فضيحة ليبور: هزالة أوروبا.. والحصون المالية الأمريكية (1)

"أوروبا حديقة، لقد بنينا حديقة، أفضل مزيج من الحرية السياسية والرخاء الاقتصادي والترابط الاجتماعي استطاعت البشرية أن تبنيه، لكن بقية العالم ليس حديقة تماماً، بقية العالم.. أغلب بقية العالم هو أدغال".

امتعض كثير من المتابعين مؤخراً من هذا التصريح الذي أطلقه جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشئون الخارجية والسياسة الأمنية، أثناء فعاليات افتتاح الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية الجديدة ببلجيكا. وقد أثار هذا التصريح المتعجرف الكثير من الجدل لا سيما في دول العالم الثالث. هذه المواجهة بين “الحديقة” الغناء من ناحية، و”الأدغال” المتخلفة من ناحية أخرى، ليست ما يستحق الإهتمام، برغم أهميتها، فالمواجهة الأهم من وجهة نظر الكثير من المحللين والباحثين في شؤون الاقتصاد الدولي، هي تلك التي يقولون بحدوثها ما بين أوروبا وبين -لا ليس روسيا كما توقعت- بل بين القارة العجوز .. وأمريكا.

على ذكر روسيا، ما تحاول أن تقوم به دول تحاول مناوشة النظام العالمي، على رأسها الصين، روسيا والهند من بعيد، هي محاولة تغيير أسس التعاملات المالية للنظام العالمي، والأسس التعاقدية لتبادل الديون والأوراق المالية، في كل من السوقين الحقيقي والاشتقاقي، والتي تعتمد بشكل أساسي على الدولار الأمريكي كعملة مهيمنة. هي عملية تراكمية طويلة الأمد لخلق نظام بديل قد تفضي إلى نجاح وربما إلى فشل. بينما المواجهة الأوروبية-الأمريكية، هي محاولة لفرض السيطرة على النظام الدولي القائم من الناحيتين الاقتصادية والمالية. وهو أمر لا يحصل على الكثير من الاهتمام من المحللين الناطقين بالعربية. لذا، دعونا نحاول بذل جهد متواضع لتسليط قبس من الضوء على هذا الجانب الخفي/الظاهر، من المواجهة بين فريقين من النخبة الحاكمة للاقتصاد/النظام الدولي.

الاحتياط واجب أمريكي

لنترك إذن تصريح بوريل وراءنا والذي سنعود إليه لاحقاً، لكي نذهب إلى تصريح ربما يبدو غير هام للوهلة الأولى، ولكنه مفتاح دال على مسار الأحداث من جانب بنك الاحتياط الأمريكي. تصريح الاقتصادية دانييل دي مارتينو بوث، التي تعد أحد العالمين ببواطن الأمور داخل بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي، حينما قالت بطرق مختلفة ما معناه:

“جيروم باول يحاول تنفيذ عملية تدمير محكمة لسوق قروض الرافعات المالية”!

Danielle DiMartino Booth & Tom Luongo

فسر الباحث والكاتب المالي الأمريكي توم لوونجو Tom Luongo، تصريح دانييل بوث في سياق الحالة العامة للاقتصاد العالمي. وهنا تجدر الإشارة إلى مقولة شهيرة للسيدة بوث نفسها وهي أن “الاقتصاد هو السياسة”. عودة لتفسير لوونجو، فقد قال بأن ما تقصد بوث قوله هو أن جيروم باول، مدير بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي، يحاول تدمير اقتصادات الدول المتقدمة، والأسواق الدولارية الأوروبية. سيطر على استغرابك من قراءة هذه الجملة، فقد قالتها دانييل بوث بالفعل، في سياق أحد اللقاءات التي أجريت معها على قناة Wealthion بموقع يوتيوب.

وأضاف لوونجو في تفسيره لكلماتها، بأن ما قصدته بقولها “قروض الرافعات المالية”، هو في الحقيقة “أسواق الدولار الخارجية Offshore Dollar Markets”، أو ما يطلق عليه اختصاراً “اليورو دولار Eurodollar”. وهو ما يقول أن هدف الولايات المتحدة هو “تسييله” للقضاء على نقطة قوة السوق المالي الأوروبي. مصطلحات فنية معقدة من عالم الاقتصاد الذي لا يفهمه إلا أهل الإختصاص. لا ضير في ذلك، فالهدف هو عرض الفكرة، ربما يلتقطها من هم أكثر تخصصاً في هذا المجال. لنحاول من جانبنا التفسير قدر الإمكان.

