خلّفت موجة الإحتجاجات المستمرة وغير المسبوقة في إيران، مئات القتلى والجرحى، وجعلت معارضي نظام الجمهورية الإسلامية داخل البلاد وخارجها يأملون في قلب النظام، إلا أن الموضوعية تقتضي القول إن الأزمة الاقتصادية تعصف بإيران منذ أكثر من حوالي الخمس سنوات وقد أثّرت بشدة على الطبقتين المتوسطة والفقيرة، وبالمقابل، لم تقدم لا الحكومة السابقة برئاسة حسن روحاني ولا الحكومة الحالية برئاسة إبراهيم رئيسي حلولاً مقبولةً حتى الآن. هذه الأزمة تجعل ملايين الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر، وهذا بحد ذاته سببًا كافيًا لإثارة موجة من الاحتجاجات ضد الحكومة.
ويقول محمد هادي زاهدي وفا، مرشح حكومة إبراهيم رئيسي لمنصب وزارة العمل (لم يحصل على ثقة البرلمان حتى الآن)، في خطابه أمام البرلمان للدفاع عن خطة وزارة العمل إن النسبة الأعلى للبطالة هي بين خريجي الجامعات وهناك “عدد كبير من شبابنا من أعمار 15 إلى 24 سنة لا يدرسون ولا يعملون ولا يتعلمون مهنة ولا تزوجوا وهم عاطلون عن العمل بالمعنى الحقيقي للكلمة في المجتمع”.
ووفقًا للإحصاءات التي نشرها مركز الإحصاء الإيراني في الصيف الماضي، فإن حوالي 2.4 مليون شخص من سكان البلاد عاطلون عن العمل، في حين أن الإحصاءات غير الرسمية تتحدث عن 4 ملايين عاطل عن العمل.
وكشف رئيس منظمة التخطيط والموازنة الإيرانية مسعود مير كاظمي في جلسة البرلمان يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن الحكومة “تواجه عجزًا قدره 200 ألف مليار تومان (حوالي 6 مليارات دولار). تصريح فاجأ العديد من النواب في البرلمان، ذلك أن الميزانية الإيرانية للعام الحالي، والتي بدأت في 21 آذار/مارس 2022، تبلغ حوالي 103 مليارات دولار، على أساس سعر صرف 35 ألف تومان لكل دولار (حالياً تجاوز سعر الصرف الـ 41 ألف تومان)، وتمت المصادقة عليها في البرلمان.
ومع هذا العجز في ميزانية الحكومة، لن تتوفر للحكومة الحالية الإئتمانات المالية اللازمة لخلق وظائف جديدة وبالتالي لن تكون قادرة على الوفاء بوعودها، ولا سيما لجهة حل أزمتي البطالة والإسكان، وخير دليل على ذلك إقدام وزير الإسكان مهرداد بذرباش، على نسف شعار إبراهيم رئيسي خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بخصوص بناء 4 ملايين وحدة سكنية، وقال بذرباش أمام البرلمان إن تكلفة بناء 4 ملايين وحدة سكنية يقرب من ضعف الميزانية الإجمالية للبلاد في هذه السنة المالية (بقي منها ثلاثة اشهر) “فأنتم النواب؛ أخبروني من أين يجب أن تأتي هذه الميزانية؟ ما هو النموذج الذي نريد بناء مساكن عليه”؟
لم تكن الانتخابات الرئاسية بأفضل حال من الانتخابات النيابية، إذ تم إقصاء المرشحين الإصلاحيين والمعتدلين، وباتت السلطة، رئاسة وحكومة وبرلمانا ومجلس خبراء ومجلس صيانة الدستور ومجمع تشخيص مصلحة النظام بأيدي المحافظين بشكل مطلق
ومن المرجح أن تضطر الحكومة إلى ضخ أموال من صندوق التنمية الوطني، وهو ما سيؤدي الى ارتفاع نسبة التضخم الشديد في البلاد، الأمر الذي يُعاكس ما تقوله الحكومة الإيرانية الحالية من أن الوضع الاقتصادي لإيران قد تحسن مقارنة بما كان عليه في زمن الحكومة السابقة، علمًا أن الوقائع المعيشية المتدهورة في مجالات السكن والغذاء وباقي مستلزمات الحياة تظهر للناس شيئًا مختلفًا.
