“علي أيوب” المقاوم.. وصرخة خديجة المؤجلة!

من أصعب الأشياء التي نواجهها حين نكتب عن صديق حميم هي الإتهام بالمحاباة. فكيف إذا كانت العلاقة متشعبة، وهي، بقوة الوقائع والمعاني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، علاقة أبدية. إذن لا بأس بالتهمة ولا ردّ لي كافٍ حتى أنفي ما أشتهيه من وراء الكتابة.. والقصد.

يؤكد الكاتب والمؤرخ وعالم الإجتماع الإنكليزي هربرت جورج ويلز أن الكتابة لديها القدرة على صياغة الاتفاقيات والقوانين والوصايا، وهو الأمر الذي شكّل خطوة هامة في ظهور الدول وتطور الحضارة، وجعل من استمرار الوعي التاريخي ممكناً. مثلاً؛ الأمر الذي يُصدره كاهن أو ملك ويُوثقه بختمه يمكن أن يصل إلى مسافات بعيدة ويستمر حتى بعد موته. كانت الدوافع الجماعية لتطوير الكتابة مع ظهور المجتمعات البشرية مدفوعة بمتطلبات هامة مثل توثيق التاريخ والحفاظ على الثقافة والهوية.. وهل هناك أجمل من ثقافة مناهضة الظلم ومقاومة كل أشكال التعسف الآتي من الداخل.. والخارج؟

***

تخط الصديقة خديجة أيوب وصية والدها علي أيوب بعد خمسة عقود على استشهاده (25 شباط/فبراير 1972)، مستلهمة دروساً وعبراً من الماضي لكي يرى أحفاده الحاضر والمستقبل بعين من مضى ومن عاش ومن روى ومن إرتوى.

تروي خديجة أيوب في كتابها المرجعي “علي أيوب ـ مقاوم عابر لساحات الوطن”، تاريخ وجذور فكرة المقاومة وإنغراسها بالفطرة في نفوس الجنوبيين عموماً وكيف أضاف إليها اليسار اللبناني معاني الحرية والتغيير.

علينا أن نكتب تاريخنا وتاريخ أبطالنا. هذا حقٌ لهم علينا وليس مجرد تفاخر ومصدر إعتزاز أجوف لتوكيد غرور الفرد أو تضخيم “أناه”. بهذا المعنى، وجدنا أنفسنا أمام كتاب غني بالبعد الوجداني من جهة، والبعد التوثيقي والبحثي والتاريخي من جهة ثانية.

وقبل أن أمضي بالحديث عن خديجة، وما أدراك ما خديجة بالنسبة إليّ، إنسانة ومناضلة وصديقة، سأتوقف عند مقدمة الكتاب التي خطّها الأستاذ منذر محمود جابر بحبره العاملي ودقته العلمية ولغته الرشيقة وشغفه التاريخي، لكأنه نصب لنا كميناً من عند شرحه صورة الغلاف. قال لنا مباشرة: يا أحبة علي أيوب؛  لقد سها عن بال إبنته، بعد خمسين سنة من “المأثرة”، أن تعود إلى والدها الأب. نعم، كنا نريد أن نسمع رواية خديجة عن مشاعرها ومشاعر إخوتها لحظة عرفوا بإستشهاد والدهم وكيف ترك ذلك أثراً كبيراً في حياتهم. لقد إختارت خديجة أيوب أن تكتب “تاريخاً عاماً وليس سيرةً خاصة”، يقول منذر جابر.

يسري ذلك على الصورة التي رسمها الفنان أسامة عبد الحميد بعلبكي لغلاف كتاب “علي أيوب”، فهذه الصورة، هي الوحيدة التي بقيت لعائلته. الأصح أنها منقولة عن هوية علي أيوب. هنا أستعير ما قاله منذر جابر حرفياً: “تُقدّم الصورة شرخاً مع علي أيوب، فهل نبتعد عن الحقيقة لو تخيّلنا أن علي أيوب هرب تكراراً من كرسي التصوير. هل نبتعد عن الحقيقة لو قلنا أن علي أيوب كان على تعامل أول مع قميص أبيض بياقة بيضاء، أو كان على موعد أول مع “الكرافي” استعارها معقودة من استوديو التصوير؟ ولا نبتعد عنها كذلك لو قلنا أنّ صورته أضحكته كثيراً إلى حد استدماع عينيه”.

