إختار جبران باسيل رمزية القصر الجمهوري في بعبدا ورمزية ميشال عون رئيس الجمهورية، اليوم (الأحد) من أجل تحشيد شارعه في مواجهة باقي الشوارع المسيحية وليس حراك 17 تشرين الأول/أكتوبر. ويمكن القول إنها المرة الأولى في تاريخ لبنان الذي يطل فيه رئيس الجمهورية على جمهور حزبي إحتشد في الشوارع المؤدية إلى القصر الجمهوري، برغم الطابع العام لكلمته وتحذيره من الساحات والمظاهرات المضادة وتركيزه فيها على ثلاث أولويات: الفساد، الإقتصاد والدولة المدنية.
أولاً، لنقرأ إختيار بعبدا. قبل أقل من شهر، إختار جبران باسيل منطقة الحدث، أحد أبرز معاقل العونيين تاريخيا لإقامة المناسبة الأحب إلى قلب جمهوره: ذكرى 13 تشرين الأول/ أكتوبر، اليوم الذي إقتحم فيه الجيش السوري القصر الجمهوري في بعبدا في العام 1990، وإضطر بعدها الجنرال ميشال عون للجوء إلى السفارة الفرنسية ومن بعدها ترحيله إلى الإقامة الجبرية في فرنسا حتى ربيع العام 2005. أسابيع من التحضير والتحشيد، لم يتجاوز معها الحشد في منطقة الحدث في قضاء بعبدا، رقم الخمسة آلاف، حسب جهاز أمني لبناني معني (جهاز آخر قدر الحشد بنحو 7 إلى 8 آلاف)، بينما كان مقدرا أن تملأ الحشود ساحة المهرجان وكل الدروب المؤدية إليها.
قبل مناسبة الحدث، وضع جبران باسيل الحجر الأساس للمقر الجديد لحزب التيار الوطني الحر. كان الحشد صادما بالمعنى السلبي للكلمة. لا أحد يريد أن يستدرك أو يحاسب أو يناقش بالحد الأدنى. سيري فعين الله ترعاك. هذه هي أحوال التيار.
بدا واضحا في السنوات التي أعقبت وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وخصوصا في إحتفال الحدث الأخير، أن الباسيلية يجب أن تصبح أيقونة توازي العونية. طغت صور باسيل التي تم توزيعها على الحاضرين، فيما ضمرت صور “الجنرال”، فإحتلت منصة المسرح المركزي. بدا المنتج الجديد باهتاَ، والأساس أن صاحبه يفتقد للكاريزما، وهو أمر إما أنه يدركه جيدا أو أن هناك من طلب منه محاولة تثبيت وتكريس صورته في أذهان العونيين حتى تعلق تدريجيا ويتصالح الجمهور معها، من دون أن تختفي صورة “الجنرال”.
في مهرجان بعبدا اليوم (الأحد)، إختفت صور باسيل وحضرت فقط صور ميشال عون. طغت أعلام لبنان على أعلام التيار الوطني الحر، وهذه مألوفة في المهرجانات العونية. كانت صور باسيل نادرة، وحتى الهتافات والأغاني كانت تذكر بالزمن العوني الجميل. الخلاصة أن لا جهوزية باسيلية حتى الآن، والأمور تحتاج إلى إعادة صياغة من جديد..
ثانيا، إختفت من قاموس جبران باسيل في إحتفالية بعبدا المصطلحات المألوفة في القاموس العوني في السنوات الأخيرة التي أعقبت وصول “الجنرال” إلى بعبدا. لا خطاب مسيحيا ولا إشارة إلى المسيحي القوي أو الماروني القوي. حتى المصطلحات ميّزت خطاب الحدث (الجرف، الجبابرة، المواجهة، الإنتصار، قلب الطاولة إلخ..) إختفت عن الخطاب الجديد. إنه خطاب ما بعد السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر.
ثالثا، تماهى باسيل مع خطاب ميشال عون في الذكرى الثالثة لوصوله إلى بعبدا، بما تضمنه من تركيز على أولوية الإنتقال من النظام الطائفي إلى الدولة المدنية العصرية، وأن تكون أول خطوة بهذا الإتجاه إقرار قانون مدني للأحوال الشخصية. هذه النقطة أعاد التأكيد عليها باسيل بتبنيه شعار الدولة العصرية المدنية العلمانية. التبني ليس وليد لحظة، بل بداية مراجعة نقدية لم تكتمل فصولها، وتشي بأن التيار الوطني الحر وجد أن الذهاب إلى الخطاب الطائفي المتطرف لن يجعل المسلمين يترحمون على خطاب كميل شمعون وبشير الجميل وبيار الجميل، بل سيؤدي أولا إلى سحب البساط من تحت أقدام باسيل، إذ أنه مهما رفع سقفه مسيحيا، لن يستطيع المزايدة على تنظيم مسيحي مثل القوات اللبنانية. أكثر من ذلك، لا يجد هكذا خطاب أي صدى إيجابي عند الطبقة الوسطى المسيحية التواقة للإستقرار والتواصل والحوار مع الآخر. من هنا، بدت شرائح هذه الطبقة أقرب إلى ساحات الحراك الشعبي، منها إلى ساحات التيار الوطني الحر في الأسابيع الأخيرة.
