أساطير إتفاق الطائف.. وحقائقه!

لو كان الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو صاحب نظرية العقد الاجتماعي حياً يُرزَق لوقف حائراً أمام اتفاق الطائف. في بلد العجائب لبنان، يبدو اتفاق الطائف كأنه كُتب بعقل وحبر المهاتما غاندي ولُزّم تنفيذه إلى "أبو عبد البيروتي" البارع في تدوير الزوايا وإبرام التسويات.

في الأونة الأخيرة ساد في لبنان جدل حول مدى صلاحية اتفاق الطائف. وهو ميثاق الوفاق الوطني الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1989 وتم التوصل اليه في مدينة الطائف السعودية. ثمة جدال صاخب بين من يرى الاتفاق سبباً للأزمة التي بلغها لبنان سياسياً وإقتصاديا ومالياً بعد أكثر من ثلاثة عقود على تطبيقه وبين من يتمسك به حصناً لمنع الإنزلاق إلى الحرب الأهلية مجدداً.

وليس خافياً وجود أبعاد طائفية في خلفية موقف هذا أو ذاك من القوى اللبنانية المتصارعة. بين طائفة تعتبره ضمانة لها وطائفة تحمّله مسؤولية الإطاحة بإمتيازاتها التاريخية، فيما تقف ثالثة تتحدث عنه مواربة. هذا الجدل يُعبّر عن شخصية أي عقد اجتماعي لبناني يتم الاتفاق عليه وممارسته.

منذ العام 1943 حتى العام 1989، كان يُقال دائماً بأن لبنان محكوم بـ”صيغة العام 1943″، وهو التاريخ الذي نال فيه لبنان إستقلاله عن فرنسا. لو عدنا إلى الأرشيف، لن نجد وثيقة إستندت إليها الصيغة. إتفق بشارة الخوري أول رئيس إستقلالي للبنان مع رئيس الوزراء رياض الصلح على بيان وزاري صار لاحقاً بمثابة وثيقة إستقلالية. ما تم تنفيذ طوال 46 سنة هو دستور العام 1926، وكان تعبيراً عن موازين قوى جديدة، أسّست لها الثورة السورية الكبرى في العام 1925 وإستمرت طوال عامين، قبل أن تُهزم عسكرياً ولكنها أرست معادلات وضعت لبنان وسوريا على سكة الإستقلال. ثم هل كان الشيخ بشارة بقبعته الشهيرة ورياض بيك بطربوشه الشهير أمناء للنص الدستوري، أم أنهما كرّسا أعرافاً وتقاليد جديدة في الممارسة؟ وهل حصل فساد ومحسوبيات في ذلك الزمن أم أن ممارسة السلطة كانت مثالية؟ الجواب يأتي فقط بإستعراض تجربة “السلطان سليم” شقيق الشيخ بشارة الخوري، وهو أحد أعمدة الفساد في النظام السياسي اللبناني.

طرحت هذه الإشكالية للقول إن الممارسة أقوى من الإتفاقات. أقوى من عشرات الإتفاقات التي إختبرها لبنان بين العامين 1975 و1990، من إتفاق القاهرة (1969) إلى إتفاق الدوحة (2008). هذا هو لبنان. بلد مجبول على صياغة الاتفاقات والخلاف حول تنفيذها.

لذا، تعالوا نتفق أولاً أن إتفاق الطائف بشكله الممارس منذ العام 1992 إلى 2005 لا يمت بصلة إلى صيغته الأصلية. هناك فرق بين الأساطير والنصوص. اتفاق الطائف جاء تعبيراً عن إرادتين خارجية أولاً ولبنانية ثانياً تلقتيان عند أولوية إنهاء الحرب، وهو سقط بإرادتين خارجية وداخلية، ليس لأنه قلّص من صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني أو أنه نقل صراع الأحزاب من الشارع الى الدولة. بل لأن الرئيس السوري حافظ الأسد، بدهائه التاريخي، جعل نظيره اللبناني إلياس الهراوي يضع ختمه على ما كانت دمشق تطمح إليه منذ إستقلال لبنان، فجاءت “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق” بين لبنان وسوريا لتضع البلدين على سكة “المسار والمصير الواحد”.

