ليس الخبر في “الأرقام القياسيّة” للفترة التي استغرقها تشكيل تلك الحكومة على أهميّته. بل في ما حدث معي في تلك الجلسة. تموضعتُ يومها، مع باقي زملائي الصحافيّين، في الطابق العلوي للقاعة العامّة للبرلمان (حيث يوجد النوّاب). فهو المكان المخصّص لنا كصحافيّين، ولكبار الشخصيّات التي تُدعى أحياناً لحضور بعض الجلسات النيابيّة “الاستثنائيّة”. شبكتُ رُكبتاي فوق بعضهما، كعادتي عندما أجلس في أيّ مكانٍ عامّ. فهي الوضعيّة المريحة لي لتدوين الملاحظات على دفتري الصغير الذي كان يرافقني أينما ذهبت. فجأة، أحسستُ بيدٍ خشنة تُربّت على كتفي: “يا متموزيل (آنسة) نزّلي إِجْرِك واقعدي مليح”! “عفوااااااً”، قلتُ للعسكري صاحب اليد بتعجّب. وأردفت: “يا أيّها، ألا ترى أرجُل السادة النوّاب الممدّدة على الطاولات؟ ولا كيف يستلقي بعضهم على الأريكة وكأنّهم في سهرة سمر؟ رأيتَ، حصراً، قلّة تهذيبي في الجلوس يا محترَم؟!”. “هِنّي غير شي..!”، أجاب بحزم مُنهياً حديثه معي.
لا أبالغ إذا قلت، إنّ هذه الحادثة والمداخلات التي كان يقدّمها بعض النوّاب وعلامات الضجر التي كانت ترشح من وجوه بعضهم الآخر (لم يكن قد اختُرِع الـ smart phone ليتسلّوا به أثناء تسليتهم بنا) و… كلّ ذلك ساعدني لأحسم حالة التردّد التي كنتُ أعيشها. وتركتُ لبنان بعد 16 شهراً على ذاك الحوار، بالتمام والكمال. فلقد صدمني كلّ ما كان يصدر عن “مجموعةٍ من البشر” كنتُ أعتقدها، أنا الصحافيّة الطريّة العود، أنّها من “النُخب”! وأكثر. لقد صعقني مستوى الدجل الذي تظهّر في ختام الجلسة. كم جادلوا وصاحوا ومسحوا الأرض مندّدين بالبيان الوزاري المعروض عليهم! فهمستُ في سرّي: “يا لطيف..! هوذي الوزراء كيف بدهن يطلّعو بعيون الناس بعد هالجلسة؟ مستحيل ياخذو الثقة!”.
حسم التافهون معركة هيمنتهم على السلطة في لبنان. هذه حقيقة أكّدتها نتائج انتخابات 2022. فغالبيّة النوّاب اللبنانيّين يعانون من انعدام الأهليّة L’ineptocratie. ويعني هذا المفهوم هنا، أن تستلم الحكمَ مجموعةٌ من عديمي الموهبة والكفاءة والثقافة السياسيّة والمنتخَبين من الناس الأقلّ قدرة على كسب معيشتهم
أمضيتُ يومي، وأنا أتنقّل بين الداخل والخارج. فكنتُ أحرص على ألاّ يمرّ موجز إخباري أو نشرة من دون رسالةٍ صوتيّة عن مجريات نقاشاتٍ “مفصليّة”. وبعد جلسةٍ ماراتونيّة، بدأ النوّاب بالتصويت على الثقة أو حجبها برفع اليد. ويُرفقون تصويتهم بالإعلان بالصوت العالي “ثقة”. أو “لا ثقة”. نالت حكومة كرامي ثقة أكثريّة النوّاب. بمَن فيهم، أولئك الذين أطالوا بردحيّاتهم. وأشبعوا البيان الوزاري قدحاً وذمّاً. أجل. مذّاك، يشكّل البرلمان اللبناني المنصّة المفضّلة للسياسيّين لإطلاق عروضهم المسرحيّة. في التصويت على الثقة بالحكومات. أو في سائر صنوف عمليّات الاقتراع التي يتولاّها النوّاب (انتخاب رئيس المجلس ونائبه وهيئته، اللجان النيابيّة المتخصّصة، نصف أعضاء المجلس الدستوري، بعض قضاة المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، انتخاب رئيس الجمهوريّة..).
