الإحباط من “التغييريين”.. حقيقي أم مُصطنع؟

للمرة الأولى في تاريخ لبنان يصل نوّاب الى المجلس النّيابي من خارج المنظومة التّقليدية. هذه فرصة كبيرة ومتاحة، يجب البناء عليها، أمّا الفشل في ذلك فسيؤدّي إلى خسارة عقود طويلة من النّضال. نعلم أن كثيرين يعملون بالخفاء لإفشال الفرصة، وهنا تتبدى مسؤوليّة مضاعفة عند الجميع، نواباً وناشطين تّغيّيريين.

هنالك إحباط يمكن وصفه بالشّامل أصاب معظم اللبنانيين وبخاصّة أولئك الذين صوّتوا للوائح التي أتت بالنوّاب “التغييريين”. الخلافات بين نوّاب “التّغيير” بدأت منذ اليوم الأوّل وهي ليست بخافية على أحد. منذ استحقاق تسمية رئيس الحكومة ومن بعده انتخاب رئيس المجلس النّيابي ومن ثمّ انتخاب اللجان النيابية وأخيرًا الاستحقاق الرئاسي، لم يظهر “تكتل التغييريين” قادرًا على مجابهة المنظومة. على أقل تقدير، لم يتمكّن من تجييش النّاس وحثّهم لمناصرة طروحاته ولم يبادر حتّى إلى ذلك. لم يقدر على جمع النّاس لتدفيع المنظومة كلفة قراراتها بإعادة إنتاج نفس الوجوه. على العكس من ذلك، نجد أنفسنا اليوم أمام إحباط يُؤسّس لإعدام أي فرصة تّغييرية.

يمكن الإشارة الى حدثين مهمّين وقعا في شهر تشرين الأوّل/أكتوبر، أوّلهما، إعلان النائب ميشال الدويهي انسحابه من “تكتل التغييريين”؛ وثانيهما، التراشق العلني بين النواب إبراهيم منيمنة من جهة ووضّاح الصادق ومارك ضو من جهة أخرى. وبدلًا من تحديد مواقع الخلل والتعلم من الأخطاء ومراجعة النفس وأداء المجموعات، انضمّ عدد مهمّ من الكتاّب والنّاشطين الى هذا التّراشق فأضفوا، من حيث يدرون أو لا يدرون، “نقاءً ثوريّا” على نائب، مقابل اتّهام آخر بالارتهان.. أما الحقيقة فهي في مكان آخر.

ثم أتت دعوة العشاء التي وجهتها سفيرة سويسرا إلى عدد من نواب السلطة بالإضافة الى النائب إبراهيم منيمنة، الذي يبدو انه لم يناقشها داخل الائتلاف، فرمت “التغييريين” في آتون صّراع تجاوز البعد المحلي، حتّى وإن شكّل هذا الصراع جزءًا من حياة اللبنانيين اليوميّة، إلّا أنّ بعض العوامل أضعفت قدرة النواب الجدد على مواجهة تحدٍّ من هذا النّوع، فمعظمهم لا يمتلك خبرة كافية في الشأن العام ولا تجربة سياسية وازنة. كثر من هؤلاء النواب الـ13 أفراد لا ينتمون الى أحزاب فاعلة. أغلبيتهم لم يستمدّ شرعية ترشيحه/ها باسم الثورة من أّي مساهمة فعلية في أنشطة “17 تشرين”، بل إنّ البعض منهم تمّ تبرير ترشيحه(ها) نتيجة طبيعة عمله(ها). “طبيب عيون” عالج الثوار أو “دكتورة في البيئة” أو ما شابه. آخرون تمّ تنظيم ظهورهم المكثف على الشاشات للتحدث عن أنشطة الثورة من دون أي علاقة فعلية لهم بها. ترشّح معظمهم برغم معرفته المسبقة بعدم خبرته في التعاطي في الشأن العام وبعده كلّ البعد عن العمل الجماعي المنظم، وهو الأساس للنجاح في تمثيل أيّ حراك شعبي.

معظم هؤلاء رفعوا لواء “17 تشرين” ولكن روح المساومة والصفقات تغلبت على ما عداها.. ترشّحوا بلا أيّ برنامج مشترك وبلا معايير واضحة لكيفية تشكيل اللوائح. ادّعت هذه اللوائح إذًا تمثيل الثورة، وباستثناء لائحة “شمالنا” التي فاز عنها ميشال الدويهي، ولائحة “سهلنا والجبل” التي فاز عنها ياسين ياسين، فإنّ أيًّا من النواب الآخرين لم يفز من خلال لائحة تبنت بشكل واضح مبادئ 17 تشرين

