشارة إلى التغيير المحتمل في المستقبل المنظور.
يبدو نتنياهو غير متأثر بكل هذه الاعتبارات. نتنياهو، الذي كان ذات يوم زعيماً براغماتياً ضليعاً في الجغرافيا السياسية، يُركز الآن على إفتعال الفوضى. فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، تولى منصب الشرطة الإسرائيلية، والنيابة العامة، والمدعي العام، والمحاكم، والقضاة، والنُخب، واليسار السياسي. كما أن العديد من أتباعه يشنون حملة صاخبة تصف المعسكر المتضائل لليسار الإسرائيلي بـ”الخونة”. وفي حين كان نتنياهو يحاول ذات مرة تهدئة الأجواء وبث حالة من الارتياح، فإنه الآن يصب الزيت على النار من خلال تنشيط مخالبه في وسائل التواصل الاجتماعي وعبر وكلائه المنتشرين في عدد غير قليل من وسائل الإعلام.
قبيل الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، تتصاعد التوترات، وكذلك حوادث العنف، التي تُهدد بمزيد من التصعيد. وقد وصف وزير الدفاع بيني غانتس، المنافس الرئيسي على منصب رئاسة الوزراء، التصويت المقبل بـ”الكابوس”.
دعونا نأمل أن لا تكون مبالغة غانتس “نبوة”.
– النص بالإنكليزية على موقع “المونيتور“.
(*) بن كاسبيت، كاتب ومحلل سياسي إسرائيلي، له عمود “نبض إسرائيل”.