إلا أن ما شهدته الصين وتشهده، خلال الأسابيع الأخيرة، يترك الباب مفتوحا أمام أسئلة بلا إجابات. وبداية فلا يفهم الكثير منا حول العالم ماذا يدور داخل غرف الحزب الشيوعى الصينى المغلقة، ولا يعرف أحد كيف يخططون لسيناريوهات مجهولة فى دولة تعداد سكانها 1.4 مليار نسمة وتملك ثانى أقوى اقتصاد وجيش فى العالم.
شهدت الصين، فى حالة نادرة، احتجاجات فى مناطق مختلفة خلال الأيام الأخيرة للمطالبة بإنهاء تدابير إغلاق فيروس كوفيد، وبفتح مجالات أوسع للحريات السياسية، فى موجة تظاهرات واسعة لم تشهد مثلها البلاد منذ الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية فى العام 1989.
ودفعت سياسة الرئيس الصينى شى جين بينج، المعروفة باسم «صفر كوفيد Zero Covid» لمعاناة الملايين من الشعب الصينى ممن فقدوا مصادر رزقهم بعد ارتباك السلطات الحاكمة فى مواجهة الفيروس بحيث استمر الإغلاق حتى الآن، على الرغم من تغلب بقية دول العالم على انتشار وتفشى الفيروس، بما عادت معه الحياة لطبيعتها.
ولا يعرف أحد إلى ما ستفضى إليه هذه الاحتجاجات، والتى ربما تفضى إلى لا شىء. لكن أسباب القلق، من وعلى الصين، لا تقتصر على الاحتجاجات والغضب الشعبى فقط، فقد أنهى الحزب الشيوعى مؤتمره العام، الذى يعقد كل خمس سنوات فى نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضى، وأضحى مستقبل الصين فى يد الرئيس شى وحفنة من الموالين له. ويحذر الخبراء من أن التركيز المفرط للسلطة قد يأتى بنتائج عكسية إذا أخطأ شى الحسابات. مدّد الحزب للرئيس شى فترة حكم ثالثة لمدة خمس سنوات أخرى على الأقل، وهو ما يمثل انحرافا عن تقليد الحزب الشيوعى الصينى المستمر منذ عقود، والذى أكد على التبديل المنتظم للقيادة مع تجنب التركيز المفرط للسلطة.
قال شى لـ 2340 مندوبا ومندوبا خاصا حضروا ليمثلوا أكثر من 96 مليون عضو بالحزب الشيوعى الصينى، إن الصين شرعت فى فترة تنمية تتزامن فيها الفرص الاستراتيجية والمخاطر والتحديات، ودعا شى الحزب الشيوعى الصينى إلى الاستعداد «للصمود أمام الرياح العاتية والأمواج المتلاطمة والعواصف الخطيرة».
مع نهاية مؤتمر الحزب الشيوعى الصينى، أصدر قادته بيانا، أيدوا فيه الرئيس شى باعتباره «صمام أمان الحزب»، ودعوا الحزب إلى الاتحاد بشكل أوثق خلفه. وأصبح الرئيس شى يشغل حاليا أقوى ثلاثة مناصب فى الصين ــ الأمين العام للحزب الشيوعى الصينى، ورئيس القوات المسلحة فى البلاد، ورئيس الدولة ــ وهكذا أصبح نظام الحزب الواحد، نظام الشخص الواحد
***
منذ وفاة الزعيم الصينى الأهم خلال النصف الثانى من القرن العشرين «ماو تسى تونج» عام 1976، تحاول القيادات الصينية منع ظهور ماو جديد، أى منع ظهور شخصية محورية تنفرد بالحكم على غرار ما قام به الزعيم ماو الذى حكم حتى مماته، وامتدت سنوات حكمه لتتخطى الثلاثين عاما.
سيطر الزعيم ماو بصورة فعلية على مؤسسات الحكم الصينية الثلاثية، سواء الحزب الشيوعى ولجنته المركزية، أو مؤسسة الرئاسة، أو قيادة الجيش الأحمر، وذلك بصور مباشرة أو غير مباشرة حتى مماته. على الرغم من التقدير الكبير الذى يحظى به إرث الزعيم ماو، فإن الصين كدولة ومجتمع ونخبة توافقت على أن الزمن يتغير، وأنه لا سبيل للتقدم إلا بمنع خلق ماو جديد أولا. وعليه تبنت معادلة حكم توازن بين طبيعة وتوازنات الصين الداخلية الأيديولوجية والثقافية، وبين الطبيعة البشرية التى يفسدها دوام السلطة، ويفسد دوائرها القرب الشديد من الحاكم. وعليه صمّمت الصين الجديدة على خلق مؤسسات سياسية لا تشخص الحكم، ولا تعتمد على زعيم أوحد مدى الحياة، بل اختارت أن يكون هناك ديكتاتور، لكنه ديكتاتور يحكم لفترة محددة معلومة مقدما. لم تتبن الصين انفتاحا ديمقراطيا على النمط الغربى، لكنها توصلت لمعادلة متوازنة بالمعايير الصينية تسمح بوجود ديكتاتورية سياسية لفترة محددة من الزمن.