الجلسات التي يدعو إليها رئيس البرلمان نبيه برّي منذ أيلول/سبتمبر الماضي لانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، تندرج ضمن هذه العروض المسرحيّة التي سرعان ما تحوّلت إلى عروضٍ هزليّة. اسمعوا كيف يعرّف المختصّون هذه العروض؛ يقولون إنّها تشبه، قليلاً، المسرح الكوميدي. لكنّ الفرق يتمثّل في كون المسرحيّة الهزليّة تستخدم أحداثاً سخيفة وعجيبة للغاية. وغالباً ما تبرز شخصيّاتها بشكلٍ تافه. أو مُبالَغاً فيه. هي باختصار مهزلة تعتمد، في بعض الأوقات، على الفكاهة! لكنّ المهزلة التي لا ينفكّ نوّابنا يعرضونها علينا أسبوعيّاً، تخلو من الفكاهة. لقد تحوّلت إلى دراما حقيقيّة تنكأ الجراح. ونحن تعبنا ولم يعد في قلبنا مساحات تكفي لتلك الجراح. أنفقنا كلّ الصبر الذي بحوزتنا. وكلّ التجلّد والتجمّل والسماح.
لا أدري كم من مرّةٍ اعتراني القرف والاشمئزاز، وأنا أتابع جلسة (مجلس النوّاب) يوم الخميس الفائت! ذكّرتني بتغطيتي لتلك الجلسة قبل 33 عاماً. فانتابني شعورٌ بأنّ العالم يتداعى حتّى أصبح ممسوخاً. أحسستُ كأنّني أتابع بثّاً مباشراً من منطقةٍ نائية غمرتها مياه الطوفان. فشاهدتُ سِماط المهزلة تغمر القاعة العامّة لمجلس النوّاب. لكنّ طوفانها لم ينتقِ موضوعات معيّنة ليجعلها غريبة، فحسب. بل قَلَبَ وجود المشهد وتنظيم الآفاق المتوارَث، رأساً على عقب. فكان لطغيان ثالوث التفاهة والبلاهة والنيّة الجرميّة في سلوك النوّاب، مفعولُ خدعةٍ سينمائيّةٍ ناجحة. وإنْ كانت معروفة.
إنّه لَأمْرٌ فظيع أن يجتمع هذا الثالوث لدى الكائنات البشريّة. في الزمان والمكان، ذاتهما! فيصبح مثل كوكتيلٍ حارق. مولوتوف. نعم. فجلسات نوّاب “أمّتنا الخالدة”، يا أصدقاء، صارت ضرراً موصوفاً لهذا الوطن. شرّاً مستطيراً يفتك بنا. حتّى وإنْ كانت تبدو كلعبةٍ صبيانيّة بالتراشق بالحصى. بين زعران هذا الحيّ وزعران ذاك الحيّ. لكن في لحظات الذروة تصبح أكثر إثارةً للفزع، على تفاهتها. إذْ يبدأ حاوي هذه “الشلعة النيابيّة” حفلة استعراضه بالنار. بهدف إدهاش “الشلعات النيابيّة الأخرى”. والاستحواذ على عقول ناسها بخدعة نفث النار من الأفواه. يا إلهي.. ما أقبحهم! يا إلهي.. ما أبشعنا! وكأنّنا، نحن اللبنانيّين، لم نقرأ عمّن دفعوا أعمارهم ثمناً لكلمة “نعم” التي كان يجب أن تكون “لا”!
لكن لماذا يحصل ما يحصل في برلماننا الموقّر؟
يقف اللبنانيّون مشدوهين أمام مَن انتخبوهم، وهم يقوّضون ما بقي من مؤسّسات الدولة. ولستُ هنا، بالتأكيد، لتشريح الأسباب والظروف والمعطيات التي “تبرّر” العجز المستدام لنوّابنا عن انتخاب رئيسٍ للبلاد. بل هي محاولة لفهم الدوافع التي تجعل من الجلسات النيابيّة مهزلة المهازل! بضعة أمورٍ لا بدّ من التوقف عندها في هذا الإطار:
أوّلاً، منذ انتخاب بشير الجميّل رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة (وشقيقه أمين من بعده)، لم نعد نشهد على أيّ عمليّةٍ انتخابيّة في لبنان. لا في سدّة الرئاسة ولا في البرلمان ولا في أيّ منصبٍ آخر. فالصراع السياسي المتصاعد ولعبة موازين القوى على ضوئه، أضحيا أكبر من أيّ عمليّةٍ انتخابيّة في البلاد. قُضي على “مفهوم” الانتخابات، بالكامل. صار كلّ انتخابٍ عندنا نوعاً من التعيين أو التسمية لكن بثوب “الاقتراع”. بمعنى أوضح، صار “مفهوم” التسوية بين الأطراف المتصارعة هو السائد فوق كلّ اعتبار. تُطبَخ التسويات على نارٍ هادئة أو حامية تبعاً للظروف (السياسيّة أو الأمنيّة). ومن ثمّ يُدعى النوّاب (أو غيرهم) للـ”بَصْم” وإعطاء الشرعيّة لهذا التعيين أو تلك التسمية. لا أكثر ولا أقلّ. وعليه، لم تنضج طبخة الرئاسة بعد.. فانتظروا “لينبت الحشيش”!
