لماذا يتلكّأ الإعلام عن مواكبة كوكبٍ يحتضر؟

"نحن نسلك الطريق السريع نحو جهنّم مناخي، ونواصل الضغط على دوّاسة السرعة". بهذه الكلمات افتتح الأمين العامّ للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش، يوم الأحد الفائت، القمّة السابعة والعشرين COP-27 للتغيّر المناخي في شرم الشيخ المصريّة. جاءت كلماته بمثابة "صرخة استغاثة" في مواجهة "وقائع الفوضى المناخيّة"، كما وصفها.

وسط توتّرات جيوسياسيّة، انطلقت أعمال قمّة المناخ هذه السنة. يحضرها نحو ثلاثين ألف شخص وأكثر من 120 من قادة الدول، للبحث في كيفيّة تجنّب عواقب التدهور المناخي الكارثي ومناقشة التعويضات التي يُفترَض أن تقدّمها الدول الغنيّة المتسبِّبة بهذا التدهور البيئي، المُسمّى تلطيفاً بـ”تغيّر المناخ”، للدول النامية التي تتحمّل وزره الأكبر. لكنّ اللافت للإنتباه هو الأجواء التي انطلقت بها القمّة. أجواء من التردّد والخجل والإحباط، عكست حجم السوء الذي رُتِّبت على أساسه مائدة العالم. وحجم التفاوت بين طموحات الوفود المشاركة. وبين الواقع “المُرّ” الذي فرضته غطرسة الدول المتقدّمة (الصناعيّة)، فاستحال وبالاً على الكوكب كلّه.

ترفض هذه الدول رفضاً قاطعاً تحمّل “المسؤوليّة التاريخيّة” عن الأضرار التي كبّدتها للبشريّة، كونه يُلزِمها بتعويضاتٍ كبيرة جداً. فكلّ التقارير الدوليّة تؤكّد نكوث معظم دول العالم بالوعود والتعهّدات التي قطعتها، العام الماضي، في قمّة غلاسكو الإسكتلنديّة. وبقدرة قادر، ذهبت أدراج الرياح التزاماتُ 170 دولة من أصل 194 بمراجعة خططها المناخيّة الوطنيّة وتعزيزها. وتبخّرت كلّ الإعلانات والمبادرات والاتفاقات الطوعيّة، مثلاً، للخفض التدريجي لإنتاج الفحم. وتقليص دعم الوقود الأحفوري. وخفض انبعاثات غاز الميثان. ووقف إزالة الغابات.. إلخ. فلقد غرقت، كلّها، في مستنقع الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة التي استحوذت على جلّ اهتمام دول الاتحاد الأوروبي “المُعتبَرة تاريخيّاً” رافعةً لاتفاقيّات المناخ.

المدهش، أنّ قرع الطبول المتواصل منذ حوالى الربع قرن إضافةً إلى التحذير والتخويف والتهويل من احتضار كوكبنا، لا يجد صداه عند القادرين على إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولا عند مَن بيدهم الإمكانيّات للحدّ من زخم الكوارث المناخيّة والبيئيّة التي باتت تهدّد، فعليّاً، كلّ مكتسبات الحضارة والتنمية التي عرفتها البشريّة. وتحتلّ وسائل الإعلام رأس قائمة المقصودين بهذا النداء

ليست هذه السطور، يا أصدقاء، لمناقشة كوارث المناخ التي يبدو أنّها باتت خارج السيطرة. ولا لتوقّع نتائج للانتظارات المعلَّقة عليها. ولا حتّى لمتابعة أعمال القمّة أو معرفة ما إذا كانت ستقدّم معالجاتٍ لتبعات الكوارث التي تسبّبت بها “حضارةٌ متكرّشة وصفيقة، يتّضح أنّها ضلّت السبيل لكنّها مع ذلك مقتنعة أنّها دائماً على حقّ”، بحسب ما يُعبّر الكاتب اللبناني أمين معلوف. ما أودّ تناوله في هذا الإطار، هو حضور الإعلام العربي وأداؤه ودوره وسط كلّ هذه المعمعة. فتغيّر المناخ، الذي يُعتبَر أضخم وأخطر قضيّة تواجه البشريّة جمعاء، يغيب عن الإعلام العربي (واللبناني بخاصّة). وإنْ حضر، فبشكلٍ سريع وسطحي. وكمُلحَقٍ للّقاءات السياسيّة، في أحسن الأحوال.

