المحطة الثالثة المهمة في الانتخابات التهميدية هي ولاية كارولاينا الجنوبية التي ستجري في 24 شباط/فبراير. ولا شيء يدل على أن مفاجأة ستحدث هناك برغم أن هايلي تتحدر من هذه الولاية وتوّلت منصب الحاكمية فيها لسنوات عدة. ترامب يتقدم عليها بفارق كبير، بينما هي تراهن على تحقيق نتائج أفضل من تلك التي حقّقتها في أيوا ونيوهامبشر، أقله من أجل الاستمرار في المنافسة إلى يوم “الثلثاء الكبير” في 5 آذار/مارس حيث تجري الانتخابات في 14 ولاية أميركية. وثمة رهانات بأن ترامب سيتمكن من جمع العدد المطلوب من المندوبين لنيل الترشيح (2429) قبل نهاية آذار/مارس، بينما ينعقد المؤتمر العام للحزب الجمهوري لتسمية المرشح في الفترة من 15 تموز/يوليو إلى 18 منه في مدينة ميلووكي بولاية ويسكونسن.
الإستعداد للعودة الترامبية
إنّ تَمكُنْ ترامب من السيطرة على الحزب الجمهوري والترشح للمرة الثالثة عن الحزب وتخطي 14 مرشحاً حتى قبل أن يبدأ السباق فعلياً، كلها تشير إلى نجاحه في تحويل الجمهوريين إلى حزب شعبوي قائم على عبادة الشخصية. وأسطع دليل على ذلك أن الاتهامات الجنائية وعددها 91 التي يواجهها الرجل، لم تُغير قناعات القاعدة الجمهورية بأنه هو الشخص المناسب لقيادة أميركا، الأمر الذي أدى إلى تهميش التيار التقليدي المحافظ في الحزب.
لا يكتسح ترامب الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الجمهوري فحسب، بل إن استطلاعات الرأي الأخيرة تظهر تقدمه على بايدن على المستوى الوطني. وهذا ما يجعل عودته إلى البيت الأبيض احتمالاً قوياً، حيث بدأ حلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حد سواء يأخذونه في الاعتبار، ويستعدون له منذ الآن.
ومن المؤكد أن ترامب سيعود إلى عالم غير ذاك الذي تركه قبل أربعة أعوام. إنه عالم يغرق في الحروب والنزاعات في أكثر من منطقة. ووفقاً لمعهد أوسلو للسلام، فإن عدد الصراعات القائمة على مستوى الدول يقترب من 50، وهو الرقم الأعلى منذ عام 1946.
تدني شعبية بايدن إلى مستويات قياسية وكبر سنه واستياء التيار اليساري في الحزب الديموقراطي من سياساته ومن تحول بعض شرائح المجتمع الأميركي عن تأييده حتى في أوساط البيض من خريجي الجامعات أو في أوساط السود، وتصاعد تيار العزلة، والعداء المتزايد للمهاجرين، كلها عوامل تصب لمصلحة ترامب رئاسياً
في خطاب له في نيوهامبشر الأسبوع الماضي، قال ترامب :”نريد أن نساعد العالم إذا كان ممكناً.. لكن علينا مساعدة أنفسنا أولاً. إن بلدنا في وضع مريع”. يُعدُ هذا تكريساً لمبدأ “أميركا أولاً” الذي عمل بموجبه ترامب في ولايته الأولى وتعزيزاً لتيار الانعزال داخل الولايات المتحدة، وقاعدة لفرض أكبر قدر من التعريفات الجمركية على صادرات العالم إلى أميركا، سواء من دول صديقة أو دول منافسة. يحب ترامب أن يصف نفسه بأنه “رجل التعريفات”.
هذا الخطاب يُخيف الشركاء في أوروبا، برغم أن بعضهم بدأ يُعدّ العدة منذ الآن للتعامل مع ترامب. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال عندما سئل عن هذا الاحتمال قبل أيام، إنه “مستعد للتعامل مع من ينتخبه الشعب الأميركي”، من دون أن ينسى في محطة أخرى التذكير بأنه عمل سابقاً مع ترامب الذي خصه الرئيس الفرنسي بأن يكون ضيف الشرف في “يوم الباستيل” عام 2017.
وماذا عن الحروب؟
ولئن كان ترامب يأخذ على الدول الأوروبية أنها تحظى بالحماية العسكرية الأميركية من دون أن تدفع شيئاً في المقابل، فإن ألمانيا ودولاً أخرى أعضاء في حلف شمال الأطلسي زادت من موازنتها العسكرية، في خضم الحرب الروسية-الأميركية. وبحسب بيانات لمجلة “الإيكونوميست” البريطانية، من بين 38 دولة حليفة في الناتو ومنطقة آسيا، فإن أميركا واجهت عجزاً تجارياً مع 26 منها عام 2023، بينما هناك 26 دولة تنفق أقل من 2 في المئة من إجمالي ناتجها القومي على الشؤون الدفاعية!
هذان معطيان لا يتوافقان مع رؤية ترامب للعلاقات بين أميركا وحلفائها. الرئيس الأميركي السابق عندما كان في البيت الأبيض قال بكل بفظاظة للمستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، إن تكاليف الحماية الأميركية لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية بلغت أكثر من 400 مليار دولار. ولم يتردد في القول لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إن حلف شمال الأطلسي عفا عليه الزمن وأنه عازم على سحب أميركا منه.
سيجد ترامب ألمانيا مختلفة، مع ابرام صفقة بـ14 مليار دولار لشراء أسلحة أميركية بينها مقاتلات “إف-35″، ومع رصد 110 مليارات دولار لتحديث قواتها المسلحة، فضلاً عن توقف ألمانيا عن إستيراد غازها من روسيا، بعدما كان ترامب يأخذ على برلين تشييد خطي “نورد ستريم 1″ و”نورد ستريم 2”. فإن الخط الثاني لم يعمل أبداً بسبب اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية.
