السلطات الألمانية أحبطت مخطط الانقلاب وحاولت فى الوقت نفسه التخفيف من وطأته على الرأى العام بادعاء أن التنظيم محدود والأمن متأهب والديمقراطية آمنة.
هذه نصف الحقيقة، وليست الحقيقة كلها.
بدلالات الأرقام: شبكة التنظيم، الذى يطلق عليه «مواطنو الرايخ»، عضويته أكثر من واحد وعشرين ألفا، بعضهم متمركزون فى الجيش الألمانى والأجهزة الأمنية نفسها، وتفكيكها استدعى مشاركة ثلاثة آلاف ضابط وجندى فى إحدى عشرة ولاية!
خطورة التنظيم فى أفكاره وتصوراته ومواقفه ضد المهاجرين والمسلمين وكل ما له صلة بالقيم الإنسانية الحديثة.
لا يعترف بالجمهورية التى أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، ولا بأوراقها ومستنداتها، لا يدفع الضرائب، كأنه طبعة ألمانية من تنظيم «التكفير والهجرة»، الذى عانت منه مصر بأوقات سابقة!
يستلهم مخطط الانقلاب تجربة الزعيم النازى «أودلف هتلر» فى إحكام قبضته على السلطة، حين وظف حريق مبنى البرلمان «الرايخستاج» عام (1933) لإعلان الطوارئ والتنكيل بخصومه السياسيين.
لم تكن مصادفة أن يشمل مخطط الانقلاب حرق البرلمان الحالى «البوندستاج» والقيام باغتيالات سياسية وإثارة الفوضى فى أنحاء البلاد لتقويض مؤسسات الدولة والاستيلاء على السلطة بالقوة.
الظروف اختلفت لكننا أمام قوة من الماضى مسكونة بالمخططات نفسها.
لا شيء يولد من فراغ، أو بالمصادفات، منعزلا عن مقدماته وسياقه وتاريخه، حتى لو بدا لوهلة أنه غير قابل للتصديق!
إننا أمام نزوع لإحياء تجربة «هتلر»، التى قوضت وحدة ألمانيا بأثر الهزيمة فى الحرب العالمية الثانية، وتقسيمها إلى دولتين شرقية وغربية، الأولى تتبع موسكو والثانية فى كفالة واشنطن
لم يكن التنظيم المتطرف سرا مغلقا على الاستخبارات الألمانية، التى حذرت قبل شهور من أعمال تخريبية قد يلجأ إليها على خلفية الحرب الأوكرانية.
سوف تتلو محاولة الانقلاب المجهضة محاولات أخرى لإحياء «الرايخ» الألمانى، رمزا للإمبراطورية والقوة والنفوذ فى مواجهة ما هو ماثل من تبعية مفرطة للنفوذ الأمريكى والفرنسى والبريطانى.
الاعتقاد نفسه تتبناه تيارات وقوى سياسية أخرى تميل إلى اليسار، لكنها لا تتبنى العنف ولا تدعو إلى تغيير النظام بالقوة.
إننا أمام نزوع لإحياء تجربة «هتلر»، التى قوضت وحدة ألمانيا بأثر الهزيمة فى الحرب العالمية الثانية، وتقسيمها إلى دولتين شرقية وغربية، الأولى تتبع موسكو والثانية فى كفالة واشنطن.
كان جدار برلين، الذى قسم العاصمة برلين، تجسيدا رمزيا لما أطلق عليها «الحرب الباردة».
أولت الولايات المتحدة اهتماما بالغا بألمانيا الغربية أمام الحضور السوفييتى القوى فى ألمانيا الشرقية، ساعدت بفوائضها المالية فى إطلاق «مشروع مارشال» لانتشالها من تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية.
لعب «كونراد أديناور» أول مستشار ألمانى بعد الحرب دورا جوهريا فى تأسيس ما يطلق عليها «المعجزة الألمانية».
فى ظروف تاريخية مختلفة توحدت ألمانيا تحت قيادة المستشار «هيلموت كول».
كان ذلك من أول مهام إنهاء حقبة الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولى.