تغيّر المناخ، بالنسبة إلى وسائل الإعلام العربيّة، هو مجرّد مسألة بيئيّة لا أكثر. فمعظمها يرى إلى هذه الأزمة الوجوديّة العابرة للحدود والعقائد والإيديولوجيّات، على أنّها “ترف”. أو شيء “من الكماليّات”. أو “مسألة ثانويّة” لا تضاهي بأهميّتها، طبعاً، زواج هذا النجم الدرامي. أو لباس تلك الفنانة وعمليّات تجميلها. أو رصد عدد متابعي ذلك الـinfluencer أو ذاك! نعم. فلقد تمكّنت الثقافات الرديئة منّا بالكامل. وتمكّن مسوّقوها من إغراء إعلامنا بقبول “تسلياتها” النمطيّة السلبيّة والرخيصة (التعبير للكاتب الإماراتي يوسف الحسن). وكذلك، النظر إلى ما هو مبتذل ومقيت وغير خاضع للقواعد الجماليّة والمعايير الأخلاقيّة والذائقة السويّة، وكأنّه مصيرٌ حتمي وضروري ينسجم مع “الموضة” والعصر.

لا ينسجم الموضوع البيئي، بالتأكيد، مع الموضة. ولا يماشي العصر أبداً. هكذا يعتقد إعلاميّونا للأسف الشديد. وأكثر. لقد اجتهدوا لجعل الموضوع البيئي موضوعاً هامشيّاً بالنسبة إلى الجمهور العربي الذي صار، بغالبيّته، يعتبره خارج نطاق أولويّاته. من هنا، لا يُشكّل تغيّر المناخ، بالنسبة إلى هذا الجمهور، “مصدر قلقٍ كبير مقارنةً بأقرانه في سائر أنحاء العالم”! هذا ما خلص إليه تقريرٌ أصدرته شبكة الباروميتر العربي هذه السنة. والأمر لا يقف عند عتبة التغيّرات المناخيّة. إنّما ينسحب على جميع القضايا البيئيّة التي همّشها الإعلام إلى أقصى الحدود. وأبعدها عن هموم المواطنين اليوميّة واهتماماتهم.

فبنظرةٍ سريعة على أبرز الوسائل الإعلاميّة العربيّة، نلاحظ شحّاً في المحتوى الذي يتطرّق إلى الأزمات البيئيّة. شحٌّ كمّي وشحّ نوعي. وعليه، لا يعكس إعلامنا العربي الهمّ البيئي. ولا يصنع منه “قضيّة”. ولا يواكبه، بالتالي، بتغطياتٍ موسّعة ومعمّقة. بل، غالباً ما يعرّج عليه بشكلٍ لحظوي. وموسمي. ينحصر، في أكثر الأوقات والمناسبات، بصيغة نقل الخبر عن وكالات الأنباء الأجنبيّة. أو بالبيانات الصادرة عن الوفود الرسميّة المشاركة في “حدثٍ بيئي ما”. ويُلاحَظ، أنّ معظم وسائل الإعلام العربيّة تكتفي بنقل الكلمات الافتتاحيّة العامّة للمسؤولين السياسيّين في المؤتمرات والاجتماعات البيئيّة. وتهمل، بالمقابل، ما يقوله الخبراء ويكون دوماً لبّ الموضوع.

