ثمّة محطّات تاريخية، تُسجّل لألبير مخيبر، في معارضته التدخّل السوري السياسي والعسكري، هو ومجموعة من السياسيين، ومما رواه عضو اللجنة التنفيذية السابق لحزب «الكتلة الوطنية» جورج أشقر المتكّئ على عمرٍ مديد، «قبيل انتخابات الرئاسة في العام 1976 عُقد اجتماعٌ في منزل العميد ريمون إدّه حضره رؤساء حكومات سابقون وكمال جنبلاط والعديد من النواب وبينهم ألبير مخيبر وألبير منصور. واتّخذوا قرارات مهمّة جدًا. منها رفضهم دخول الجيش السوري الى لبنان، كما أكّدوا على وجوب حصر حمل السلاح بيد القوّات المسلّحة. الوحيد الذي لم يوقّع على الوثيقة هو تقي الدين الصلح وقال لهم «خلّوني برّا».
ويتابع أشقر استعادة بعضًا مما اختزنته ذاكرته الثرية «بعدها حاولوا اغتيال ريمون إدّه، اغتالوا كمال جنبلاط، هجّروا صائب سلام، موّتوا عبدالله اليافي بقصف محيط منزله و«كان معو بالقلب». مفتي الجمهورية حسن خالد قُتل، سليم اللوزي ورياض طه المعترضان على الدخول السوري قُتلا. كلّ من عارض دخول الجيش السوري الى لبنان راح. ألبير كان من المعارضين لكنه كأرثوذكسي لم يشكّل خطرًا مباشرًا عليهم بعكس الماروني والسنّي. «وحتى يوم شكّلوا خطرًا مباشرًا، بوجودهم العسكري في بيت مري، لم يحِد مخيبر مليمترًا عن ثوابته، لم يكن بوارد زيارة دمشق قبل جلاء جيشها عن لبنان، «يعلم السوريون تمامًا أنني متمسّك بسيادة لبنان واستقلاله الكامل الذي يتحقّق بانسحاب الجيوش الغريبة عن أرضه هذا أمر نهائي وغير قابل للجدل، وأرفض زيارة سوريا قبل سحب جيشها ومصادرة قرار المؤسّسات الحكومية والدستورية».([2])
ويوم أبلغه أحد السياسيين أنّ الرئيس حافظ الأسد يرحبّ بزيارته إلى دمشق، فكّر بينه وبين نفسه، أن كلّما دخل سياسي إلى دمشق، ضيفًا أو بمهمّة رسمية، يقول اللبنانيون إنّ السوريين «اشتروه». لذا رفض الذهاب بشكل قاطع. كما كان من النوّاب القليلين، مثل ريمون إدّه وإميل روحانا صقر وأحمد إسبر الذين رفضوا التوجّه إلى الطائف، لا تماهيًا مع موقف رئيس الحكومة العسكرية آنذاك ميشال عون، بل لمعرفته أولًا بأن ما كُتب قد كُتب». وعلى مسمعٍ من جان حوّاط قال العميد لصديقه: «كلّ ما سيُقرّ في الطائف مطبوع وجاهز للتوقيع”. عدا عن ذلك فمخيبر كان يعتبر «أن التشريع خارج لبنان، ممنوع وليس فعّالًا».([3])
عمل كثيرون من اللبنانيين والسوريين والعرب، على حشد التأييد المسبق لمؤتمر الطائف، ولما سيصدر عنه من تعديلات تطاول جوهر الدستور وتستجيب لمطالب فريق من اللبنانيين. ففي إحدى زيارات الأمين العام لجامعة الدول العربية الشاذلي القليبي إلى بيروت، قبيل انعقاد مؤتمر الطائف في آب/أغسطس 1989، عرّج على منزل ألبير مخيبر في محاولةٍ منه لإقناع الأخير بالتوجّه مع النواب، فقال له مخيبر أيمكن أن أغيّر (كنائب) بالقسم الذي يتعلّق بسوريا؟ فأجابه القليبي: يمكن أن تعدّل بما تشأء إلّا بهذا القسم، بدوره حاول أحد كبار النواب المسيحيين، ممن لهم باعٌ طويلة في التشريع، استمالة مخيبر إلى فريق المتوجّهين إلى الطائف، ملمّحًا إلى مغريات مادية، انتفض مخيبر، واعتبر أن ما فاه به زميله في حضرته زلّة لسان، ولولا صداقة عمر جمعت بينهما، لطرده.