لقد إستوقفتني الصورة، كما إستوقفت كثيرين، وأولهم منذر جابر، فصورة علي أيوب (أبو حسن) الراسخة في أذهان كثيرين، أنه إنسان عفوي طبيعي لا يُتقن الرسميات. إبن القرية الذي كان صديق الأرض والناس. قرّبته الشيوعية من الأمم كلها وأبعدته أحياناً عن أقرب الناس، بسبب ما كان يُنعت به كل من يختار أن يكون شيوعياً في ذلك الزمن الجميل. نحن نتحدث عن منتصف أربعينيات القرن الماضي، يوم قرر علي أيوب الإنتساب إلى خلية في الحزب الشيوعي في قرية جنوبية حدودية عند تخوم فلسطين.

***

لا تنفي خديجة أيوب عن نفسها صفة الراوية المحايدة. تنظر إبنة علي أيوب إلى الأحداث الساخنة التي إلتصقت بحياتها وحياة عائلتها وكوّنت شخصيتها بعين الباحثة المتقصية لتعطي للكتاب مصداقية المؤرخ، لعل هذا الكتاب، يكون جزءاً من الأرشيف العاملي، خاصة وأنه يتطرق إلى حقبة هامة ومفصلية من تاريخ جبل عامل.

تارة تنادي المؤلفة والدها بـ”علي أيوب” وتارة أخرى تقولها حاف (علي)، سؤالي لها: كيف إستطعت يا خديجة منع نفسك من مناداته “يا أبي”.. كيف خذلتكِ اللغة ومنعتك من الصراخ:  يا أبتاه كيف تركت أطفالك الأربعة وذهبت للشهادة غير آبه بمغريات الحياة؟

ولا أريد لصرختكِ يا خديجة أن تعلو فوق صرخة والدك. حتماً، عندما سقط في كرم الزيتون كان يئن طويلاً. مدّ يدّه إليك. كان شهر شباط. شهر البرد. ترك يده نائمة في تراب عيناثا. هذه إرادته. هذا جنونه. هذه بطولته عندما يُقرّر مقاومة رتل من الدبابات ببارودة تشيكية طلقة طلقة. لم يكن مجرد مغامر تشرب أفكار العقيدة الماركسية وتأثر بسيرة مناضل أممي إسمه تشي غيفارا (إحتفلنا مؤخراً بذكرى إستشهاده الخامسة والخمسين)، وإنما بحدس فلاح زرع بذرة لم تلبث أن أنبتت جيلاً من المقاومين الذين استلهموا سيرته العطرة. أراد علي أيوب لسيرته أن تكون بداية سِيَرٍ كثيرة ولعله نال ما أراده، بدليل الشعلة التي إنتقلت من جيل إلى جيل.

إقرأ على موقع 180  لغتنا العربية مسألة مادية لا ثقافية وحسب

كان يمكن لكتاب يتناول سيرة مقاوم جنوبي من أوائل المدافعين الشيوعيين عن الأرض التي إرتوت بدمائهم وشهادتهم، أن يكون قصة وجدانية تسطر ملحمة بطولية لمناضل امضى حياته في خدمة قضية فلسطين. لم يكتف بذلك، بل مدّ يد العون للفدائيين الأوائل على طريق فلسطين، فكان أول المنخرطين في تجربتي “الحرس الشعبي” و”قوات الأنصار”، ولم يكن ينتظر إذناً من حزبه للإنخراط في عمليات فدائية عند “الكيلو 9” (عيثرون) وفي كل التماس الفلسطيني المقابل لبنت جبيل ويارون ومارون الراس.

أفاضت خديجة في رواية سيرة علي أيوب الفدائي، المقاوم، الشيوعي. سردية بدأت بجمعها منذ لحظة التحرير في العام 2000، يوم راحت تلتقط أخبار والدها من الجالسين على مصاطب بيوتهم أو العابرين في حاراتهم، وحتماً سمعت منهم ما يفيض عن سيرة والدها إلى ما يؤرخ لبلدتها وربما للكثير من العادات والتقاليد العاملية المشتركة.