ما يقصده لوونجو من تغطية بوث لما تقصده بمصطلح أشمل مثل قروض الرافعات المالية، له مدلولاته. فقد قال إنها لم ترد ذكر اليورو دولار، لأنها تعلم أنها إذا فعلت ذلك، ربما تفقد مدخلها إلى أروقة بنك الاحتياط الفيدرالي. لأن هذا هو لب الموضوع الذي نجتهد في فهمه هنا.

الهام في الأمر هو معرفة ما الذي يخيف ويزعج أوروبا بشكل خاص، ومن يصطف على جانبي المواجهة. لنحاول فك بعض طلاسم هذه المنظومة المالية الدولية، لنفهم المشهد الأوسع لما يحدث. ما يمكن تلخيصه في القادم من سطور.

نتيجة التلاعبات، أعلنت هيئة الإدارة المالية البريطانية FCA، في 2017، أنها ستقوم بالسحب التدريجي لمقياس ليبور حتى نهاية عام 2021، مما أجبر جميع المؤسسات المالية الأمريكية والأوروبية، على الاندفاع في اتجاه تعديل جميع التعاقدات والمعاملات المالية الجديدة، بمقياس سوفر النيويوركي، بدلاً من ليبور اللندني الفضائحي

الحمائية المالية عبر الفصل

يقول الكثير من الباحثين الاقتصاديين، ما لا تريد دانييل بوث قوله صراحة، وهو أن القرارات والإجراءات المالية التي تتبعها الولايات المتحدة منذ 2019، هدفها واضح. فصل سوق المال الأمريكي عن “شقيقه” الأوروبي، ومنافسته بسندات مالية ذات فائدة أعلى، تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية، ويحدد فائدتها البنك الفيدرالي، وذراعه الأيمن بنك الاحتياطي الفيدرالي (نيويورك)، أكبر “فرع” من فروع النظام البنكي المركزي بالولايات المتحدة، ضمن 12 فرعاً.

هذا التوجه الذي يستنبطه بعض المحللين، يستند إلى خطوات اتخذتها أمريكا في السنوات القليلة الماضية، أهونها بيانات التضخم الأمريكية، التي تُعرّض السوق المالي الأوروبي للضغوط، نتيجة انخفاض رغبة المستثمرين في المخاطرة في سوق ذي مؤشرات سلبية مثل تلك.

لكن القرارات الأمريكية الأهم هي، إعلان اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة عن إنشاء كيانين منفصلين لاتفاقيات إعادة الشراء. أحدهما محلي Domestic standing repo facility، والآخر دولي FIMA repo facility. إجراء هدفه تسهيل إجراءات وتعاملات سوق الشراء-البيع-إعادة الشراء، لكن غرضه الأساس كما ذكر موقع federalreserve.gov الرسمي ذاته هو:

“التعامل مع الضغوط على أسواق التمويل الدولارية الدولية (ضمنها اليورو دولار)، التي يمكن دون ذلك الإجراء أن تؤثر سلباً على حالة الأسواق داخل الولايات المتحدة الأمريكية”.

أعلم أنه كلام تخصصي معقد، لكن لا مجال لتفاديه في هذا السياق. ييد أن المعنى الواضح من التصريح بتأسيس هذين الكيانين، لا يحتاج إلى خبير اقتصادي ليفهم. فهو فصل وحمائية للسوق المالي الأمريكي، من تقلبات وتأثيرات سلبية على السوق الأمريكي، قد تصيبه عند اتخاذ قرارات خاصة بأسواق الدولار الخارجية. فهمنا دواخل الأمور أم لم نفهم، المغزى واضح، وهو الفصل.

أضف إلى ذلك قرار آخر أكثر أهمية وأشد صعوبة في الشرح، هو قرار لجنة “مؤشر الأسعار المرجعية البديلة” AARC، التي تنعقد بدعوة من بنك الاحتياط الفيدرالي وفرعه بنيويورك، بالتحول من معدل ليبور LIBOR، إلى معدل SOFR. لنتعرف بشكل مختصر على هذين المصطلحين. 