بالفعل عرفت الصين تداول السلطة بصورة جيدة، وإن كانت لا تماثل الطريقة الغربية فى اختيار الشعب المباشر للرئيس من خلال صناديق الاقتراع. ولم تعرف الصين أخيرا الانتقام أو إعدام أو اعتقال الرؤساء السابقين ممن هم على قيد الحياة. وحكم بعض الزعماء لخمس سنوات وحكم البعض لعشر سنوات كحد أقصى، والتزم الجميع بمواد الدستور الجديد الذى أُقر عام 1982.
***
أدرك الزعيم دنج شياو بينج، وهو الذى خلف الزعيم ماو، أن العالم يتغير بسرعة فائقة، وإذا أرادت الصين اللحاق بركب التقدم الاقتصادى فعليها اتباع آليات الاقتصاد الرأسمالى، وتبنى اقتصاديات السوق المنفتحة، إلا أنه صمم على أن يكون ذلك بنكهة صينية تقل فيها سلطة الدولة كمخطط للاقتصاد، مقابل الدفع بنظام مختلط لا يترك لقوى السوق حرية كاملة للحركة. ويحسب لبينج أنه خلق وصان حركة إصلاح وانفتاح كبيرة وضعت للصين أسس التقدم الاجتماعى والاقتصادى، ويحسب لبينج كذلك حفاظه على الخصوصية الصينية وعرفت الصين حينذاك «اشتراكية صينية» تختلف عما تصفه الأدبيات الغربية عن النظم الاشتراكية. أدرك بينج كذلك أن من الجرم إبقاء حاكم فى منصبه مدى الحياة. واستفاد من تجربة سلفه الزعيم ماو ومن أخطائه التاريخية والتى كان منها ما يتردد عن قتل ما يزيد على 30 مليون شخص خلال الثورة الثقافية فى ستينيات القرن الماضى. وصمم بينج على عدم السماح بوجود ديكتاتورية مطلقة حيث رآها مفسدة مطلقة. وصمم بينج على عدم السماح بوجود سلطة لشخص مدى الحياة، وتمت صياغة ذلك فى الدستور الصينى وذلك ليتجنب زعماء الصين الجدد الفساد المرتبط بالقرب من دائرة الحكم لفترة طويلة، وعدم استيعاب دائرة الحكم المطلق لضرورات وفوائد وحتمية التغيير.
***
صمدت الصين أمام عواصف الانفتاح والإصلاح لما يقرب من نصف قرن منذ تبنيها سياسات الإصلاح والانفتاح الاقتصادى منتصف سبعينات القرن الماضى، وصمدت كذلك بدستور 1982 الذى منع ظهور زعيم واحد ملهم يبقى فى الحكم حتى مماته طبقا لتصور الأب الروحى للإصلاح والتقدم فى الصين الزعيم دنج شياو بينج. من هنا يمكن تفهم ما قام به الرئيس الصينى الحالى من خلال خطوات متنوعة لتعزيز وضعه خلال سنوات حكمه بمحوه قدرا كبيرا من إرث دينج شياو بينج، إضافة لإزاحته لكل خصومه المحتملين، معتمدا فى المقام الأول على حملته الواسعة النطاق لمكافحة الفساد، والتى امتدت لتخليص الحزب الشيوعى الصينى من كل خصومه ومنافسيه السياسيين المحتملين.
***
مع نهاية مؤتمر الحزب الشيوعى الصينى، أصدر قادته بيانا، أيدوا فيه الرئيس شى باعتباره «صمام أمان الحزب»، ودعوا الحزب إلى الاتحاد بشكل أوثق خلفه. وأصبح الرئيس شى يشغل حاليا أقوى ثلاثة مناصب فى الصين ــ الأمين العام للحزب الشيوعى الصينى، ورئيس القوات المسلحة فى البلاد، ورئيس الدولة ــ وهكذا أصبح نظام الحزب الواحد، نظام الشخص الواحد.
(*) بالتزامن مع “الشروق“