وقبل الحديث عن المتغيّر، لا بدّ من استعراض ثوابت هذه العلاقة. الثابت الأول هو أنّ السعودية كانت وستبقى حليفاً لأمريكا. لا تكفي المشاغبات الواقعة حالياً لنستنتج منها أنّ السعودية قرّرت بعدما استشعرت تراجع السطوة الأمريكية دولياً (كما هو معلوم)، التمرّد على النظام الذي رسمته أمريكا نفسها لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
الثابت الثاني هو أنّ واشنطن ما زالت ملتزمة بحماية السعودية واستقرار الحكم فيها لآل سعود. وهنا يجب أن نفهم أنّ في أمريكا من لديه حكمة ألا يستسهل مغامرات من طراز الربيع العربي (الثورات الملوّنة)، وهو يفضّل تجربة نظريات الفوضى الخلّاقة في بلاد غير “بلاد الحرمين”. انطلاقاً من هنا، لم أكن شخصياً أتوقع أنّ فريق جو بايدن المكوّن من “خرّيجي” الدولة العميقة الذين لا يستسهلون الخروج على أعراف المؤسسة وتقاليدها، سيطيح بابن سلمان، ولو أني توقعت نوعاً آخر من فرض الطاعة:
كان بإمكان وزارة العدل الأمريكية أن تستغل الملاحقات القضائية بحق توماس براك، وجورج نادر، لإحراج الإمارات ودفعها نحو تغيير سفيرها لدى واشنطن، يوسف العتيبي، صاحب الحضور القوي في أمريكا ووجه القوة الناعمة لأبو ظبي في العاصمة، بعد إفهامها بأنه صار شخصاً غير مرغوب به، Persona Non Grata، والعارفون بطريقة عمل النيابات العامة في أمريكا، ومن يطّلع على محاضر التحقيق، يستنتج أنّ هناك دوراً ما لعبه العتيبي إلى جانب براك ونادر. خطوة كهذه كانت ستكفي لإفهام السعودية وغيرها بعدم العبث مع الديموقراطيين.
أما الثابت الثالث فهو العلاقة الاقتصادية بين دولة المركز والدولة الطرفية النفطية. السعودية ترفد الاقتصاد العالمي بالنفط، ولكنّها تعود لتستثمر عائداته في الاقتصاد الأمريكي والغربي عبر شراء الأصول وإيداع الأموال في مصارفه، وما لا يُستثمر مباشرةً يُستخدَم في شراء البضائع والخدمات التي تنتجها دولة المركز. والحديث عن توطين الصناعات في السعودية وسعودة الاقتصاد ما هو إلى الآن سوى نكتة سمجة.
يُحب الأمريكيون مقولة We work hard, we party hard (نعمل طويلاً، نحتفل طويلاً). كان يمكن لهذه المقولة أن تُلخّص خطة 2030 السعودية لولا أنّنا لم نرَ منها إلى الآن سوى “إنجازات” تركي آل الشيخ، بطل جزء “نحتفل طويلاً”، ولا دليل جدياً على نجاح الجزء الأول منها، ولن تقنعنا مثلاً دعاية نيوم على صفحات “ذي ايكونومست” كوننا نقرأ النص ولا نكتفي بالصورة.
تتكامل الأبعاد الثلاثة للمشهد، فابن سلمان المغامر، ابن سلمان المنحاز إلى الجمهوريين، وابن سلمان الصديق للوبي إسرائيل، هو ابن سلمان الذي لن يتوّرع عن اللعب على حافة الهاوية.. ولكنّ مغامرة كهذه قد لا تكون محسوبة النتائج. ليس هناك من بمقدوره أن يضمن لترامب استمراره في قيادة الحزب الجمهوري، وهو الذي لم تقبل بوجوده مؤسسة الحزب إلا على مضض
الثابت الرابع هو أنّ للسعودية أصدقاء في واشنطن، وأهمهم لوبي السلاح ولوبي النفط النافذين في العاصمة، بالإضافة إلى جيش من كبار موظفي الإدارة والأسلاك الأمنية السابقين الذي يعملون في شركات العلاقات العامة ومراكز الأبحاث التي تتلقى التمويل الخليجي والسعودي السخي، وما المعلومات التي أفصحت عنها تحقيقات “واشنطن بوست” الأخيرة إلا غيض من فيض.
تخلق هذه الثوابت مجتمعة نقاط قوة جيّرها ملوك آل سعود لمصلحتهم عبر السنين، بما في ذلك السعي المحموم إلى كبح جِماح الغضبة الأميركية في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر(أيلول). ولكنّ المتغيّرات في المشهد الحالي الذي يظهر فيه ابن سلمان بمظهر الفتى المتمرّد فهي باعتقادي الآتي:
أولاً، بعكس من سبقه إلى الحكم (كونه حالياً الحاكم الفعلي)، فإنّ وليّ العهد ليس ذلك الحاكم التقليدي المحافظ الذي يحاول مقاربة الأمور بكثير من الحذر، وتفضيل اللعب خلف الكواليس، والانحناء للعواصف، والمراهنة على عامل الوقت.. على العكس، إنّ ابن سلمان (وابن زايد إلى حدّ ما) لا يخشى المغامرة إلى حدود التهوّر، والشواهد واضحة من اليمن مروراً بقطر ولبنان (خطف رئيس حكومة) وليس انتهاءً بجمال خاشقجي.
