اللامركزية قناع الهويات الفرعية..
سياسة من تنورين ( عباس سلمان )

في إحدى تنظيراته، يقول المفكر الفرنسي ألكسي دو توكفيل بأنه دون المؤسسة اللامركزية لا يمكن للأمة أن تكون لديها روح الحرية. خلاصة تضعنا أمام سؤال شائك في بلد متعدد الاثنيات والجماعات والولاءات الذي تتجاور ثقافات وسياسات وأنماط عيش، مرة تسمى "الوحدة الوطنية" ومرة "العيش المشترك".

لطالما تصدّر مشروع اللامركزية الإدارية الموسعة ندوات المجتمع المدني والبرلمان وبرامج “التوك شو” والعراضات السياسية ولا سيما منها البيانات الوزارية لكل الحكومات المتعاقبة منذ 1989 حتى يومنا هذا.

يتسم طرح اللامركزية بمعايير وقياسات ويخفي أقنعة سياسية. مجموعة تعتبر نفسها  تدفع الضرائب أكثر من غيرها، فتحت نقاشاً في المدة الأخيرة قوامه معرفة إلى اين ذهبت الضرائب في ظل النظام المركزي، بل في ظل نظام مديونيته العامة باتت تقارب المئة مليار دولار. النقاش حول شفافية المداخيل يحمل في خلفياته أبعاداً طائفيةً وفئويةً. فعبر التلفاز يطلق مواطنون وعاملون في الشأن العام اتهامات لمناطق بعينها وبهوياتها بأنها خارجة على القانون ولا تدفع نصيبها كاملاً من الضرائب.

التجربة اللبنانية في موضوع اللامركزية الادارية على مستوى البلديات منذ الستينيات حتى اليوم، ما تزال محاصرة بثقل ممارسة سلطة الوصاية والتعامل مع البلديات كمؤسسة من مؤسسات الدولة وليس كمؤسسة للحكم المحلي. وقد فهمت العلاقة بين الدولة والبلديات من قبل عدد كبير من الوزراء المتعاقبين كآلية لإعادة مركزة القرارات ولتدخلات تدعم الذهنية المركزية أو للوجاهة السياسية، بدليل النموذج الفاقع الذي قدّمه آل المر (ميشال ومن بعده وريثه الياس) في وزارة الداخلية، يوم كان يصطف رؤساء البلديات في الطابور لقبض أموالهم المستحقة في صندوق بلدي “غير مستقل”!

وليس من داع لتذكير اللبنانيين بما يدور عن أموال البلديات من هنا، والصندوق البلدي من هناك. ولم تتحول البلديات، وربما لم تقدر على إدارة نفسها بنفسها ماليا، ففي لحظة الشدة، تغرق في المركزية، سواء لناحية الموازنات وتمويل المشاريع أو حتى ازمة النفايات التي غرقت في التسييس. وتماهت البلديات مع هذا الشيء تبعا لأهواء سياسية، واحيانا تحولت مراكز نفوذ وتشبيح وتوظيف وفساد لا ينتهي.

غالباً ما كان طرح اللامركزية الإدارية لغايات سياسية مصلحية، مثلما شكّل رفضه تعبيراً عن غايات سياسية فئوية. الرافض والمؤيد كلاهما يرسم موقفه تبعاً لمصائر زعامته وقطيعه السياسي وربما ناسه. والطرح أيضاً في نوايا السياسيين له أبعاد متناقضة، فكمال جنبلاط قال في محاضرة في الندوة اللبنانية سنة 1956 إن “لبنان وُجد فعلاً ليكون بلد اللامركزية، ولن ينجح حكم في لبنان سوى حكم اللامركزية”. وخلال سنوات الحرب الأهلية، ظهرت مطالب بتبني اللامركزية السياسية والكانتونات عارضها مطلب آخر بتبني اللامركزية الإدارية كحجة لمنع تقسيم لبنان. ونبذت وثيقة “الطائف”، بحسب الباحث والمؤرخ أحمد بيضون، “نزوات فدرالية ظهرت في أعوام الحرب”، وأقفلت “الباب في وجه طروحات اللامركزية السياسية والفدرالية، وإن كان الغموض ما زال يشوب هذه العبارة”.