من مؤشر لندني إلى مؤشر نيويوركي

LIBOR يحمل الأحرف الأولى لمصطلح The London Inter-Bank Offered Rate. هو حساب متوسط سعر الفائدة المحسوب على القروض والمعاملات المالية والتجارية، مبني على التقديرات المقدمة من البنوك الرائدة في لندن. وهو المتوسط الذي ساد حسابه كل تعاملات الإقراض الدولية بأنواعها منذ سبعينيات القرن العشرين. تزامناً مع تحول الدولار عن الارتباط بمعيار الذهب، مما قضى على نظام بريتون وودز بشكل فعلي، فيما سمي إعلامياً بصدمة نيكسون The Nixon Shock. جدير بالذكر أن لمؤشر ليبور LIBOR ميزة، وهي أن تقديراته أكثر مرونة، فهو يتيح حساب نسب الفائدة على سبعة مقاييس زمنية، تتراوح مدتها من يوم واحد إلى 12  شهراً. مما يعني موافقته بشكل تام مع العقود الآجلة، وإتاحته فرصاً أكبر لأرباح أعلى على المعاملات، من خلال مرونة حسابات النسب الموزعة على فترات أطول. مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المرونة، هي أحد أهم أسباب ارتفاع معدل المخاطرة في حساب ليبور.

بينما SOFR، الذي تختصر أحرفه مصطلح Secured Overnight Financing Rate، هو متوسط لذات معدل الفائدة على القروض والمعاملات المالية والتجارية، لكن حسابه يتم بشكل يومي، معتمداً على حسابات حقيقية – وللكلمة هنا مغزى- لتكاليف الاقتراض والتمويل والمعاملات. وهذا المتوسط يقوم بحسابه وإعلانه يومياً بنك الاحتياطي الفيدرالي فرع نيويورك، مؤمناً بسندات حكومية أمريكية كضمانات اقتراض. وهو ما يجعل سوفر الأمريكي أكثر أمناً وأقل عرضة للمخاطرة من متوسط ليبور البريطاني. حيث يستند حسابه إلى حجم أكبر من المعاملات التي يمكن ملاحظتها ومراقبتها من الجميع، مما يجعله أقل عرضة لعمليات التلاعب والاحتيال، عكس مؤشر ليبور.

باختصار، الفارق الرئيسي بين ليبور وسوفر، أن الأول يبنى على معدلات مستقبلية، بينما ينظر الثاني فقط إلى الليلة السابقة لتاريخ المعاملة.

وهذه الأخيرة نقيصة في نظام سوفر برغم انخفاض معدل المخاطرة في حسابه. هذا العيب هو الذي دفع لجنة “مؤشر الأسعار المرجعية البديلة” AARC تخطط لتطوير مؤشر SOFR قادر على النظر للمستقبل، ويتوافق مع محددات المنظمة الدولية لهيئات الأوراق المالية (IOSCO). واكتفت حتى تتمكن من ذلك، بتضمين حساب مستقبلي يقدر حسب عدد أيام التعاقد المطلوب مستقبلاً، بضرب نسبة SOFR المحسوبة مسبقاً، في عدد أيام النظرة المستقبلية، كحل مؤقت.

بينما يواجه مؤشر SOFR مشكلة أخرى، هي التعاملات البنكية الإسلامية، التي تتطلب بالضرورة أسعاراً مستقبلية. وهذه المعاملات تعامل بذات الطريقة المؤقتة، التي تعتمد على حساب متوسط يومي للفوائد، وضربه في عدد الأيام المطلوبة، لكي تحافظ على متطلب رئيسي للتعاملات الإسلامية، وهو “الفائدة المتغيرة”.

الفارق الرئيسي بين ليبور وسوفر، أن الأول يبنى على معدلات مستقبلية، بينما ينظر الثاني فقط إلى الليلة السابقة لتاريخ المعاملة

فضيحة ليبور وفوضى التحول

إقرأ على موقع 180  التطبيع السعودي-الإيراني.. القفزة الصينية الكبرى في المنطقة   

نأتي لكلمة حسابات حقيقية في وصف متوسط سوفر، لكي نفهم مغزاها الدال على عنصر المخاطرة الأعلى في حسابات متوسط ليبور، وقابليته للتلاعب من قبل الجهات التي تتبادل المعاملات والقروض، التي كانت في مرات لا يمكن حصرها. معاملات لا وجود لها إلا على الورق أو في سجلات كمبيوترية. وهو ما وصل بالأمر إلى حد الفضيحة في عام 2012. فيما اشتهر إعلامياً باسم “فضيحة ليبور Libor Scandal”.