إذا إستمر السلوك الحالي بالخلط بين إدارة القصر وإدارة التيار لا يصب لا في مصلحة رئاسة الجمهورية ولا جبران باسيل
رابعا، ما جرى في بعبدا اليوم، يعطي الدليل على أن هناك من يدفع في التيار بإتجاه إعادة قيامة التيار العوني، لكن وفق معايير جديدة تعيد إليه شيئا من الجاذبية التي إختفت في الآونة الأخيرة. يشي خطاب باسيل بأنه يتجه نحو معركة تصفية حساب قاسية جداً مع القوات اللبنانية، تذكّر البعض بمشهدية العام 1989. نزل العونيون إلى الساحات المسيحية كلها وإحتلوها، بالتزامن مع مؤتمر الطائف رفضاً له. قرر سمير جعجع الرد، فكان مهرجان “المقاومة اللبنانية” في السادس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 1989 في الكرنتينا (مقر قيادة القوات في تلك المرحلة)، وقال جعجع كلمته الشهيرة “وهل تُسأل القوات عن موقفها من الطائف”. خطاب شكل المدماك الأول في مسار إنتهى بالقوات إلى ما إنتهت إليه في منتصف تسعينيات القرن الماضي. قد يكون المشهد هذه المرة مقلوبا، إذا قرر باسيل أن “يسكر” بالمشهدية ويمضي في مساره الإنحداري، لن يصل حتما إلى رئاسة الجمهورية، وتصبح أسئلة الوراثة في التيار نفسه مطروحة على الطاولة، أما إذا أحسن باسيل التصرف وقرر أن يتواضع هذه المرة، فإنه قادر على صرف رصيد “الجنرال” وخطابه بالسياسة، برغم أن تلك المسألة شائكة ومعقدة وصعبة.
خامسا، من مصلحة رئاسة الجمهورية والتيار الوطني الحر، رسم حدود بين الإثنين. لا يجوز أن يستمر تصرف أكثرية الطبقة السياسية مع ميشال عون بوصفه الرئيس الشكلي، بينما الرئيس الفعلي هو جبران باسيل. إذا إستمر السلوك الحالي، بالخلط بين إدارة القصر وإدارة “التيار”. الخلط بين مكتب رئيس الجمهورية ومكتب رئيس “التيار”. الخلط بين فريق رئيس الجمهورية وفريق رئيس “التيار”، ناهيك عن إضفاء الطابع العائلي (الباسيلي تحديدا) على القصر، الخلط في المقدرات. العلاقات. روزنامة المواعيد. كلها لا تصب لا في مصلحة رئاسة الجمهورية ولا جبران باسيل.
سادسا، لا بد من المصالحة بين جبران باسيل وباقي مكونات التيار الوطني الحر، ولا سيما أولئك المعارضين وجميعهم من فئة المناضلين الذي شاركوا في الحراك الشعبي. هذه المصالحة لا يجب أن تكون شكلية أو على قاعدة أنا ربكم الأعلى. مصالحة يجب أن تفتح الكثير من الدفاتر برعاية رئيس الجمهورية، ومن دون إقصاء أحد بمن فيهم المحيط الأقرب إلى رئيس الجمهورية (إبنتاه ميراي وكلودين وصهره شامل روكز الذين غابوا عن الصورة). الملاحظ أن خطاب جبران باسيل يشي بأن الأمور قد تذهب إلى معركة كسر عظم مع هؤلاء جميعا، والأخطر أن تحظى معركة الإلغاء المستمرة منذ سنوات، بغطاء من “بي الكل”، أي رئيس الجمهورية (قال في خطابه : نحن جيل عون ولكي نتحمل يجب الا يكون بيننا خائف و لا خائن وأهل الخيانة قلائل جدا في صفوفنا).