والأمر لا يقتصر على الواقع المعيشي، فالوضع السياسي الداخلي في إيران بات مريضًا منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة، تماما كما هو حال الوضع الاقتصادي. في الانتخابات النيابية السابقة، تم استبعاد معظم الإصلاحيين والمعتدلين من البرلمان، الأمر الذي أدى إلى تراجع مشاركة الناس في صناديق الاقتراع مقارنة بالإنتخابات السابقة. ولم تكن الانتخابات الرئاسية بأفضل حال من الانتخابات النيابية، إذ تم إقصاء المرشحين الإصلاحيين والمعتدلين، وباتت السلطة، رئاسة وحكومة وبرلمانا ومجلس خبراء ومجلس صيانة الدستور ومجمع تشخيص مصلحة النظام بأيدي المحافظين بشكل مطلق.
ومع وصول الحكومة الجديدة برئاسة ابراهيم رئيسي، فإن أهم قضايا السياسة الخارجية مثل مفاوضات فيينا، العلاقة مع الغرب وخاصة مع الولايات المتحدة، البرنامج النووي الإيراني، وعلاقات إيران الإقليمية ولا سيما مع السعودية، تراوح مكانها لا بل تتراجع أحياناً إلى الوراء.
في ظل هذا الوضع السياسي ـ المعيشي الثقيل والمعقد، جاءت العقوبات الأمريكية الخانقة، القديم منها أو الجديد، لتلقي بظلالها على اقتصاد إيران وإجتماعها، وبطبيعة الحال تكون جهوزية الناس للتعبير عن مكنوناتها أعلى من أي وقت مضى، فكيف إذا تمت معالجة إحتجاجات الناس بالأمن وليس بالبحث عن الأسباب الحقيقية للوجع؟
في هذا السياق، تشير مصادر إيرانية مواكبة للحوار بين الإصلاحيين والحكومة الإيرانية من أجل محاولة إيجاد حل منطقي للأزمة السياسية والاقتصادية الأخيرة في إيران، وخاصة تطورات الأشهر الثلاثة الماضية، إلى أن اجتماع ممثلي الأحزاب والحركات الإصلاحية بأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الجنرال علي شمخاني “كان مفيداً وبناءً للجانبين”.
وبحسب المصادر نفسها، قدّم الإصلاحيون عددًا من المقترحات إلى المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني أبرزها الآتي:
– يجب أن ينتهي أي حوار بحل النزاع، لذلك يجب أن يكون مشروطًا وخاضعًا بقبول العقلانية الاستراتيجية للحوار، ويجب ألا ينظر النظام إلى الحوار على أنه أمر تكتيكي، ويجب على الحكومة إنهاء سياسة رمي البلاد بكاملها في أحضان المحافظين.
– على الحكومة أن تتحدث مع الناس وأن تقر بوقوع الأخطاء، وأن تضع حداً للقيود على الإنترنت.
– على رئيس الحكومة الإقدام على تغيير بعض الوزراء، وبينهم وزراء العلوم والإرشاد والتعليم والاتصالات، بناءً على رغبات الشعب.
– المطلوب من الحكومة الإفراج عن السجناء السياسيين ووقف إصدار أحكام الإعدام.
– يجب أن يتم تعديل تركيبة مجلس صيانة الدستور لكي يضم جميع الأطياف السياسية من اجل تشجيع فرص التنافس في الانتخابات النيابية المقبلة المقررة في مطلع العام 2024.
– يجب أن يوضع حل لقضية العقوبات ومسألة علاقة إيران بالدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، بدفع المفاوضات النووية إلى نهايتها بهدف إنقاذ اقتصاد البلاد وحل مشاكل الناس. كما ينبغي الاستفادة من قدرات الجاليات الإيرانية في الخارج.
– على الحكومة الامتناع عن التدخل المباشر في أمور مثل الحجاب والتوقف عن فرض سياسات مثل إنشاء دوريات الإرشاد وشرطة أمن الأخلاق والسماح لهذه الأمور بأن تجد طريقها على أساس ثقافة المجتمع وأخلاقياته الاجتماعية.
– يجب تعديل الدستور بناء على تجربة الأربعين سنة الأخيرة من الحكم بهدف الحفاظ على حقوق الناس وعودة ثقة الشعب بالنظام وإلغاء القوانين التي تنتقص من حقوق الشعب.
وأشار محمد رضا باهنر نائب الرئيس البرلمان الاسبق وأحد وجوه المحافظين البارزين (يُصنّف في خانة المحافظين المعتدلين) إلى أن أعمال الشغب الأخيرة “ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، لكن لا ينبغي الافتراض أنه بسبب انتهاء أعمال الشغب، تم حل أسئلة الناس ومشاكلهم مع الحكومة والنظام”، وقال إن إجتماع الناشطين الإصلاحيين مع سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني “يمكن أن يكون خطوة مهمة نحو تحسين الوضع”.
(*) راجع مقالة ميشال نوفل؛ إيران للمرشد: لِتُحلّ مشكلتنا مع أميركا