إختار رونين بيرغمان عنوان “قطاف شقائق النعمان” لهذا الفصل، وفيه يقول “إن إبراهيم المقادمة أدرك أن “الإسرائيليين” سوف يقتلونه، آخذاً بالاعتبار ان وكالات الاستخبارات التابعة للسلطة الفلسطينية كانت قد اخبرته بذلك بعد ان سمعت بالامر من عميل مزدوج يعمل مع “الشين بيت” قال لها إن “الإسرائيليين” طلبوا منه مراقبة الحركة الروتينية للمقادمة. لماذا سيطلب الشين بيت ان يعرف عن ذهاب المقادمة وايابه ان لم يكن لقتله؟ ومع ذلك من الممكن ان المقادمة لم يصدق الامر، اذ انه كان قد نشر بضعة كتب ومقالات عن الدين والجهاد والهجرة اليهودية الى فلسطين وكان منظراً فلسطينياً، كما كان استراتيجياً متطرفاً لدى حماس، يدافع عن الحرب المقدسة لتدمير الدولة اليهودية، وكان ضابط اتصال بين الجناحين السياسي والعسكري للمنظمة. ولكنه كان ايضاً طبيب اسنان ومحاضراً يحظى بشعبية واسعة في الجامعة الاسلامية في غزة، وكان رجلاً متعلماً واكاديمياً امضى معظم وقته منخرطاً في السياسة بدلاً من التورط في عمليات “ارهابية”. وطلب منه عملاء السلطة الفلسطينية ان يهدأ لفترة وينتظر الى ان يمل “الإسرائيليون” من البحث عنه، لكن المقادمة تجاهلهم وواصل القاء المحاضرات في الجامعة كالعادة. وفي الساعة التاسعة والنصف صباح يوم الثامن من مارس/اذار عام 2003 قام مساعده واثنان من مرافقيه بأخذه من منزله في حي الشيخ رضوان في غزة، وكانت مُسيّرة “إسرائيلية” ترصده. اتصل مساعده بمكتب عميد الجامعة لإبلاغه ان المقادمة سيكون هناك بعد وقت قصير وانه يتوقع ان يكون طلابه بانتظاره في قاعة المحاضرات. “وعلى الرغم من المخاطر المحدقة بحياته” فانه على الارجح بتباه درامتيكي لم يكن يُصدّق الامر، بحسب ما كان يقول مساعده”.
يضيف بيرغمان “ما ان سارت سيارة المقادمة قرابة 300 متر في شارع الجلاء حتى اطلقت مروحية من طراز “أباتشي” اربعة صواريخ “هيلفاير” عليها ودمرتها. وهكذا اصبح المقادمة وسائقه ومن كانوا يرافقونه الى جانب طفل كان يلعب في الشارع اولى ضحايا عملية “قطاف شقائق النعمان” التي كانت قد اقرتها حكومة أرييل شارون المصغرة في مطلع العام 2003. وكان الافتراض الاساسي هو ان قادة المنظمات الجهادية “الارهابية” ارادوا من اتباعهم تنفيذ هجمات انتحارية او كما وصفها آموس جلعاد رئيس الفريق الامني السياسي في وزارة الدفاع قائلا “هم (القادة) يعرفون ان الحوريات الـ72 في الجنة خيار لا يمكن اثباته، وهم، اي القادة، ليسوا على استعداد ان يتأكدوا من الامر بأنفسهم”، (أي أن ينفذوا العمليات ويستشهدوا)!
يتابع بيرغمان، ان عملية “قطاف شقائق النعمان” كانت الاكثر دقة في مجمل حملة الاغتيال ضد القادة السياسيين التي كان يدافع عنها رئيس جهاز “أمان” الجنرال زئيفي فاركاش، “فالعملية لا تطارد كل قادة حماس والجهاد الاسلامي. لقد إستثني من اللائحة الاولية لاهدافها الشيخ احمد ياسين، مؤسس حركة حماس، خشية انخراط المزيد من الفلسطينيين في القتال اذا ما قتل الأخير.. وقد استحوذ المعيار (الذي يتم على اساسه قتل مسؤول سياسي) فترة شهور من النقاش، تماماً مثل النقاش ما إذا كان هذا النوع من القتل قانونياً واخلاقياً، والاهم هو ما اذا كان من الناحية الاستراتيجية عمليا”.