ثانياً، إنّ ابن سلمان (المغامر) قرّر أن يأخذ طرفاً “على المكشوف” وينحاز إلى جانب الحزب الجمهوري بزعامة دونالد ترامب. إذا كان من يحرص على مصلحة إسرائيل حذّر بنيامين نتانياهو والـAIPAC من خطورة الوقوف الى جانب الرئيس الأمريكي السابق، فيجب القول إنّه لو كان هناك من عاقل ينصح ابن سلمان (وابن زايد إلى حدّ ما) لنصحه بعدم اقتفاء أثر نتنياهو. والجديد هنا أيضاً للسعودية أنّ ترامب (وصهره جاريد كوشنير) هما شخصان طارئان عملياً على الحزب الجمهوري، ولا يحترمان تقاليد مؤسسته، ولا قوانين الدولة، ولذلك قبِلا بأن يكون ثمة مساحة ما يلعب ضمنها أمثال نتنياهو وابن سلمان (وابن زايد).
ثالثاً، لقد صار للمملكة صديق جديد في واشنطن أتاح لحضورها أن يتعزّز ويزداد ثقلاً. لطالما كان لآل سعود حضورهم في واشنطن (علاقة متينة بلوبي السلاح ولوبي النفط، إلخ..)، وليس تفصيلاً في أمريكا مثلاً أنّ يلقّب بندر بن سلطان ببندر بوش! إلا أنّ هذا الحضور كان يعكِّر صفوته نوع من عدم الثقة المتبادلة بينه وبين اللوبي الصهيوني (أو لوبي إسرائيل). صحيح أنّ الطرفين كانا مدركين لتلاقي المصالح تاريخياً بينهما في أكثر من نقطة، بدءاً من معاداة جمال عبد الناصر، مروراً بمعاداة الثورة الفلسطينية، ومعاداة الثورة الإيرانية، وليس انتهاءً بمعاداة أي حركة نهضوية تحررية في العالم العربي، ولكنّ الحذر وعدم الثقة (وعدم الودّ) كانا سائدين. أما اليوم، وبعد اتفاقات ابراهام، وما سبقها وما لحقها، فليس ما يفصلنا عن مشهد العناق بين ابن سلمان (أو الـfist bump) ونتنياهو (أو لابيد، أو أي صهيوني آخر) إلا الوقت، وضرورات السيناريو السينمائي.
لو كان بيدي مثلاً أن أنصحه، لنصحته بأن يراكم ما جمعه من أرباح ويضيفها إلى رأس مال سيرثه عن أبيه، وليفكر بأنّ من يريد أن يحكم السعودية لخمسين عاماً عليه أن يراهن على الوقت، بخاصة أنّ اعتلاء العرش صار بدوره مسألة وقت.. لا أن يراهن بالعرش دائماً
هنا تتكامل الأبعاد الثلاثة للمشهد، فابن سلمان المغامر، ابن سلمان المنحاز إلى الجمهوريين، وابن سلمان الصديق للوبي إسرائيل، هو ابن سلمان الذي لن يتوّرع عن اللعب على حافة الهاوية.. ولكنّ مغامرة كهذه قد لا تكون محسوبة النتائج. ليس هناك من بمقدوره أن يضمن لترامب استمراره في قيادة الحزب الجمهوري، وهو الذي لم تقبل بوجوده مؤسسة الحزب إلا على مضض ولأسباب مصلحية ظرفية.. والأهم أنّ المراهنة على لوبي إسرائيل قد لا تكون في مكانها. فعلى عكس من يرون أنفسهم أعداءً للوبي إسرائيل والذين لن يخطئوا إذا ما بالغوا بتقدير قوّة هذا اللوبي في واشنطن، تقع على عاتق من يرون أنفسهم في صف لوبي إسرائيل (وفي حماه) مهمة شبه مستحيلة، وهي تقدير حدود قوة لوبي إسرائيل في واشنطن!
وقف الحظ إلى جانب ابن سلمان (وقد يقف معه مجدداً ومجدداً)، ولكن وليّ العهد هو مثل المقامر الجالس على طاولة روليت. كلما ربح، أعاد المراهنة بكلّ ما يملك. لا بل بأكثر من ذلك. لو كان بيدي مثلاً أن أنصحه، لنصحته بأن يراكم ما جمعه من أرباح ويضيفها إلى رأس مال سيرثه عن أبيه، وليفكر بأنّ من يريد أن يحكم السعودية لخمسين عاماً عليه أن يراهن على الوقت، بخاصة أنّ اعتلاء العرش صار بدوره مسألة وقت.. لا أن يراهن بالعرش دائماً.