وأقرت الوثيقة باللامركزية تحت باب “الإصلاحات الأخرى”، التي أوردت الموضوع تحت عنوان إصلاحي، موصية بضرورة اعتماد اللامركزية الموسّعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى، بشكل يلبي متطلبات هذا العصر، دونما تعارض أو تداخل في الصلاحيات والأدوار ما بين السلطتين المركزية واللامركزية. وشعار”اللامركزية الموسعة” يعتبره البعض شعارا سياسياً ابتكره اهل الطائف كتسوية بين من كان ينادي باللامركزية السياسية ومن كان ينادي باللامركزية الإدارية. بينما يعتبر البعض الآخر أن المقصود منها إعطاء السلطات المحلية قدرا واسعاً من الصلاحيات لإدارة مرافقها.

وليد صافي: عدم اطلاق اللامركزية الادارية الموسعة، “يخفي رهانا سياسيا يزيد من مأزق المركزية المفرطة ويجعل الصراع على الامساك بقرار المركز واحدا من ادوات التوتر السياسي القائم”

الأرجح هو أن عبارة “اللامركزية الإدارية الموسعة” سياسية بإمتياز، ولا تستند إلى أي مفهوم إداري وقانوني علمي، لذلك، يستحيل فهمها إلا ضمن أطر الثقافة السياسية اللبنانية ومفرداتها التي غالبًا ما تشكو من الانحراف. و”اعتماد مبدأ اللامركزية الإدارية الموسعة”، في اتفاق الطائف، يعني الاقرار بعجز النظام الإداري المركزي عن مواكبة التطورات والانتقال إلى عملية تغيير واسعة في البنية الإدارية وفي ذهنية إدارة المصالح الإقليمية أو المناطقية. عدم اطلاق اللامركزية الادارية الموسعة، “يخفي رهانا سياسيا يزيد من مأزق المركزية المفرطة ويجعل الصراع على الامساك بقرار المركز واحدا من ادوات التوتر السياسي القائم، لا سيما وان الصراع هذا يرتبط من جهة بفهم متناقض لمحتوى التوافقية اللبنانية وبرغبة لدى فريق معين إعادة النظر باتفاق الطائف من جهة أخرى”، على حد تعبير الدكتور وليد صافي. ويتفق معه الدكتور روجيه ديب بقوله إن اللامركزية “تخفف تنازع الطوائف على السلطة وبالتالي تساعد على تنفيذ الميثاق الوطني، والدليل أن لبنان “بات اليوم كونفدراليا، أمنيا واستراتيجيا، ولم تستطع قياداته على مدى العقود الأخيرة من حل مشاكل هامة مثل الكهرباء والنفايات والبنى التحتية”.

عليه، فإن الاعتراف بأزمة النظام المركزي، لا يعني أن اللامركزية هي الفرج.  فالرئيس سليم الحص له رأي آخر. لعقود خلت، قدّم قراءة تحذيرية نبه من خلالها إلى أن خير وقت للبحث في موضوع اللامركزية، ولو كانت إدارية الطابع، هو الوقت الذي تكون فيه السلطة المركزية قوية ومتينة. أما إذا أدخلنا اللامركزية على النظام الإداري في فترة تكون فيها الدولة ضعيفة، فيُخشى على تماسك الدولة في تطبيقها. بهذا المعنى، فالتقدير أن كلام الحص أكثر دقة في تشخيص تطبيق اللامركزية، والوقائع تدل على ذلك.. ربما باستثناءات قليلة.