اصر يعالون على القول “لا يمكن ان نفعل ذلك تحت اي ظرف كان، يمكن ان نمسح قيادة حماس من الوجود ولكننا نخاطر بانزال مئات آلاف المحتجين الى ساحة رابين وهم يهتفون باننا جيش متوحش يقتل النساء والاطفال، هذا ما يجب ان نتجنبه، لا بد اننا سنحصل على فرصة اخرى، سوف يأتي يومهم”، فأمر أرييل شارون بوقف العملية”
وينقل بيرغمان عن الجنرال آمي ايالون الذي سبق آفي ديتشر في قيادة “الشين بيت” قوله “ان رسم مقارنة بين الارهاب والأفعى التي ستتوقف عن العمل ما ان يُقطع رأسها هو مبالغة في التبسيط ويحفز على التفكير ان كان احد يمكن ان يصدق الامر. فالمنظمة الارهابية مثل المصفوفة، فحتى لو كان عندها رأس فهو رأس ايديولوجي من الصعب ان يدير الرأس العملياتي عندها”. بكلام آخر ليس هناك من جدوى عملياتية من الامر ولكنه خلق نوع من السابقة الموازية، فان كان القادة السياسيون لحماس اهدافا مشروعة كما يقول ايالون ماذا عن “وزير الدفاع الإسرائيلي الذي يجلس في مكتبه ويعطي الاذن بالعمل؟ هل هذا يجعل منه هدفاً مشروعاً للتصفية”؟
وعلى الرغم من هذا النقاش، يقول بيرغمان، فان عملية “قطاف شقائق النعمان” تواصلت عملياً، “فبعد ثلاثة اشهر من قتل ابراهيم المقادمة، اطلقت مُسيّرة تابعة للجيش “الإسرائيلي” نيرانها على عبد العزيز الرنتيسي، الرجل رقم 2 في حماس ولكنها تمكنت فقط من التسبب له بجروح وفي 12 اغسطس/اب قتل اسماعيل ابو شنب، احد مؤسسي حركة حماس ورئيس ذراعها السياسي واحد ابرز الناطقين باسمها في وسائل الاعلام العربية والاجنبية، وذلك عندما اطلقت طائرة “أباتشي” خمسة صواريخ عليه قرب مبنى الامم المتحدة في غزة”.
يتابع بيرغمان، “تماماً كما كان يخشى احد كبار المسؤولين في وزارة الخارجية قبيل اطلاق عملية “قطاف شقائق النعمان”، فقد كان المجتمع الدولي يُميّز بين الهجوم على نشطاء عسكريين وبين نشطاء سياسيين، وقد زادت عملية اغتيال ابو شنب من حدة النقاش الدولي حول افعال “إسرائيل” على الرغم من اقرار الغرب بان إسرائيل تخوض معركة قاسية ضد المفجرين الانتحاريين. وقد ادان الامين العام للامم المتحدة كوفي انان عملية اغتيال ابو شنب معلناً ان “إسرائيل” لا تملك الحق بتنفيذ عمليات “قتل خارجة عن العدالة” لمسؤول رفيع في حماس. بعد هذه العملية، جاهر الشيخ أحمد ياسين بنواياه بقوله للصحافة الفلسطينية “لقد تم تجاوز كل الخطوط الحمر، وستدفع إسرائيل الثمن”.
هنا، يقول بيرغمان “لم يكن واضحاً كيف ستدفع “إسرائيل” ثمن تصعيدها الاخير، حتى للشيخ ياسين نفسه، فالقواعد القديمة كانت دموية ومتوحشة ولكنها على الاقل كانت تتمتع ظاهرياً بنحو من الحدود التكتيكية، لكن قتل ابو شنب – وهو شخص كان منخرطاً في الجزء السياسي لحماس ويُنظر اليه من قبل قادة المنظمة انه خارج نطاق هذه الحدود – هز بعمق حركة حماس، وكان الشيخ ياسين بحاجة لان يجد طريقة للرد وبسرعة”.
بعد وقت قصير من اغتيال ابو شنب، يضيف بيرغمان، “امر أحمد ياسين بعقد اجتماع لكل القيادة السياسية والعسكرية لحركة حماس في السادس من سبتمبر/ايلول (2003) في منزل الدكتور مروان ابو راس، وهو شخصية دينية قيادية في غزة وعضو في المجلس التشريعي الفلسطيني. كان ذلك مخاطرة فوق العادة لجهة وضع كل كبار المسؤولين في نقطة واحدة وفي وقت واحد، وهو أمر من شأنه ان يخلق هدفاً ضخماً، واذا ما تسرب السر فان الامل الوحيد لياسين كان ان تقرر “إسرائيل” ما اذا كان قتل الكل ليس موازياً للاضرار الجانبية التي سترافقه (المدنيون الذين سيقتلون)”.