الوحدة الألمانية استدعت تطورين مهمين:
الأول؛ اضطلاع ألمانيا بقيادة الاتحاد الأوروبى مستندة على قوة اقتصادها بالشراكة مع فرنسا بحيويتها السياسية.
بدأ العالم يتحدث عن «عودة الرايخ» بصورة اقتصادية مهيمنة، وأخذت ألمانيا تتلمس بحذر فرص إعادة بناء قوتها العسكرية دون صخب كبير، أو إثارة شكوك ترددت طويلا وكثيرا فى الخطاب الغربى إثر الحرب العالمية الثانية.
الثاني؛ التنكر الغربى لكل التعهدات الأمنية، التى قطعت للاتحاد السوفييتى السابق، مقابل موافقته على توحيد الألمانيتين مطلع تسعينيات القرن الماضى، وكان أهمها عدم تمدد حلف «الناتو» إلى الحدود الروسية، أو أن يمثل تهديدا لها.
أسس ذلك لكل ما جرى من صدامات قوى ومآس ماثلة فى الحرب الأوكرانية.
أزمة الطاقة والغاز فى خلفية مخطط الانقلاب اعتقادا بأن ألمانيا فقدت دورها وهيبتها وصارت تابعا للولايات المتحدة.
الاعتقادات نفسها تتبناها قوى سياسية تميل إلى اليسار، تناقض تماما اليمين المتطرف الذى تسكنه فكرة إمبراطورية «الرايخ»، وله ظهير شعبى حاضر فى المشهد.
حزب «البديل من أجل ألمانيا» إحدى تجليات الظاهرة نفسها، وقد اعتقلت نائبة سابقة فى حملة الاعتقالات الأخيرة.
نظريا لا يعتبر ذلك الحزب متطرفا بل شعبويا، وهو حاضر فى المعادلة السياسية طالما يعترف بالقانون ــ حسب السلطات الألمانية.
الأفعال ناقضت القانون والسلطات أنكرت طبيعة التوجهات.
تمدد حزب «البديل» فى أزمة اللاجئين واستثمر فى العداء للإسلام، اعتدى على المقابر اليهودية، ودعا إلى الحياد فى الحرب الأوكرانية.
يستلفت الانتباه ــ هنا ــ أن قيادته اتخذت إجراءات تأديبية بحق بعض نوابه الذين زاروا موسكو.
يحسب للمستشارة الألمانية السابقة «انجيلا ميركل» فتح أبواب بلادها أمام المهاجرين من مناطق النزاعات فى العالم العربى، خاصة سوريا، برغم ضغوط وتظاهرات اليمين المتطرف، التى حاولت الاستثمار فى أزمة المهاجرين لتوسيع قاعدتها الجماهيرية، ووجدت فى عمليات العنف والإرهاب التى تتبناها جماعات تنسب نفسها للإسلام ذريعة لاكتساب مزيد من الأنصار.
وجد اليمين المتطرف ذريعة ثانية للتمدد بإثارة الشكوك فى جدوى التواجد بالاتحاد الأوروبى حين كان مطلوبا أن تمد بلادهم يد العون للدول التى ضربتها الآثار الاقتصادية والصحية للجائحة.
ثم جاءت الحرب الأوكرانية بتكاليفها الباهظة ليصبح ممكنا أن ينحو ذلك التيار المتطرف إلى محاولة تقويض مؤسسات الدولة كلها بالانقلاب عليها.
كان مستلفتا للإنتباه عند إعلان إحباط محاولة الانقلاب إسراع السلطات الألمانية، لتوجيه الاتهام لروسيا بأنها تقف وراءه، وهو ما نفاه الكرملين مؤكدا أن لا صلة له بما يحدث فى ألمانيا ولا صلات تجمعه بجماعات غير قانونية.
الاتهام والنفى يمثلان معا مشهدا مستجدا فى الحرب الأوكرانية، الاتهام وارد بـ«شيطنة روسيا» دون فرصة حقيقية للتأكد من صحة حيثياته، والنفى حاضر بعبارات عامة دون فرصة أخرى للتأكد من سلامته.
إنها الحرب المفتوحة التى أخذت مداها وأنهكت أطرافها وجعلت سؤال الانقلاب الألمانى محتملا.
(*) بالتزامن مع “الشروق“