لا شكّ في أن لحظة انطلاق الحرب المركّبة في سوريا، كانت بداية لارتفاع مستوى الاستقطاب الدولي، بين محورين متناقضين: الأول هو الذي ما زال مستمراً حتى الآن، مرخياً بظلاله على العالم أجمع، وتهيمن عليه سياسات دولة الأمن القومي في الولايات المتحدة، ومعها دول الاتحاد الأوروبي و”إسرائيل” والأغلبية العظمى من الدول العربية، والتي تحالفت عملياً مع قادة “إسرائيل” وتركيا، من أجل إخراج سوريا من تموضعها الجيوسياسي وتدميرها. والثاني هو القوى الآسيوية الناهضة، ممثلةً بالصين وإيران والهند، متحالفةً مع روسيا.
وعلى الرغم من قدرة الولايات المتحدة على استقطاب أكثر من 133 دولة، بعنوان “أصدقاء سوريا”، فإن القوى الآسيوية الصاعدة الكبرى وروسيا، وقفت موقفاً متبايناً بقوة الاصطفاف إلى جانب دمشق، لكنها اجتمعت على خطورة نجاح المشروع الأميركي على أمنها القومي، في حال انهيار سوريا الكلّي، فكانت شدة مواقفها تجاه الحدث السوري مرتبطة بحجم المخاطر عليها. وهذا دفع إيران وروسيا إلى أن تتصدّرا المواجهة العسكرية مع المشروع الغربي في سوريا، ودفع الصين إلى التوافق مع روسيا من أجل منع تأمين غطاء قانوني في مجلس الأمن لغزو سوريا، وبقيت الهند وباكستان خارج إطار المواجهة، مع الإصرار على عدم الاصطفاف ضمن محور “أصدقاء سوريا”، الذي صنعته الولايات المتحدة، وحافظتا على علاقاتهما بدمشق، واستمرار سفارتيهما فيها، ومحاولة مساعدتها على نحو لا يُغضب الأميركيين.
وأخذ الموقف الهندي وضعاً مغايراً بعد بدء الحرب في أوكرانيا، واصطفافها العملي والضمني إلى جانب روسيا، ليقينها بأن استراتيجية الأمن القومي الأميركي لن تتيح لأيّ دولة أن تخرج من إطار هيمنة السياسات المالية للبنك الفيدرالي الأميركي، وهذا ينطبق على الهند، بطبيعة الحال، التي تشهد نهضة صناعية وتكنولوجية، يمكنها أن تشكّل تهديداً للمكانة الغربية ونموذجها الليبرالي المتوحش، بالتآزر والتنافس مع القوى الآسيوية الصاعدة، والتي تشكل 40% من سكان العالم واقتصاده، ولها إرث تاريخي حضاري إمبراطوري متنوع الثقافات والأديان والإثنيات، على العكس من فردانية الثقافة الليبرالية في العالم الغربي.
فرصة الهند مع القوى الآسيوية الأُخرى، يمكنها أن تبدأ انطلاقاً من المناطق التي تسيطر عليها دمشق، لتبني نموذجاً اقتصادياً قادراً على استقطاب المناطق السورية خارج السيطرة، وتشجع السوريين على العودة، مع خبراتهم ورؤوس أموالهم الهائلة، إلى بلدهم. وكل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلّا عبر الخروج من استمرار السياسات الحالية. فهل يمكننا أن نتفاءل بذلك؟
في إثر هذا التحول الهندي عبر تحدي سياسات الولايات المتحدة، تحقّقت فرصة جديدة لسوريا من أجل الخروج من عزلتها الدبلوماسية، وثمارها الاقتصادية الممكنة، بعد أن شاركت أغلبية الدول العربية في حصارها وتدميرها، في حرب أهلية كارثية على الجميع، واستمرار هذه الدول حتى الآن في منع عودتها إلى العمق العربي، بفعل الأسباب الذاتية الأقرب إلى الشخصية، وبفعل حسابات البحث عن أدوار إقليمية، تتلاءم مع ملاءاتها المالية، النفطية والغازية، وبفعل الصراعات البينية فيما بينها، واستمرار التأثير الأميركي في قراراتها. وهذا ما تبدَّى في مؤتمر القمة العربية الأخير في الجزائر، وإغلاق الأبواب في وجه سوريا، مرةً جديدة.