كاريكاتير عن فضيحة ليبور

هذه الفضيحة كشفت تفاصيلها عن احتيال وتواطؤ فيما بين عديد البنوك في عملية تسعير الفائدة، وعدم استناد العقود إلى معاملات حقيقية بسوق الودائع، وعدم احتفاظ هذه البنوك بسجلات لمثل تلك المعاملات بالطبع، لأنها لم تتم سوى على الورق. فقد تعاونت هذه البنوك في تقديم بيانات مزيفة، لكي تحقق من خلالها أرباحاً أكبر من عمليات التداول، التي كان الكثير منها قروض تذهب وتجيء فيما بين البنوك Interbank loans، افتراضياً، مما يزيد من عدم الثقة في مؤشر قياس الفائدة ليبور، ويضاعف من عنصر المخاطرة السوقية، الذي يعد من خصائصه أساساً.

هل يمكن أن نعد هذه الفضيحة المالية هي السبب الأبرز لتوجه الولايات المتحدة نحو صنع مؤشر حساب SOFR. الإجابة نعم ولكن. نعم، لأن معدل ليبور بارتفاع نسبة المخاطرة فيه، يثبط من همم المستثمر في التجرؤ على الشراء، الاقتراض، التمويل أو المعاملة التجارية بالفعل. ولكن، ذلك ليس هو السبب الوحيد لظهور سوفر الأمريكي في نظر المحللين.

نتيجة التلاعبات السابق ذكرها التي انكشفت في 2012 عبر فضيحة ليبور، أعلنت هيئة الإدارة المالية البريطانية FCA، في 2017، أنها ستقوم بالسحب التدريجي لمقياس ليبور حتى نهاية عام 2021، مما أجبر جميع المؤسسات المالية الأمريكية والأوروبية، على الاندفاع في اتجاه تعديل جميع التعاقدات والمعاملات المالية الجديدة، بمقياس سوفر النيويوركي، بدلاً من ليبور اللندني الفضائحي. وهي عملية معقدة، قد تذكر المتابع بحالة التخبط التي صاحبت تعديلات إضافة ضريبة القيمة المضافة لجميع المعاملات التجارية في أسواق العالم.

وهنا تظهر المشكلة الأولى في عملية التحول، وهي كيف يتم تعديل نظام حساب الفائدة بمؤشر سوفر، على العقود طويلة الأجل التي تم حسابها وتفعيلها سابقاً بحساب مؤشر ليبور. وهذا هو “الحيص بيص” المالي الذي تعج فيه كل بنوك العالم ومؤسساته المالية والتجارية حتى وقتنا هذا. هذه المشكلة، يمكن أن تعد سبباً في المشكلة الثانية. ألا وهي، أن الولايات المتحدة ستتمكن من خلال تعاملات بنكها المركزي بالاعتماد على مؤشر سوفر المؤمنة بسندات خزانتها بشكل مباشر، بينما تقبع أوروبا في الخلف، مضطرة في أسواق اليورو دولار والتعاقدات المسعرة بالدولار، أن تتعامل بالمؤشر القديم المتهاوي، ذات معدل المخاطرة الأكبر.

تجدر الإشارة إلى أن الفيدرالي الأمريكي رفع مؤخراً سعر الفائدة في سوقه الداخلية، وعلى سندات الدين الأمريكية. مما أضاف ميزة تنافسية لا تقاوم، جعلت السندات الأمريكية، استثماراً مضموناً، مع بقاء أوروبا غير قادرة على فعل الشيء ذاته. أضف إلى كل هذه المشاكل، أزمة تفشي جائحة كورونا من ناحية، ثم الحرب الروسية-الأوكرانية، التي لم يمكن لها أن تأتي في وقت أسوأ بالنسبة للقارة الأوروبية من ناحية ثانية. أضف إلى ذلك توقف مورد طاقة رئيسي من جانب روسيا لأسباب متعددة، والاضطرار لاستيراد بدائل تبلغ أسعارها أضعاف وحدات الطاقة الروسية.

هذا هو المنبع الأعمق للأزمة الاقتصادية الأوروبية الحالية، الذي وصل بعض المراقبين إلى حد وصفه بعملية “تراجع التصنيع الأوروبي De-industrialization of Europe”.

ونستكمل في جزء ثانٍ قريب..

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  للكهرباء حلولها.. هل تُريدون لبنان موحداً؟