ولئن تزايد ترداد كلمة ”بيئة” في وسائل الإعلام العربيّة آلاف آلاف المرّات خلال السنوات القليلة الماضية، غير أنّ طريقة التصدّي لهذا الموضوع بقيت، في معظم الحالات، مرتبطة بالخبر وردود الفعل الآنيّة على تطوّراتٍ دوليّة وكوارث. والأسوأ، أنّ القضايا البيئيّة لا تشكّل قصصاً إخباريّة بنظر الصحافيّين، ما لم تتضمّن “محفّزات مشجّعة” لهم وللمؤسّسات التي يعملون فيها. إذْ يجب أن تكون قصصهم مرتبطة بكارثةٍ بيئيّةٍ ما. فـ”التغطيات السلبيّة”، إذا جاز التعبير، هي أكثر ما “يجذبهم”؛ الحرائق الضخمة. الهزّات الأرضيّة. الفيضانات المدمّرة. غرق الناس والمنازل والسيّارات في تجمّعات مياه الأمطار المتراكمة دون تصريف. التلوّث الهوائي أو المائي الكبير. تراكم النفايات. تلف الحقول بسبب الجفاف.. وهكذا.

إقرأ على موقع 180  لبنانيون يعترفون بمرارة: نستحق هذا البؤس!

لكن، ليس هذا ما يُثني إعلاميّينا عن المضي قُدُماً في تحويل المخاطر البيئيّة من مجالٍ يشغل حيّزاً في بعض الصفحات أو الفقرات المتخصّصة، إلى مسألةٍ تمسّ الناس في العمق. وتشكّل رأياً عامّاً داعماً للبيئة وقضاياها! فتبعاً للمثل الفرنسي القائل “حملة صحفيّة متقنة لمدّة شهريْن كفيلة بأن تقود الفرنسيّين إلى الإيمان بالله”، يستطيع الإعلاميّون أن يستوحوا ما يجب القيام به لإطلاق أهمّ الحملات الصحفيّة المطالبة بالبيئة النظيفة والسليمة! لا يمكن تحميل وسائل الإعلام والإعلاميّين وحدهم، بالتأكيد، مسؤوليّة التقصير في إنتاج إعلامٍ يتصدّى لقضايا البيئة. وبخاصّة، في ما يتّصل بموضوع التغيّر المناخي الذي يرسم على ضوئه بعضُ العلماء سيناريوهات مخيفة لفناء الحياة على كوكبنا الأزرق.

عوائق عديدة تحول دون قيام الصحافيّين، عموماً، بتغطياتٍ بيئيّة مفيدة ومهمّة وناجحة في هذا المجال.

قد يكون أبرزها، عدمُ فهم معظم الصحافيّين لعلم تغيّر المناخ. سواء من حيث أسبابه أو أوجه الخلاف المتعلّقة به أو تأثيراته الحاليّة والمتوقَّعة. ويعبّر باحثو الإعلام عن إحباطهم من عدم كفاية التقارير التي يُعدّها الصحافيّون. إذْ تدفعهم هذه الفجوة المعرفيّة لديهم لتشويه الواقع، أحياناً، عن طريق ارتكاب أخطاء علميّة. ولا سيّما وأنّهم يركّزون، غالباً، على القضايا التي تجذب اهتمام المتابعين عوض تركيزهم على المحتوى العلمي لنصوصهم.

أمّا الطامة الكبرى فتتمثّل، في “تلطّي” الصحافيّين الصارم خلف بناء ما يُسمّى بلغة الإعلام “التغطية المتوازنة”. أي، عدم جواز بثّ رأي متحفّظ للغاية إذا لم يرافقه بثّ رأي آخر معاكس. ويعارض العلماء والباحثون هذه القيمة الصحفيّة الأساسيّة المطلوبة حصراً، بتقديرهم، في التغطيات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. لكن عندما يتعلّق الأمر بالقضايا العلميّة التي تكون الغالبيّة العظمى من المجتمع العلمي قد أجمعت عليها، فتغدو هذه التغطية المتوازنة هرطقة!