وثمّة طرفة يرويها النائب السابق غسّان مخيبر،عن علاقته المقطوعة مع النظام السوري، على الرغم من ارتباطها بيوم قاتم من تاريخ لبنان: «بعد اغتيال رئيس الجمهورية رينيه معوّض، كنتُ وعمّي في السيارة عائدَين من الدفن. كان يضحك كثيرًا. سألته عن مبرّر الضحك وقد فاجأني فأخبرني أن شخصية سورية قعدت إلى جانبه وتبادلا أحاديث متنوّعة، وكان وقتها نائبًا لرئيس مجلس النواب، ولم يعرف من هو الجالس بمحاذاته. فقال له عمّي: نحن نتحدّث منذ وقت ولكن قل لي من أنت؟ فأجابه: أنا فاروق الشرع»! وقد شغل الشرع منصب وزير خارجية سورية من العام 1984 إلى العام 2006. لم يخطر في بال مخيبر أن يلتقي وزير خارجية سوريا ويجالسه ذات يوم! ولطالما اعتبر أن السوريين «يستخفّون بنا كثيرًا والدليل على ذلك أنّه في مرّةٍ من المرّات اتّصل فاروق الشرع بالذات بالرئيس سليم الحصّ وقال له إنّ الحكومة السورية ستسلّم كوفي أنان (الأمين العام للأمم المتحدة) رسالةً مضمونها أنّ مزارع شبعا لبنانية. وبعد أسبوع يتّصل الشرع بالحصّ ويقول له أنه لم يتمكّن من إرسال المكتوب لكنه اتّصل بأنان وأبلغه أنّ مزارع شبعا لبنانية. أنا أتساءل هل اتّصال الشرع هو صكّ ملكية؟ ما هذا الاستخفاف؟ يقولون لنا إحباطًا؟ الإحباط قليل فينا!»([4]) ومع ذلك لا شيء أحبط مخيبر، وكان يرصد الشاردة والواردة وكلّ ما يتّصل بالمتغيّرات السورية. وقبل الانسحاب السوري من لبنان، بسبعة أعوام، أي في العام 1998، قال مخيبر «إن الانسحاب السوري من لبنان يوازي إقفال سجن المزّة.([5])
وقبل انسحاب إسرائيل بعامَين، هاجم مخيبر من اعتبر قرار إسرائيل الانسحاب من لبنان ودعوتها للتفاوض حول الترتيبات إلى الانتشار جنوبًا مناورة، وهي كانت أبلغت الأمم المتّحدة قرارها تنفيذ قرارَي مجلس الأمن 425 و426 «فلنحاول إعطاءها الترتيبات ونتخلّص منها ونحرّر أرضنا».([6])
كما حمل على تبعية الحكم الكاملة لسوريا، والمحاولات الخبيثة لإطالة أمد الاحتلال السوري للبنان، بذرائع واهية. «شيء مضحك عندما تقول الحكومة اللبنانية أنه لا يمكن أن نقبل بالحفاظ على الأمن في الجنوب إذا انسحب الجيش الاسرائيلي».([7])
تحرّك مخيبر بكلّ الاتّجاهات. أوصل صوته إلى كلّ المحافل الدولية. ودعم كلّ ما من شأنه الدفع باتّجاه الانسحاب السوري من لبنان، «ففي منتصف التسعينيات زار متربوليت جبل لبنان للروم الأرثوذكس المطران جورج خضر الفاتيكان في فترة تحضير الإرشاد الرسولي، وهو أول أرثوذكسي يملك هذا الامتياز بإعطاء الرأي في الفاتيكان. تصدر مسودة الإرشاد الرسولي في الاعلام، ويُقابل باعتراض مراجع إسلامية لتضمّنه ما يشي برغبة خروجٍ سورية من لبنان.