سابعا، على جبران باسيل إعادة صياغة علاقته، كما وزير دفاعه إلياس أبو صعب، مع قيادة الجيش اللبناني، بمعزل عن الصح أو الغلط في سلوكها. لا أحد ينكر أن أحد أبرز عناصر كاريزما “الجنرال” هي البدلة العسكرية المرقطة، بدليل أنه عندما إرتداها رئيس حكومة عسكرية في القصر الجمهوري، إستطاع أن يجتاح الشارع المسيحي وأن يستقطب من الشوارع الإسلامية، وأن يشن حروب تحرير وإلغاء. عندما خلعها وإستوى على كرسي القصر الجمهوري رئيسا مدنيا، بدا أنه يحتاج للتذكير بها دائما. ولعل الحراك الشعبي الأخير، يبرز في ضفته المسيحية أن الحزب المسيحي الأول هو حزب الجيش اللبناني، بمعزل عن إسم قائده وشبهة علاقته بهذه الدولة أو تلك أو حتى طموحاته الرئاسية.
ثامنا، ثمة نقاش فعلي إستهله جبران باسيل قبل أيام قليلة في إجتماع عمل مغلق، طرح خلاله أسئلة جوهرية حول مصلحة التيار الوطني الحر بالبقاء في الحكومة. هذه قضية جوهرية وأساسية، والمفارقة أن الجواب عليها ليس عند باسيل أو رئيس الجمهورية، بل عند الحليف الأول حزب الله. ثمة قائل، وهو من المقربين من الثلاثة، بأنه كان من مصلحة باسيل أن يستقيل قبل إستقالة وزراء القوات اللبنانية من حكومة الحريري، وأنه من مصلحته ألا يلزم نفسه برسم سقف سياسي عال، بحيث يشترط تسميته وزيرا مقابل تسمية الحريري، فأي سلوك سياسي في هذا الإتجاه، هو الطريق الذي يؤدي بالتيار إلى المزيد من الإنحدار، بدليل ما أظهرته بعض إستطلاعات الرأي التي أجريت لمصلحة بعض السفارات الأجنبية في لبنان مؤخرا، ويدرك مضمونها كل أطراف الساحة المسيحية، بأن الأداء الحالي لباسيل سيجعله يتعادل مع القوات اللبنانية في أحسن الأحوال، إذا جرت إنتخابات نيابية مبكرة.
تاسعا، لمصلحة جبران باسيل أن يذهب إلى معركة رئاسة الجمهورية، طالما أراد أن يضع نفسه على سكتها الإلزامية: هل البقاء في الحكومة يفيد في هذا الإتجاه؟ هل يمكن إبرام صفقة مع سعد الحريري من تحت الطاولة يكون مضمونها أن التيار الوطني الحر مستعد ليس لأن لا يتمثل رئيسه في الحكومة الجديدة، بل لأن ينتقل إلى ضفة المعارضة النيابية، لكن هل يمكن أن يضمن الثمن مقابل ذلك (الإلتزام بتصويت المستقبل لمصلحة باسيل رئيسا للجمهورية)؟
عاشرا، مع اشارته الى أن الدور أهم من الموقع يدرك جبران باسيل أن جمهور الساحات التي دعا إلى ملاقاتها، كما سبقه إلى ذلك رئيس الجمهورية، هو جمهور طبقة وسطى بأغلبيته، وهو جمهور كان معظمه ينتمي إلى ساحات التيار الوطني الحر، لكن سلوك الحزب البرتقالي في السنوات الأخيرة، أدى إلى تحول التيار الحر إلى ماكينة إنتخابية تعمل تحت آرمة “التيار الوطني الحر” لرئيسه جبران باسيل. الحزب يتذكر ناسه فقط في مواسم الإنتخابات الداخلية والنيابية. صار التيار بماكينته التنظيمية مجرد أداة للحشد وليس للتواصل مع الناس والإستماع إلى همومهم ومطالبهم. إدارة تكنوقراطية أو على الأصح بيروقراطية تعمل في المواسم، أي أنها مجرد سكرتاريا إدارية، وهذا الأمر يقتضي حصول إنتفاضة في قلب التيار لإعادته إلى منابته السياسية والإجتماعية والمدنية، وأن تكون ماكينته أكثر فاعلية وأن لا تكتفي بإستهلاك رصيد الحلفاء، وتحديدا حزب الله، إلى الحد الذي يجعلها في لحظة ما مجرد عبء عليه، فيصبح التخفف منه تدريجيا، أفضل وسيلة للتصالح مع الشارع المسيحي، خصوصا إذا أمكن للشارع المسيحي المستقل المتفلت من عقال الحزبيات أن ينظم نفسه من الآن وحتى الإنتخابات المقبلة، بمرشحيه وناخبيه حتى يقدم نموذجا جديدا وصادما للجميع.. وعندها يصح القول إن ما بعد 17 تشرين الأول/أكتوبر ليس كما قبله.