إذا عاد ترامب، سيكون في مواجهة الحرب الروسية-الأوكرانية التي يُكرّر أنه يريد وضع حد لها بسرعة، وبأن هذه الحرب لم تكن لتنشب لو كان هو في البيت الأبيض. لم يخفِ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي توجسه من هكذا لحظة بقوله للقناة الرابعة في التلفزيون البريطاني قبل أيام: “إنه أمر خطير جداً هذا الذي يقوله ترامب”، مُحذّراً من إبرام صفقة بين ترامب وفلاديمير بوتين من دون التشاور مع أوكرانيا.
فرحون.. قلقون!
في المقابل، ستبعث عودة ترامب ارتياحاً لدى بوتين الذي سيعتبر معاودة الاتصال مع الولايات المتحدة، مكسباً كبيراً لروسيا وخروجاً من عزلتها في الغرب، لأن الدول الأوروبية عندها ستحذو حذو أميركا، عندما تدرك أنها لن تكون قادرة وحدها على تحمل عبء الحرب.
كما في أوروبا، كذلك في آسيا، حيث يشعر الحلفاء بالقلق. وتخشى كوريا الجنوبية واليابان أن يسلك الرئيس السابق مسلكاً متهاوناً مع الصين بخلفية تجارية (وهذا احتمال مستبعد لأن ترامب سيفرض فوراً زيادة 10 في المئة على الواردات من الصين). ومعلوم أن بايدن عمل بقوة على إزالة الخلافات بين كوريا الجنوبية واليابان في سبيل مواجهة الصين، وتمكن من عقد قمة تاريخية في كمب ديفيد بين الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا في آب/أغسطس الماضي. وزوّد بايدن أوستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية، وكان الرئيس الأميركي الوحيد الذي قال علانية إنه سيساعد تايوان في حال تعرضت لغزو صيني. أما ترامب فيتهم الجزيرة بأنها سرقت صناعة أشباه الموصلات من الولايات المتحدة ويتوعد باتخاذ إجراءات ضدها.
وتخشى سيول وطوكيو قيام ترامب بخطوات غير متوقعة، كتلك التي اتخذها إبّان ولايته، عندما اجتمع مرتين بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ-أون.
شرق أوسط متفجر
وسيجد ترامب أن الشرق الأوسط قد تبدّل عن ذاك الذي غادره قبل أربعة أعوام. هناك منطقة تتشكل من جديد بفعل الإخفاق غير المسبوق الذي واجهته إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، يوم اخترقت “حماس” غلاف غزة فقرّرت إسرائيل الرد بحرب مُدمّرة لا يبدو أن نهاية قريبة تلوح لها في الأفق.
هل ينجح بايدن في ما تبقى من فترة ولايته في فرض حل الدولتين على رئيس الوزراء الإسرائيلي؟ هذا احتمال مستبعد إلى حد كبير، وتالياً يستدعي ذلك سؤالاً لا يقل الحاحاً ماذا سيفعل ترامب في مواجهة شرق أوسط متفجر؟
الأمر الذي لا يختلف عليه إثنان هو أنه سيزيد من الدعم لإسرائيل، سواء أكان بنيامين نتنياهو في السلطة أو أتى أي رئيس وزرا ء إسرائيلي آخر، ولن يصدر عن البيت الأبيض أي كلام عن حل الدولتين؛ لذا من المرجح العودة إلى “صفقة القرن” أو ما يشبهها مع الضغط على الدول العربية لاستكمال التطبيع مع إسرائيل.
هل ينجح بايدن في ما تبقى من فترة ولايته في فرض حل الدولتين على رئيس الوزراء الإسرائيلي؟ هذا احتمال مستبعد إلى حد كبير، وتالياً يستدعي ذلك سؤالاً لا يقل الحاحاً ماذا سيفعل ترامب في مواجهة شرق أوسط متفجر؟
تالياً، سيعمد ترامب للعودة إلى سياسة “الضغوط القصوى” على إيران، لحملها على تقييد برنامجها النووي والحد من نشاطاتها الإقليمية. ومع ذلك سيواجه ترامب إيران أكثر تحالفاً مع الصين وروسيا ولن يُسهّل ذلك عليه مهمته.
وبرغم أنه لا يمكن الجزم بأي حال من الأحوال بعودة ترامب، فإن تدني شعبية بايدن إلى مستويات قياسية وكبر سنه واستياء التيار اليساري في الحزب الديموقراطي من سياساته ومن تحول بعض شرائح المجتمع الأميركي عن تأييده حتى في أوساط البيض من خريجي الجامعات أو في أوساط السود، وتصاعد تيار العزلة، والعداء المتزايد للمهاجرين (تحول الجدار مع المكسيك حجر الزاوية في كل حملات ترامب)، كلها عوامل تصب لمصلحة ترامب رئاسياً.
في معرض التهكم، أوردت صحيفة “وول ستريت جورنال” تعليقاً للناطق باسم الحكومة الأوغندية أوفونو أوبوندو: “إننا نرحب فعلاً بعودة ترامب إلى الرئاسة.. ففي ولايته الأولى كانت التدخلات الأميركية في الخارج بالحد الأدنى.. كما أنه يثبت أن أميركا لم تعد مختلفة عن إفريقيا.. ترامب لم يعترف بهزيمته في الانتخابات. وهو يواجه العديد من الاتهامات الجرمية. وهذا هو الشيء الذي كانت أميركا تتهم به القادة الأفارقة”!