زارني ألبير غاضبًا، يتذكّر كلود عازوري وقال لي: اِتّصل بالبطريرك صفير وقل له إننا نرفض ما يتمّ تداوله، خصوصًا وأننا للمرّة الأولى نذهب إلى الفاتيكان لنشارك كأرثوذكسيين في الإرشاد الرسولي. وبدّن يغيّروه؟ قلت له إن البطريرك الماروني في الفاتيكان، يلتزم بما يصدر عنه. سألني: ماذا نفعل؟ قلت له إن المطران خضر مؤثّر وكلمته مسموعة في الفاتيكان، فقال لي: ما بحكيه لـ… (استعمل كلمةً ثقيلة العيار) وطلب مني أن أتّصل بالمطران، ففعلتُ وزرت خضر وأبلغت سيادة المطران من دون مواربة، إنني آتٍ لأن ألبير مخيبر لا يريد أن يتكلّم معك وقامت قيامته على معارضي الإرشاد الرسولي.
حدّق إلي المطران خضر وقال: بيمون ألبير. ووعدني بإرسال كتاب إلى الفاتيكان. وتضمّنت الرسالة، بحسب ما عرفته لاحقًا من ألبير ما مفاده أنّنا كأرثوذكس تعبنا في كتابة الإرشاد الرسولي ولا نرضى بتغييره.([8])
هذا وقد حدّد الإرشاد الرسولي (1997) في إحدى فقراته المصاعب التي يعاني منها لبنان ومنها الاحتلال المهدّد في جنوب لبنان، وحال البلد الاقتصادية، ووجود قوّات مسلّحة غير لبنانية على الأرض (…) بالإضافة إلى الخوف من أن تكون قيم الديمقراطية والحضارة التي يمثّلها هذا البلد عرضة للخطر.
هال ألبير مخيبر أن تعمل قوى السلطة، طوعًا أو مكرهة، على إضفاء صفة شرعية على واقعٍ احتلالي، وتشرّع اتّفاقات كيفما اتّفق. ففي 21 أيار/مايو 1991، اجتمع المجلس النيابي ليصدّق على معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق بين الدولتَين اللبنانيّة والسوريّة، انسجامًا مع ما نصَّ عليه اتّفاق الطائف. يومها وقف نائبٌ واحد في المجلس النيابي من بين المائة وثمانية وعشرين نائباً، ليعترض. وصل الدور في الكلمات إلى ألبير مخيبر ليؤكّد بصراحته المعهودة على مرأى ومسمع من كلّ الناس: «نحن من الذين كانوا وما زالوا يرون أن إقامة علاقات حسن جوار ودّية وأخوية صادقة بين لبنان وسوريا أمر طبيعي، لا بل بديهي. لكننا، من ناحية أخرى، من الذين يتمسّكون بمبدأ إرساء هذه العلاقات على أسسٍ واضحة لئلّا يساء في المستقبل تأويلها أو تفسيرها، وعلى مبادئ ثابتة أهمّها المحافظة على سيادة كلّ من البلدَين واستقلاله وعلى الديموقراطية والحرّيات العامة وعلى سيادة القانون». رأى النائب ألبير مخيبر أن إعلان النيّات الحميدة في مقدّمة مشروع المعاهدة أمر جيّد، لكن النصوص التطبيقية والتعامل السياسي بها يخالفان مبدأ الحفاظ على سيادة كلّ من البلدَين واستقلال لبنان وعلى الديموقراطية والحرّيات العامة وسيادة القانون.
مذّاك، رأى مخيبر أن وجود القوّات السورية في البقاع، كما تنصّ المعاهدة، يتنافى مع استقلال لبنان وسيادته. وعدّد أربعة مآخذ قانونية على المعاهدة (كانت لا تزال مشروع معاهدة) التي تخالف الدستور:
- اِستحداثها هيئات ذات سلطة تقريرية لا يجيز الدستور مزاولتها إلّا من هيئتَين، هما مجلسا النوّاب والوزراء. فالدستور يحصر السلطات في مجلس الوزراء والنواب والسلطة القضائية. أما المعاهدة فقد استحدثت سلطة رابعة هي «المجلس الأعلى» الذي أُنيطت به صلاحيات إجرائية، فخالف الدستور. إضافةً إلى أن أعضاءه اللبنانيين لا صفة تقريرية لهم، لا منفردين ولا مجتمعين. وبحسب مخيبر، لا يمكن أبدًا أن تكون قرارات هذه الهيئة إلزامية لأنها ليست سلطة دستورية.