وعلى الرغم من أن التداول باللامركزية الإدارية سابق على اتفاق “الطائف”، إلاّ أن النقاش بشأنها بات محدّدا بما نصّ عليه هذا الاتفاق، وهو من البنود التي قيل فيها الكثير من الكلام، بين مدح معلن وذم مبطن، وكل الكلام حوله لم يكن بمنأى عن المآرب السياسية وإن كان تحت مسميات اصلاحية. فقد أفصح معظم السياسيين والمجتمع المدني وبعض الاحزاب والمعنيين بالإصلاح الإداري في لبنان، مراراً وتكراراً، عن رغبتهم في إصلاح نظام الدولة الإداري والسياسي من خلال تحقيق اللامركزية الإدارية وإعطاء السلطات المحلية مزيدًا من الصلاحيات والمسؤوليات في إدارة شؤونها الخاصة وتقديم الخدمات العامة التي تستجيب لحاجات أهالي المناطق وأوّلياتهم، لكن الطروحات حول هذا الأمر كثيراً ما بقيت منقوصة أو عامة، فلم يأت أصحاب نظريات اللامركزية الادارية الموسعة على تبيان ان كان هكذا طرح يلبي كل الخريطة اللبنانية أو جماعة أو جماعات بذاتها.

اللامركزية كنظام اداري تختلف عن الفدرالية كنظام سياسي مصدره الدستور، وتقوم على توزيع للسلطات بين الوحدات الجغرافية

وعلى الرغم من مرور نحو ثلاثة عقود على توقيع اتفاق الطائف، فان مطلب اللامركزية الإدارية ما زال مدرجاً على أجندة الإصلاح السياسي والإداري في لبنان، من دون أن يقترن بأية صياغة تشريعية ومراسيم تنفيذية. كل هذا جرى ويجري مع بروز عدد من مشاريع واقتراحات القوانين التي طرحت وجرى التداول بها ونامت في أدراج مجلس النواب.

إقرأ على موقع 180  خطوط الترسيم تتعدد: لبنان يقاتل خلف خطوط العدو

ويعرّف القاضي خالد قباني اللامركزية بأنها وجه من وجوه التنظيم إلإداري – والسياسي أحيانا – في الدولة، وتقوم على أربعة مبادئ أساسية مترابطة هي كالآتي: (أ) الاعتراف بوجود مصالح محلية متمايزة عن المصالح الوطنية، (ب) الشخصية المعنوية، (ج) الاستقلال الاداري والمالي، (د) انتخاب مجالس محلية. وبحسب بعض القانونيين، فإنّ معظم هذه المبادئ يثير اشكاليات حقيقية في مسار تحقيق اللامركزية الادارية.

فالمبدأ الأول اي الاعتراف بوجود مصالح محلية متمايزة عن المصالح الوطنية كان أثار موجة اعتراض واستهجان في احدى جلسات مجلس النواب اللبناني، اذ اعتبر بعض السياسيين ان هذا التمايز يقود الى بروز نزعات انفصالية لدى بعض الفئات. وفي هذا الصدد، يشير الباحث أنطوان مسرة إلى أن “كل اشكاليات السلطة المركزية هي ذاتها على المستوى المحلي الغارق في الزبائنية واستقطابات بيوتات الزعامات، والعائلية والحزبية على حساب المصالح الحياتية اليومية والمشتركة”. وما زال البعض يمزج بين اللامركزية الإدارية وبين الفدرالية (أو كما تسمى من قبل البعض اللامركزية السياسية). اللامركزية كنظام اداري تختلف عن الفدرالية كنظام سياسي مصدره الدستور، وتقوم على توزيع للسلطات بين الوحدات الجغرافية. أما اللامركزية فمصدرها القانون وليس الدستور، وبالتالي، ما يعطيه المشرّع بقانون يمكن أن يأخذه بقانون، وتقوم على منح الوحدات المنتخبة محليًا والتي تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، صلاحيات إدارية واسعة.