إنّ الانتماء إلى أحزاب وقوى تغييريّة يضفي أهميّة كبرى على التكوين الفكري لهؤلاء النواب وفي قدرتهم على تناول المواضيع، إذ أنّ العمل الحزبي يتيح التّعرّف على آراء النّاس والاحتكاك بمعاناتهم بشكل مباشر ويضيف إلى العمل الجماعيّ تجربة وتطويرًا. والحقيقة أن إثنين فقط من هؤلاء “التغييريين” ينتسبان إلى حزب سياسي ويلتزمان بالعمل ضمن فريق يضع خططًا ومواقف بشكل جماعي. ميشال الدويهي، عضو مؤسس في “حركة أسس” التي كان لها باع طويل في انشاء تحالف “شمالنا”. حليمة قعقور، عضو في حزب “لنا” وشاركت منذ سنوات في تأسيس مجموعات. إثنان آخران كوّنا خبرة فردية غير حزبية بفعل أنشطتهما العامّة السابقة، سواء أكانت إنسانية أو نقابية وهما النائب ملحم خلف مؤسس “فرح العطاء” منذ أكثر من ثلاثة عقود ونقيب سابق للمحامين، وبولا يعقوبيان النائبة في البرلمان منذ 2018. يمكن كذلك الأمر تسمية نائبين إضافيين هما فراس حمدان الناشط الفاعل في الثورة والنائب ياسين ياسين الذي ترشّح ضمن لائحة شكّلتها قوى ثورية في البقاع الغربي.

عدم انتماء معظم نوّاب التّغيير إلى أحزاب تغييريّة، يحوّل أيّ موقف قد يتّخذه أحدهم إلى خلاف شخصيّ في ما بينهم. ينتج ذلك عن عدم رغبة الائتلاف في خلق أيّ إطار سياسيّ يحميهم جميعًا ويُقوّي عُودهم. معظم هؤلاء رفعوا لواء “17 تشرين” ولكن روح المساومة والصفقات تغلبت على ما عداها. ما عدا بعض الاستثناءات. ترشّحوا بلا أيّ برنامج مشترك وبلا معايير واضحة ومنطقية لكيفية تشكيل اللوائح. ادّعت هذه اللوائح إذًا تمثيل الثورة، وباستثناء لائحة “شمالنا” التي فاز عنها ميشال الدويهي، ولائحة “سهلنا والجبل” التي فاز عنها ياسين ياسين، فإنّ أيًّا من النواب الآخرين لم يفز من خلال لائحة تبنت بشكل واضح مبادئ 17 تشرين. أتت اللوائح هجينة غير متجانسة سياسيًا ولم يجر الاتفاق فيها على الحدّ الأدنى من برنامج مشترك. وجدنا أنفسنا أمام إدّعاء مزيّف بالوحدة، علمًا أن بعض من فاز أتى من صلب حراك 17 تشرين لكّنه رضي بالترشح ضمن لائحة لا يجمعه بمكوناتها فكر سياسي أو حتى مجرّد برنامج عمل قصير المدى. لهذا ظهر “تكتل التغييريين” ضعيفًا منذ أوّل استحقاق عند تسمية رئيس الحكومة، وهو يستكمل المسار نفسه مع استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

إقرأ على موقع 180  المنافسة الإستراتيجية تمهيد لحرب عالمية أم لمنع نشوبها؟

لا أقف في صفّ الدّفاع عن أيّ من النّوّاب ويبقى موقفي واضحًا والتزامي ثابتًا بقرار “مدينتي” في رفض خوض الانتخابات من دون حد أدنى من الرؤى السياسية والمبادئ المشتركة، غير أنّه من الواجب القول إنّ الناشطين هؤلاء يتحمّلون مسؤوليّة كبرى في استكمال خلق فقاعات لن تؤدّي في نهاية المطاف إلّا إلى تعميق الإحباط ونشره بين سائر اللبنانيّين. فبعد فقاعة اللوائح الموحدة بين “المستقلين”، يبنون اليوم فقاعات أخرى حول نائب تغييري في وجه آخر متناسين مسؤوليتهم ومسؤولية من يدافعون عنه/ها في وصول من يهاجمونه/ها اليوم الى الندوة البرلمانية.

لقد حاولنا، ومعظم المجموعات، على مدى أشهر، انجاز رؤى سياسية موحّدة وبرنامج سياسي اقتصادي اجتماعي بالإضافة الى آليّات لتشكيل اللوائح، ضمن تحالف انتخابي بعنوان “معًا”؛ تحالفٌ كان باستطاعته خوض الانتخابات بشكل موحّد في جميع الدوائر الـ15. قبيل الإعلان عنه، شُحذت الهمم لتوسيع التحالف وضم مجموعات إضافية إليه (معظمها من تحالف المعارضة). فعلنا كلّ ذلك لمنع قيام تحالف انتخابي يعمل لصالح أفراد وافق عليهم “ممولو الإعلام”. الكلّ يعلم ذلك، وبدلاً من إعلان “معًا”، تنصّلت معظم المجموعات من التحالف، إمّا طمعًا منها بدعم إعلامي ومحاولة فرض أفراد انتهازيين، وإما لتنأى بنفسها عن هكذا تحدٍّ. سكتنا عن هذا كله منعًا للإحباط قبيل الانتخابات وإفساحًا في المجال أمام فتح نوافذ التغيير، إلا أنّ ما حصل مؤخرًا هو استكمال لهذا المسار العقيم. ها هم، بدلًا من مراجعة أدائهم، يحاسبون بعضهم بعضًا وكأنهم لا يدرون بما كانوا يفعلون سابقًا.