ثانياً، لا يُضير الكتل النيابيّة بقاؤنا، نحن اللبنانيّين، في الجحيم؛ لا بل إنّ الوضع الحالي يناسبها ويناسب “أولياء أمرها” إلى أقصى الحدود. من هنا، تأتي المسرحيّات الهزليّة لهدر الوقت في مجلس النوّاب اللبناني كنموذجٍ اختير لقمع انتظارات الشعب، داخل البرلمان. فبعد قمع الثوّار، خارج المجلس وعلى أسواره، بالرصاص والهراوات وقلع العيون والاعتقالات، تفتّق العقل السياسي اللبناني عن هذه “الطريقة الحضاريّة” للبطش. طريقة، تتفنّن في هدر الوقت لتمريره بانتظار تسوية “تنصف” هذا الطرف أو ذاك. فإذا بالمماطلة تمتزج بالتسويف والسجالات العقيمة والغوص في متاهاتٍ قانونيّة وترّهاتٍ دستوريّة لا طائل منها أو جدوى. كلّ ما يحصل هو ابتزازٌ تهديدي. ومثلما قالت واشنطن في الـ 1988 “إمّا مخايل الضاهر رئيساً أو الفوضى”، تردّد القوى السياسيّة اللبنانيّة المقولة ذاتها اليوم (بخاصّة حزب الله): “إمّا مرشّحنا رئيساً أو الفراغ (والفوضى)”!
ثالثاً، يحتقر المجلس النيابي اللبنانيّين. يستصغر عقولهم وعيونهم التي تُبصِر. إنّه جنون العظمة وشهوة السلطة. سمتان انتقلتا إلى سياسيّينا إمّا بالوراثة أو بقوّة، ما كان يُسمّى أيّام الحروب، “سلطة الأمر الواقع”. وبعضهم اكتسب هاتيْن السمتيْن اكتساباً. بالتقليد أو بالدُرْبة. ومَن كان مجنوناً بعظمته ولديه جوعٌ شديد للسلطة، لا يمكن إلاّ أن يحتقر مَن هم دونه رتبةً وشأناً. فهو لا يعترف لهم بأيّ كرامة. ولا بأيّ حقٍّ في الاعتراض والرفض. ولا سيّما، إذا كانوا ممّن “هُندِس إدراكهم” بما يخدم مصالح الباب العالي ويهبه شرعيّة الوجود. مرّةً تلو المرّة. فالمجنون بعظمته يعتقد أنّه في شخصيّته يختزل كلّ شيء. ويرى العالم من خلالها، فقط. فهو المركز الذي تدور حوله الكواكب. وكلّ ما يدور حوله ينطلق من وجوده.
لا يُضير الكتل النيابيّة بقاءنا، نحن اللبنانيّين، في الجحيم؛ لا بل إنّ الوضع الحالي يناسبها ويناسب “أولياء أمرها” إلى أقصى الحدود. من هنا، تأتي المسرحيّات الهزليّة لهدر الوقت في مجلس النوّاب اللبناني كنموذجٍ اختير لقمع انتظارات الشعب، داخل البرلمان
رابعاً، حسم التافهون معركة هيمنتهم على السلطة في لبنان. هذه حقيقة أكّدتها نتائج انتخابات 2022. فغالبيّة النوّاب اللبنانيّين يعانون من انعدام الأهليّة L’ineptocratie. ويعني هذا المفهوم هنا، أن تستلم الحكمَ مجموعةٌ من عديمي الموهبة والكفاءة والثقافة السياسيّة والمنتخَبين من الناس الأقلّ قدرة على كسب معيشتهم. أي، هو النظام الذي يسمح بظهور أسماء وجماعات سياسيّة ضحلة. ما يجعلهم عاجزين عن فرض إرادتهم وإرادة مَن انتخبهم وولاّهم (إذا وُجِدَت أصلاً!). وعن أخذ القرار، أيضاً. وأنتم تعرفون أنّ مَن لا يمتلك ذاته، لا يمكن له أن يقرّر. وهو إذْ يعتقد أنّه يقرّر (مثل بعض نوّابنا)، لن يلاحظ أنّ ما قرّره، يكون عادةً ما يجب عليه أن يقرّره!
كلمة أخيرة. تفقد الحضارات مرتبتها بعد فترةٍ طويلة من الانحطاط. ولذا، يكون لدى أبنائها الوقت الكافي كي يعتادوا على تهميش موقعهم والإذعان لانتفاء أهميّتهم ولكي يلتزموا الصمت. يقول تيودور هرتزل الأبّ الشرعي للصهيونيّة السياسيّة الحديثة متوجّهاً للإنسان اليهودي: “كلّ ما يهمّني هو أن تتكلّم. حتّى ولو كان كلامك ضدّ الصهيونيّة. لكن لا تصمت. فالحديث عن الشيء، ولو بتفاهة، يعرضه على أنظار الناس”. إقتضى التذكير.