يتابع بيرغمان ان آفي ديتشر الذي علم بالاجتماع من مصدر بشري ومن مصادر تكنولوجية “فكّر انها مقايضة عادلة (قتل الكل مقابل الاضرار الجانبية المرتقبة من المدنيين) وينقل عنه قوله “خلال كل حياتي المهنية لم يرتكب عدواً جدياً مثل هذا الخطأ الجدي، انه خطأ جدي كبير”.
كان يفترض ان يبدأ الاجتماع عند الساعة الرابعة، وفي الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر كانت تحلق في الجو طائرتا “اف 16” تحملان قنابل تزن الواحدة منها طناً من المتفجرات، واخذتا تحومان بشكل دائري فوق البحر الابيض المتوسط من اجل تجنب اثارة الشكوك بين الناس الذين تجمعوا في المنزل، ووفقا لتحليل سلاح الجو الذي جرى تعميمه فان قنبلة بهذا الحجم كانت ضرورية لتدمير منزل ابو راس المكون من ثلاثة طوابق. وعند الساعة 3:45 استدعى رئيس الاركان يعالون محللي العمليات مع الخرائط والصور الجوية وسألهم “ما هو بتقديركم حجم الاضرار الجانبية؟” كان هناك مبنى من خمسة طوابق ملاصق لمنزل ابو راس تقطنه تقريباً اربعون عائلة، فقال زئيفي فاركاش رئيس جهاز امان “عند الساعة الرابعة يمكن الا يكون الرجال في المنازل بسبب عدم عودتهم من اعمالهم، ولكن من الواضح انه سيكون هناك العشرات من النساء والاطفال”، وتساءل “ماذا سيحصل لهؤلاء اذا ما استخدمنا قنبلة زنة طن؟” فأجاب احد المحللين “سيقع العشرات من الضحايا واحتمال ان يكون العدد اكبر من ذلك”.
لم تكن الضجة التي اعقبت اغتيال صلاح شحادة قد إنطوت بعد، وينقل بيرغمان عن دوف ويسغلاس، مساعد شارون قوله “لم يكن بيننا من هو مهووس بالقتل، بل على العكس فقد كان سلاح الجو يعتبر ان قتل سبعة او ثمانية مدنيين فلسطينيين يفوق بكثير المنافع التي تتحقق من من تصفية ارهابي”. وقد عمل سلاح الجو على تطوير ذخيرة بشعاع انفجاري اصغر مستبدلاً حوالي تسعين بالمئة من المتفجرات بمواد اسمنتية، ولكن القنبلة الاسمنتية لم يكن بامكانها ان تدمر مبنى من ثلاث طوابق”.
انضم يعالون الى مكالمة هاتفية جامعة لكل من شارون وديتشر وثلاثة آخرين وقال لهم “السيد رئيس الوزراء انا انصح بالغاء الضربة، فثمن العملية سيكون عشرات القتلى المدنيين، سوف نربح المعركة ولكننا سنخسر الحرب على المستويين الدولي والمحلي، ولن يتحمل شعب إسرائيل ضربة مثل هذه ضد النساء والاطفال، فنحن بأمس الحاجة الى مشروعية محلية وعالمية لمواصلة قتالنا – ونحن هنا سنكون مسؤولين عن ضربة مدمرة”، ويُكمل بيرغمان الرواية قائلاً: “طلب ديتشر الكلام للرد على يعالون قائلاً إن “إسرائيل” سوف تخسر فرصة تاريخية في التسبب “ربما بأضرار لا تُعوّض” لعدوها الرئيسي. ولكن يعالون اصر على القول “لا يمكن ان نفعل ذلك تحت اي ظرف كان، يمكن ان نمسح قيادة حماس من الوجود ولكننا نخاطر بانزال مئات آلاف المحتجين الى ساحة رابين وهم يهتفون باننا جيش متوحش يقتل النساء والاطفال، هذا ما يجب ان نتجنبه، لا بد اننا سنحصل على فرصة اخرى، سوف يأتي يومهم”، فأمر أرييل شارون بوقف العملية”.