لقد بادرت خديجة أيوب إلى مهمة كانت لتكون ـ فعلاً وليس تنظيراً ـ في صلب مهام الحزب الشيوعي اللبناني الذي بوسعه فتح أرشيفه وأرشيف مؤسسات أخرى لإنجاز مثل هذا الكتاب لا بل عشرات ومئات الكتب. سيرة هذا الحزب هي سيرة مناضلين من لحم ودم أفنوا حياتهم في سبيل قضية وليس طمعاً بجنة أو نار أو جاه أو مال، وللمناسبة، لا بأس بكتاب ينعش ذاكرة الشيوعيين ونضالاتهم النقية العابرة لكل ساحات الوطن.

لم تُقصّر خديجة علي أيوب، فالكتاب الذي أهدته لروح والديها فيه من التاريخ والوفاء ما يكفي ويزيد.

***

إسمحوا لي ألا أغادر منهجية خديجة أيوب. أي أن الإنتهاء من سردية والدها الشهيد علي أيوب يفتح الباب أمام سردية والدتها الشهيدة زينب خنافر (أم هاشم). الوالدة التي قررت أن تستشهد بفارق زمني بلغ أربعة وثلاثين عاماً عن زوجها. مع هذه الشهادة، صارت خديجة أيوب تحمل لقب “إبنة الشهيدين”، عوضا عن إبنة أول شهيد شيوعي لبناني يقاوم الإحتلال الإسرائيلي، وها هو الكتاب نفسه يقدم لنا سيرة سريعة (ص 88 ـ ص 100) للأم التي سقطت مع مجموعة من رفاقها في مجزرة إرتكبها العدو الإسرائيلي في عيناثا في تموز/يوليو 2006.

***

علي أيوب (مواليد 1925) بطلٌ من جبل عامل، شيوعي من الأوائل الذين انحازوا إلى قضايا المزارعين الذين تشقّقت أيديهم في شك الدخان وغرس الشتول حتى صارت ترمز إلى عذابات الجنوبيين في مساكنة أبدية مع الشتول وترويض قساوتها.

علي أيوب كان في كل مكان، في برج حمود مع رفاقه الأرمن وفي بيروت المدينة التي لم تستجب لطبيعته الريفية.

علي أيوب الرجل العاشق الذي قسّم قلبه على إمرأتين؛ واحدة ابت أن تتركه في حياته وأخرى أبت إلا أن تقتدي بإستشهاده.

سوف تقرأون هذا الكتاب وتطلعون على سيرة غنية لرجل بسيط من بلادنا ولكن الأهمية تكمن في ما خلّفه الشهيد علي أيوب بحدس المزارع الذي يدس بذرة في الأرض لتنمو وتينع وهو يعرف أن جيلاً من وراءه سيقطف الثمر.

وإستناداً إلى المثل الشعبي القائل “مين خلف.. ما مات”، لربما تكون شهادتي مجروحة في أبناء الشهيدين الأربعة، ولكنها شهادة حق في طينة الوفاء والصدق والنبل الذي يتمتعون به.

عشتُ فترة من دراستي الجامعية في منزلهم. خديجة التي إتخذت دور الأم لإخوتها الثلاثة كانت ترعى البيت بكل الحب والحنان والمرح الممكنين في الدنيا، وخديجة التي نُطلق عليها لقب “رويترز” كانت تعرف كل شاردة وواردة وتأتينا بأخبارنا قبل حدوثها أحياناً (…). هي تمتلك عقلاً تحليلياً ودأباً في رصد التفاصيل تُحسّدُ عليه. تابعت دراستها العليا بعد الزواج والإنجاب، وبنجاح وعزم ومثابرة يعرفها كل من جايلها وتعرف إليها.

بوركت يداك يا رفيقتي خديجة أيوب وبوركت البندقية التي أنجبت أقلاماً كثيرة في بلدة الشعراء.. عيناثا.

(*) كتاب “علي أيوب، مقاوم عابر لساحات الوطن”، 255 صفحة، صادر عن دار الفارابي، 2022، تأليف خديجة أيوب، تقديم د. منذر محمود جابر وحنا غريب (الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني)، لوحة الغلاف لأسامة عبد الحميد بعلبكي.

Print Friendly, PDF & Email
أغنار عواضة

كاتبة وشاعرة لبنانية

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  سعد الجبري ضحية "لعبة العرش السعودي".. وتجارة الإستخبارات!