تغيّر المناخ، بالنسبة إلى وسائل الإعلام العربيّة، هو مجرّد مسألة بيئيّة لا أكثر. فمعظمها يرى إلى هذه الأزمة الوجوديّة العابرة للحدود والعقائد والإيديولوجيّات، على أنّها “ترف”. أو شيء “من الكماليّات”. أو “مسألة ثانويّة” لا تضاهي بأهميّتها، طبعاً، زواج هذا النجم الدرامي. أو لباس تلك الفنانة وعمليّات تجميلها

مسألة أخرى تعيق الصحافيّين في تغطياتهم البيئيّة. إنّه التشكيك بخطورة تبعات ما يقومون به، إذا ما تجاوزوا “الخطوط الحمراء” الموضوعة من جانب أصحاب المصالح الذين يدمّرون البيئة من أجل زيادة ربحيّتهم! فلا يمكن فصل التغطية الصحفيّة لقضايا البيئة، بعامّة، وتغيّر المناخ والاحتباس الحراري، بخاصّة، عن سياسات الأنظمة السياسيّة الحاكمة. فالحديث عن قضايا البيئة، يضع الإعلامي في مواجهة أصحاب المصالح آنفي الذكر. والمافيات التي تعيث بالبيئة تخريباً وإفساداً. ويضعه كذلك، بمواجهة اللوبيات النفطيّة التي تموّل الكثير من الوسائل الإعلاميّة حول العالم. فهذه اللوبيات تضغط لبثّ تقارير مضادّة لتغيّر المناخ. ولزرع الشكّ بأسبابه. وللادّعاء بأنّه ظاهرة طبيعيّة.

وفي بعض الدول البتروليّة وتلك التي تعتمد على الطاقة، يجهد المسؤولون لدفع الصحافيّين إلى اعتماد “تغطية ناعمة” للاحترار العالمي وغيره من المشاكل البيئيّة، في محاولةٍ منهم لوقف القلق العامّ المتزايد. وقد حذّر مقالٌ نشرته مؤسّسة “ذا سنتشوري فاونديشن”، قبل عاميْن، من الحرب التي تشنّها الأنظمة الاستبداديّة على صحافة البيئة “تحت شعار تهديدها للأمن القومي”. فكثيراً ما يُقلِق نشاطُ الصحافة البيئيّة تلك الأنظمة. إذْ تعتبره تهديداً لشريان حياة اقتصاداتها. وتفيد دراسة لمنظّمة “مراسلون بلا حدود” في هذا السياق، بأنّ ما لا يقلّ عن 21 صحافيّاً قُتلوا خلال العقد الماضي وزُجّ بنحو 30 آخرين في السجون، بسبب تحقيقاتهم في قضايا حسّاسة مثل التعدين غير القانوني وإزالة الغابات والاستيلاء على الأراضي والتلّوث الصناعي.

كلمة أخيرة. قد تكون قضيّة التغيّر المناخي أشدّ فتكاً وتدميراً من أيّ حربٍ تقليديّة على هذا الكوكب. لكنّ اللافت بل المدهش، أنّ قرع الطبول المتواصل منذ حوالى الربع قرن إضافةً إلى التحذير والتخويف والتهويل من احتضار كوكبنا، لا يجد صداه عند القادرين على إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولا عند مَن بيدهم الإمكانيّات للحدّ من زخم الكوارث المناخيّة والبيئيّة التي باتت تهدّد، فعليّاً، كلّ مكتسبات الحضارة والتنمية التي عرفتها البشريّة. وتحتلّ وسائل الإعلام رأس قائمة المقصودين بهذا النداء. إقتضى التذكير.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  فضائح "ديوان" حمدوك: إستعمار إختياري في عصر ما بعد الكولونيالية