جاء توقيع هذه المعاهدة على مسافة شهور قليلة من إنهاء تمرد العماد ميشال عون في 13 تشرين الأول/أكتوبر 1990، في خطوة عسكرية سورية جاءت ترجمة مباشرة لقرار تفويض دمشق بإدارة لبنان بمباركة أميركية عربية، وهو تفويض ما كان ليحصل لولا مشاركة حافظ الأسد في حرب تحرير الكويت من الإحتلال العراقي في صيف العام 1990.

ثمة أحداث إقليمية ودولية من الوزن الاستراتيجي الثقيل شكلت قوة الدفع الرئيسية لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية. تحقق الهدف الأول. إنتخب رينيه معوض ثم الياس الهراوي رئيساً للجمهورية. تحقق الهدف الثاني. جاء أوان المهمة الأصعب وهي نقل لبنان من آتون النظام الطائفي إلى رحاب النظام المدني. نظام المواطنة

في ثمانينيات القرن الماضي، جرت محاولات عدة للجم فيضان الحرب اللبنانية على كامل رقعة الشرق الأوسط. لكن مع انتهاء الحرب العراقية الإيرانية (1988) استعرت الساحة اللبنانية مرة أخرى. صراع بالوكالة بين بعثي الضفتين السورية والعراقية، مما زاد من إستشعار الخارج لخطورة نيران الداخل اللبناني.

اكتشف أعضاء اللجنة السباعية العربية (العراق وسوريا والجزائر والمغرب والكويت وتونس والسعودية) أن جهودهم لإنهاء الحرب الأهلية في لبنان لن تثمر طالما أن للطرفين السوري والعراقي أجنداتهما السياسية في لبنان. حينذاك، ولدت فكرة اللجنة الثلاثية وتم الترويج لها بحنكة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل. فقد شكل مؤتمر القمة العربية الطارئ الذي عقد في الدار البيضاء في العام اللجنة الثلاثية العربية العليا (السعودية والجزائر والمغرب) وفوّضها بمعالجة الأزمة اللبنانية. هنا أصبح الوصي العربي على لبنان من دون أجندات خاصة لبنانياً كحال دمشق وبغداد، لتنتقل اللجنة الثلاثية بعد ذلك الى جميع عواصم القرار المعنية. من واشنطن الى لندن وباريس مروراً بموسكو وبكين لعرض أوراق عملها وتصوراتها لحل الصراع الدائر في لبنان.

إقرأ على موقع 180  محمد الصفدي.. "قصة موت مُعلَن"

وعلى سيرة التصورات، هناك قولٌ سائد أن من صاغ اتفاق الطائف هو اللجنة الثلاثية العربية. هذه أسطورة من الأساطير. الحقيقة هي أن كل أوراق العمل التي تجمعت لدى اللجنة، انما كانت نتاج تراكم من أوراق عمل لبنانية سابقة. من البرنامج المرحلي للحركة الوطنية اللبنانية (1975)، إلى أوراق مؤتمري لوزان وجنيف والاتفاق الثلاثي وصولا الى لحظة انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل وانقسام لبنان بين حكومتي سليم الحص والعماد ميشال عون في أوخر ثمانينيات القرن الماضي حين ولادة اللجنة الثلاثية ذاتها. عملت اللجنة على جمع هذه الأوراق لمعرفة القواسم المشتركة وصياغة ورقة عمل موحدة واضعة نصب أعينها ثلاثة أهداف رئيسية: انهاء الحرب في لبنان؛ انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية ورسم خريطة طريق لإنهاء النظام الطائفي في لبنان.