في كل الأحوال هناك معوقات بالغة أمام اللامركزية الادارية في لبنان، بحسب أندريه سليمان، ومنها: عدم قابلية الدوائر الإدارية اللامركزية الصغرى للحياة، من الناحية المالية: لقد أوصى اتفاق الطائف بتحقيق اللامركزية على أساس الوحدات الإدارية الصغرى، المعروفة بـ”القضاء وما دون”. لكن ما يجب ألا تُخطئهُ عينٌ هو أن الأقضية اللبنانية تكاد تكون في معظمها غير قابلة للحياة، نظرًا إلى ضآلة حجمها الديموغرافي وشحّ الموارد البشرية فيها، كالبترون وبشري وزغرتا والضنية وراشيا وحاصبيا والهرمل ومرجعيون. وليست الوحدات الإدارية الكبرى بمنأى عن مثل هذا القصور، شأن ما هي عليه الحال في محافظات عكار والنبطية، وربما البقاع ولبنان الجنوبي ولبنان الشمالي، بصورة إجمالية.

وهناك عوائق في فرضية جعل الدوائر الإدارية الكبرى دوائرَ لامركزية. هذه العوائق من طبيعة ترتسم على خلفية سياسية – طائفية: فهل تقبل قيادات الشيعة والسنّة تشارك الحكم اللامركزي في الجنوب؟ وهل تقبل القيادات المسيحية تشارك الحكم اللامركزي مع نظرائهم من السنة في الشمال؟ هل ترضى القيادات المسيحية والدرزية ببعضها البعض في جبل لبنان؟. وفي هذا المجال، يضيف الباحث اندريه سليمان أسئلة ووقائع، وأهمها أنه لعل أولى العقبات التي تعترض سير “اللامركزية الإدارية الموسّعة” هي ازدواجية التعبير بالذات وصعوبة التوصل إلى نظرة موحدة بشأنها، في خضمّ التنافرات السياسية والطائفية التي لا يقرّ لها قرار، حيث يُخشى، في ظل الممارسات السياسية الراهنة، أن يتحوّل النقاش السياسي حول إصلاح اللامركزية الإدارية إلى مفاوضات حول حصص ومصالح يتقاسمها الزعماء في ما بينهم، ما يفسد نوعية الإصلاح وتطبيقاته على الأرض.

امام هكذا واقع، فان موضوع اللامركزية من بابها المالي والإداري، يجب أن يضع في اعتباره شديد الحذر بسبب من طبيعة النظام السياسي وأهله. فالقائم في لبنان، معطوفاً على ما راكمه اللبنانيون من مغامرات الحرب، يبعث على قلق شديد. فاللبنانيون وإن كانوا يتجنبون إحصاء خسائر كثيرة بعضها أنزلوها بأنفسهم. وبعضها نزلت فيهم جراء المقايضة على وطنهم. إلا أنهم أصحاب باعٍ طويل في الصبر على بعضهم البعض من موقع الديموغرافيا واضطراباتها. لهذا كله تبدو اللامركزية في جانب قوي وفاعل منها أنها أقنعة لهويات فرعية تتقدم على الهوية الوطنية. وهي هويات طائفية لا لُبس ولا غبار عليها. ومثل هكذا نقاش يستحق إطلاقه في زمن “الكورونا”. فهذه الجائحة بعثت المصائر إلى الأذهان. وعسى أن يكون من فضائلها حث اللبنانيين على تأسيس أفق متقارب بينهم يعيش فيه من سيبقى حياًّ منهم.

راجع:

-حسين أيوب، بعنوان “لبنان يعيدنا إلى كانتوناتنا.. لبنان ليس بخير”: https://180post.com/archives/9827

-سليم الأسمر بعنوان: اللامركزية VS الزبائنية.. “سيرة وإنفتحت” (الجزء الأول)https://180post.com/archives/9858

-أحمد بعلبكي، بعنوان “اللامركزية والمحددات السياسية في إعتمادها لبنانياً”: https://180post.com/archives/9808

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  خطوط الترسيم تتعدد: لبنان يقاتل خلف خطوط العدو