إنّ الأموال التي دُفعت لصالح بعض المرشّحين (ومعظم أصبح نائبًا) وإبراز صورتهم في الاعلام وكأنهم ممثلو “التغيير” حصرًا، لم تكن لتصرف لولا الاستحقاقات التي مرّت وتمر على اللبنانيين هذه السنة. إنّ منافع “ترسيم الحدود” للسلطة العميقة على حساب مصلحة اللبنانيين، أكثر بأضعاف مضاعفة مما تمّ دفعه لوسائل الإعلام وبعض الأبواق الإعلامية. كذلك الإتفاق مع صندوق النّقد الدولي الذي سيعوّم المصارف ويُحمّل الخسائر لأغلبية المودعين.

نعم، لقد نجحت السلطة العميقة في حرف الحراك عن أهدافه المعلنة مثل “المواطنة” و”المحاسبة” و”بناء دولة المؤسسات”. نجحت في إذلال “كلن_يعني_كلن” وتقسيم الثورة.

اليوم تجرؤ السلطة على التحدث علنًا عن نفسها وعن “انجازاتها”، لا سيما رئيس الجمهورية قبيل خروجه من القصر الرّئاسيّ، و”المقاومة” في تبرير الاتفاق مع “إسرائيل”. لم يكن كل ذلك ليحصل لولا الإحباط الكبير الذي أصاب اللبنانيين والذي يستكمله اليوم “أصدقاء” من سمّى نفسه ممثلًا عن “17 تشرين” بالتضامن والتكافل مع أداء “تكتل التغييريين”.

الفرصة متاحة ولكن الوقت يضيق، وعلى التغييريين أن يخلعوا عن أكتافهم كل حسابات المعركة الإنتخابية وأن يرتقوا بخطابهم وممارساتهم إلى مستوى التضحيات التي قدمها من إستشهدوا وجرحوا وأصيبوا باعاقات أو سجنوا أو هاجروا وهم بمئات الآلاف

لا أقول قولي شماتة بأحد، بل لأجدد القول إن من يريد خلق حالة تغييرية فعلية عليه الانخراط الجدّيّ في إطار سياسي “تغييري”، يفرض ايقاعه على “تكتل النواب التغييريين” فيكون حَكمًا له وحاكمًا عليه ويخرجه من الشخصانية؛ إطار يناصر التكتّل ويتفاعل مع طروحاته في الشارع. ولا ضير في القول إنه لولا بعض الناشطين من المودعين الذين تحدوا المنظومة المصرفية ومن خلفها المنظومة السياسية والأمنية، لاختفت الثورة من بعد الانتخابات النيابية. كان من المفترض بوصول نواب من خارج المنظومة لأول مرة في تاريخ لبنان أن يُشكّل رافعة في استعادة الشارع وفي تحميل المنظومة كلفة قراراتها عبر فضح ادعاءاتها. بدل ذلك، اصبح الشغل الشاغل لبعض هؤلاء النواب التغييريين، الاختلاف مع غيره من النّواب على تحديد مستوى براءة سياسي من سياسيّي المنظومة مقابل سياسيّ آخر منها. على “نواب التغيير” أن يعوا المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقهم في استكمال المسيرة التي اوصلتهم إلى مناصبهم الحاليّة وعلى الناشطين الا يدخلوا في مهاترات غير جدية تزيد من الإحباط إحباطًا.

إن أخطر ما يمكن أن يواجهنا في المستقبل هو جعل تجربة النواب التغييريين مدعاة تهكم وإحباط، فلا نجد حماسة في الشارع للنفس التغييري، بل إرتماء في أحضان المنظومة على قاعدة أن من جرّب التغييري المُجرب عقله مُخرب.

الفرصة متاحة ولكن الوقت يضيق، وعلى التغييريين أن يخلعوا عن أكتافهم كل حسابات المعركة الإنتخابية وأن يرتقوا بخطابهم وممارساتهم إلى مستوى التضحيات التي قدمها من إستشهدوا وجرحوا وأصيبوا باعاقات أو سجنوا أو هاجروا وهم بمئات الآلاف من اللبنانيين.

لنبادر..

Print Friendly, PDF & Email
طارق عمّار

مدير شركة آراء للبحوث والاستشارات، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "عقيدة الضاحية" من 2006 إلى 2023!