- مخالفتها مبادئ الديموقراطية، إذ أُعدّ مشروع المعاهدة بطريقة سريعة جدًا وبسرّية، رغم ارتباط هذه المعاهدة بأمور سياسية واقتصادية وأمنية جوهرية تؤثّر في حياة المواطنين وسياسة البلد ومستقبله. وأُقرّ مشروع المعاهدة في مجلس الوزراء قبل أن يطّلع عليه الشعب وممثّلوه بهدوء وتمعّن. وسأل مخيبر يومها لماذا تنصّ المعاهدة على أن توصيات لجنتَي الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والدفاع والأمن تعدّ «نافذة بعد اعتمادها من المجلس الأعلى مع مراعاة الأصول الدستورية في كلٍّ من البلدَين، فيما تقول المعاهدة إن «لجنة الشؤون الخارجية تعدّ «الخطط» (لا التوصيات) لإقرارها من المجلس الأعلى (فقط لا غير). كأنّ ما يصحّ بالنسبة إلى لجنة الشؤون الاقتصادية لا يصحّ بالنسبة إلى لجنة الشؤون الخارجية»، واختتم مخيبر مداخلته سنتئذ بالتأكيد أن إنشاء أجهزة دائمة سيؤدّي حتمًا إلى خسارة لبنان استقلالية قراره، وتاليًا سيادته المطلقة، إذ «تصبح هذه السيادة نسبية جدًا ومنقوصة بعد البدع السياسية والقانونية والعسكرية التي استحدثها المشروع واتفاق الطائف.
لم يكلّ مخيبر ولم يملّ ولم تهن عزيمته ولم يتعب من المطالبة بالانسحاب السوري وفي 31 آب/أغسطس من العام 2001 طلب من الرئيس نبيه برّي تعيين جلسة لمناقشة آخر الأحداث التي طرأت على لبنان ومنها انتشار القوّات السورية خلافًا لما جاء في وثيقة اتّفاق الطائف. كان مدركًا أن طلبه محرج ويتخطّى السقوف. هكذا كان وهكذا عاش، منسجمًا مع قيمه ومبادئه وتمسّكه المطلق بالسيادة المطلقة بكلّ تجلّياتها.
ففي آخر مقابلةٍ له، قبل شهرٍ من وفاته، تمنّى ألبير مخيبر لو أن الرئيس بشّار الأسد اصطحب أول سفير سوري إلى بيروت لإنهاء كلّ الخلافات بين الدولتَين المتعلّقة بتبادل السفراء مشيرًا إلى أن ظنّه خاب من خلو تصريح الأسد من تبادل سفراء بين البلدَين. ولم يكتفِ بذلك بل توقّف عند البيان المشترك الذي ذكر «أن سورية تتمسّك بوحدة لبنان وأمنه وسيادته وعروبته”. وقتها، واستنادًا إلى شروط الاستقلال هذه، “فإن لبنان لا تنقصه التزامات، وهو دولة ذات سيادة مستقلّة باعتراف الأمم المتّحدة وله جيش يضمن أمنه لذلك نطلب من الرئيس بشّار سحب جيشه من لبنان لأن الجيش اللبناني فيه كلّ الكفاءات»… وفي النهاية صحّ الصحيح، وانسحب الجيش السوري من لبنان بعد ثلاث سنوات على وفاة ألبير مخيبر.
(*) كتاب “ألبير مخيبر” صادر عن دار سائر المشرق، متوفر في معرض الكتاب العربي والدولي.
المصادر والمراجع:
[1]– مقابلةٌ مع جيزال خوري في برنامج «حوار العمر».
[2]– من حديثٍ إلى صحيفة «النهار» 28 تشرين الأول/اكتوبر 1997.
[3]– من «حوار العمر».
[4]– المصدر نفسه.
[5]– «النهار» 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1998.
[6]– مجلّة «ألافكار» 1 حزيران/يونيو 1998.
[7]– مجلّة «المسيرة -النجوى» تشرين الثاني/نوفمبر 1999.
[8]– لقاءٌ مع المحامي كلود عازوري.