سادت قناعة لدى أعضاء اللجنة الثلاثية أن نظام المحاصصة الطائفية هو العلة الأصلية. وقد رصد الوزير الأخضر الإبراهيمي بدقة أن اللبنانيين أثناء الحرب لم تكن لديهم أي نزعة استقلالية وتقسيمية. منها مؤشرات يرددها أن الصحف كان هاجسها عبور خطوط التماس بين بيروت الغربية والشرقية يومياً. صحيفتا “السفير” و”النهار” (مكاتبهما ومطابعهما كانتا في الحمراء) كانتا حريصتين ان تصلا الى بيروت الشرقية.. والعكس صحيح مع صحف “العمل” و”الأحرار” و”الديار” التوّاقة للعبور يومياً الى بيروت الغربية. إضافة الى أن العملة اللبنانية كانت محط اجماع حيث لم يطرح أي حزب لبناني طبع عملة خاصة بهذه المنطقة أو تلك. هذا لا ينفي حقيقة بشاعة الحرب وجرائمها، وهي أكثر من أن تُحصى وتعد وندر أن يكون قد نجا منها بيت لبناني واحد.

ثمة أحداث إقليمية ودولية من الوزن الاستراتيجي الثقيل شكلت قوة الدفع الرئيسية لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية. تحقق الهدف الأول. إنتخب رينيه معوض ثم الياس الهراوي رئيساً للجمهورية. تحقق الهدف الثاني. جاء أوان المهمة الأصعب وهي نقل لبنان من آتون النظام الطائفي إلى رحاب النظام المدني. نظام المواطنة. لكن مع ابرام المعاهدات السورية ـ اللبنانية، غداة حرب تحرير الكويت، تم تدشين عهد الوصاية السورية على لبنان، وكانت اللجنة الثلاثية العربية أول من دفع الثمن بإنهاء مهمتها، بدل أن يكون إنتخاب رئيس جديد للبنان وإنهاء تمرد العماد عون المدخل لتنفيذ مضمون وثيقة الوفاق الوطني، اي الشق الثالث والأخير من إتفاق الطائف.

في تلك اللحظة، بدأت نسخة جديدة لحكم لبنان تحت مظلة دولية اسمها اتفاق الطائف، إستمرت عملياً حتى العام 2005 لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. مع خروج القوات السورية من لبنان وانتهاء الوصاية، جرت محاولات عدة لترميم اتفاق الطائف، لعل أهمها إبرام الإتفاق (التحالف) الرباعي الذي صمد لمدة شهور قبل أن يسقط في رمال الوصاية الإقليمية والدولية الجديدة على لبنان. ما يدفعنا للسؤال هل يجب ان يكون هناك وصي لإدارة لبنان؟

من يأخذ اتفاق الطائف الى صيغته السورية يزداد قناعة بالحاجة الى وصاية ما خارجية. لكن كلما أخذت إتفاق الطائف إلى دك الأساسات الطائفية للبنان، كلما إنحسر منسوب الحضور الخارجي في الداخل اللبناني، ما يعني ضمناً تلازم الطائفية والوصاية الخارجية.

ثمة إشكالية أن الطائف هو تعبير عن لحظة إقليمية ودولية سقطت مع دخول الدبابات الأميركية إلى بغداد في العام 2003. كل ممارسة اللبنانيين للحكم منذ العام 2005 حتى يومنا هذا تشي بالإرتجال وإعتماد أعراف لا تمت بصلة إلى إتفاق الطائف. وعندما تتحول الممارسة الى أعراف تُنسج الكثير من الأساطير حول إتفاق الطائف.

ينبغي لمن يريد تحصين السلم الأهلي اللبناني أن يطرح ليس سؤال التمسك بالطائف بل العودة إلى النسخة الأصلية للطائف ومدخلها تشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية ضمن خطة إنتقالية تحرر مجلس النواب اللبناني من القيد الطائفي وتجعل مجلس الشيوخ هو الإطار الناظم ميثاقياً، فيكون لبنان مجدداً أمام فرصة جديدة للحياة.. بدل الجدل حول مرور ثلاث وثلاثين سنة على إتفاق لم يوضع يوماً واحداً موضع التنفيذ.

Print Friendly, PDF & Email
طارق زيدان

كاتب سعودي

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  محمد الصفدي.. "قصة موت مُعلَن"