أكَّد إعلان زيارة وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، للهند صواب الموقف السوري، القاضي بالتوجه نحو آسيا، بعد أن فُرض عليها الخروج من لعبة التوازن بين الشرق والغرب، وبين إيران وتركيا والسعودية، كقوى إقليمية متنافسة أو متصارعة على طبيعة رؤيتها للنظام الإقليمي في غربي آسيا، ولَم يعد لها الخيار إلّا أن تنحاز إلى الغرب وتركيا و”إسرائيل” والدول العربية، فحسمت قرارها عبر التموضع الجيوسياسي مع القوى الصاعدة والمتحدِّية للإرادة الأميركية، فاصطفّت مع إيران وروسيا والصين بصورة حاسمة، وانتظار الهند وباكستان، على نحو أدّى إلى منع إسقاط دمشق، التي وصلت المجموعات المسلحة السورية إلى أبوابها، وهي المجموعات التي تقودها الولايات المتحدة، عبر الدول العربية وتركيا و”إسرائيل”. واستطاعت، من خلال هذا التموضع، استعادة السيطرة على 65% من الأراضي السورية، على الرغم من أن ذلك ترافق مع تدهور الوضع الاقتصادي بصورة كارثية، وارتفاع مستوى الفقر إلى أكثر من 94% بين السوريين، واستمرار تدفق الهجرة واللجوء إلى الخارج. وهذا لا يتلاءم مع القدرات الاقتصادية لحلفاء دمشق، المستعدّين لتقديم الدعم الاقتصادي، ومنهم الهند، التي أعلنت استعدادها، في هذه الزيارة، لمساعدة سوريا على إعادة الإعمار، ونقل خبراتها التكنولوجية إليها.
والأمر لا يتوقف على ما يمكن أن تقدّمه الهند، وكذلك الصين وروسيا وإيران، في المجال الاقتصادي، وإطلاق حالة التعافي، فالأمر يرتبط دولياً باستمرار مخاطر الصراع الدولي، وعدم توافر البيئة الآمنة للاستثمار والمساعدة. فالانقسام السوري ما زال مستمراً، من الناحية الفعلية، في 3 مناطق، خارج سيطرة دمشق، في الشمال الشرقي، حيث الاحتلال الأميركي، وفي الشمال الغربي، حيث الاحتلال التركي، وفي الجنوب السوري، الذي ما زال غير مستقر، بفعل استمرار غرفة الموك في عملها المتقطّع حتى الآن، انطلاقاً من الأردن، بالإضافة إلى استمرار البنية السياسية والإدارية الداخلية، والتي أثبتت تفاقم عجزها عن تلقف الفرص الدولية من أصدقائها الآسيويين في الدرجة الأولى، وغياب بيئة العمل الاقتصادي الطبيعي التشاركي المنتج، بالإضافة إلى استمرار التشريعات الاقتصادية والبيروقراطية المعرقلة لأي شريك في العمل.
فرصة الهند لا تنفصل عن الفرص السابقة، وهي، مع القوى الآسيوية الأُخرى، يمكنها أن تبدأ العمل الاقتصادي، انطلاقاً من المناطق التي تسيطر عليها دمشق، لتبني نموذجاً اقتصادياً قادراً على استقطاب المناطق السورية خارج السيطرة، وتشجع السوريين على العودة، مع خبراتهم ورؤوس أموالهم الهائلة، إلى بلدهم. وكل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلّا عبر الخروج من استمرار السياسات الحالية. فهل يمكننا أن نتفاءل بذلك؟
(*) بالتزامن مع “الميادين“