تُعيد الضغوط والرهانات الملازمة للأزمة الإيرانية الراهنة غير المسبوقة منذ 43 سنة، إلى واجهة الأحداث إشكالية العلاقة الأميركية – الإيرانية التي خيّمت على المفاوضات النوويّة الطويلة في فيينا؛ علماً أن هذه المفاوضات بين إيران والمجموعة الدولية التي تضم الدول الغربية الكبرى وروسيا والصين، كانت تجري صعوداً وهبوطاً وسط إصرار السلطة الإيرانية العليا على رفض أي اتصال مباشر مع الوفد الأميركي المفاوض.
ونقلت وسائل إعلام إيرانيّة لدى تعثّر هذه المفاوضات أكثر من مرّة، وُجهات نظر سياسية مفادها أنه حان الوقت لحوار مباشر بين واشنطن وطهران بالنظر إلى الصعوبات التي تعترض مسار هذه المحادثات بسبب الآلية المعقّدة للتواصل والتنسيق التي يتولّاها الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن أن طبيعة المشاكل المطروحة في مسار فيينا والتي تتجاوز البرنامج النووي وتحديات التخصيب لتتناول دور إيران الإقليمي، تتطلّب تعاملاً مباشراً ودقيقاً بين الجانبين الإيراني والأميركي.
والثابت في “التحريم الأيديولوجي” الذي يحُول دون الاتصال المباشر ويدفع نحو إعلاء شأن التناقض مع “الشيطان الأكبر”، أنّه يساهم في حجب إخفاقات النظام الإيراني في الداخل وهي غير قليلة، لكنه لا يمنع الطريقة البراغماتية التي تسمح بقيام نوع من الإدارة المشتركة لـلملفّين العراقي واللبناني، والمشاركة في عملية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان إسرائيل ما دامت أولويات الرعاية الأميركية لهذه العمليّة لا تُؤثّر سلباً على التموضع الإيراني في شرقي المتوسط. رحم الله ماو تسي تونغ الذي كتب أن التعقيدات في ميدان الصراع تفرض تفكيراً معقّداً موازياً لاستنباط الأساليب والحلول المناسبة.
إن الغوص في عالم التفكير الاستراتيجي الأميركي يُظهر أن “عالم ما بعد أميركا” أخذت ملامحه تتكوّن في وقت أقرب مما كان مُتوقّعاً.. والسبب ليس الصعود الحتمي لمنافسين آخرين مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل فحسب، بل تخبّط الولايات المتحدة الذي يؤدي إلى تراجع ملحوظ في نفوذها لمصلحة الصين وروسيا وإيران
المشكلة مع أميركا
تضمن الخطاب الأخير للمرشد الإيراني الأعلى السيّد علي خامنئي رسالة موجّهة للولايات المتحدة والقوى الغربية تتناول أبعاد الأزمة الحالية في إيران، يؤكد فيها أنّ المواجهة الأساسية هي مع القوى الغربية وليس مع أدواتها الداخلية المتورّطة في أعمال العنف والهجمات المسلّحة، وتستدرك الرسالة أنّ ساحات هذه المواجهة تشمل لبنان وفلسطين وبلداناً أخرى في المنطقة.
وتتمثل النقطة الجوهرية في رسالة المُرشد في الإحالة إلى احتدام النقاش الداخلي حول طريقة إدارة أزمة العلاقة مع أميركا، إذ يُعلن خامنئي أن “البعض يقول لتُحلّ المشكلة مع أميركا. كيف تحل المشكلة مع أميركا، هل بالمفاوضات وأخذ الالتزامات منها؟ عام 1980 حرّرنا الرهائن فهل احترمت أميركا التزاماتها؟ هل رفعت العقوبات وحرّرت أموالنا المجمّدة؟ أميركا لا تحترم التزاماتها والتفاوض معها لا يحلّ المشكلة؛ ما يريدونه فقط هو تقديم التنازلات وهم لا يكتفون بتنازل واحد… مطالبهم ستتوالى”.
كيف يمكن تحليل هذا الموقف من التفاوض مع الإدارة الأميركية في لحظة حرجة تبرز فيها الضغوط الأُمميّة على إيران على خلفيّة اتّهامها بنشاطات نووية غير مُعلنة في مجال التخصيب من جهة والإفراط في استخدام القوّة لاحتواء حركة الاحتجاج الداخلية من جهة أخرى؟ هل يُشكّك خامنئي في جدوى خيار التفاوض ليُبقي الباب مفتوحاً لاعتبارات تتعلّق بصورة إيران في الدبلوماسية الدولية والتوازنات الداخلية؟ أَم أنه يكتفي بإصدار تنبيه مثلما فعل عشيّة انطلاق مفاوضات فيينا غير المباشرة، وفحواه أنه يمكنكم الذهاب إلى المفاوضات مع الأميركيين لكن واجبي كمُرشد أن أحذّر من أن التجربة حتى الآن تفيد بأنهم لا يلتزمون تعهّداتهم ومن العبث التفاوض معهم!
وأيّاً يكُن الجواب، ليس من السهل التنطّح لتفكيك أحجية الفلسفة الإيرانية في إدارة الصراع مع الخصوم والأصدقاء، وعملية الدفاع والهجوم، وتفضيل الالتفاف والتطويق بدلاً من المجابهة الرأسية! أليس يُقال عن الشخصية الوطنية الإيرانية أنها تمدّ جذورها في ثقافة سياسيّة تاريخيّة تُقدّم الانتظار على المبادرة عندما يحين وقت المبادرة؟ كما أنها تُفضّل التعامل تحت طاولة المفاوضات مثلما كان الأمر في عملية ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وفلسطين؟
صورة العالم
لنترك هذه السرديّة جانباً، ولنحاول الإمساك بصورة العالم وتوازناته المتغيّرة بين حدّين: الأوّل؛ حرب أفغانستان والفشل الأميركي في الإطاحة بحركة “طالبان” والتموضع في قارّة أوراسيا، والثاني؛ حرب أوكرانيا والعجز عن رفع التحدّي الروسي.
أن يتمكّن الاتحاد الروسي من لجم التقدّم الأطلسي نحو حدود أمنه الاقليمي شرق أوروبا، إنما يفعل ذلك إستناداً إلى ميزانٍ للقوى مُحدّد مع القوّة الغربية الكبرى، الولايات المتحدة؛ ميزان للقوى هو حصيلة 30 سنة من تراجع القوة الأميركية عالمياً عبر محطات أبرزها الانسحاب المذل من أفغانستان والعراق وعودة الروسيا قوّة متماسكة على الساحة الدولية، فضلاً عن فرض الصين نفسها قوّة اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية تُهدّد الريادة الأميركية في المنظومة الدولية، والاختراق الروسي الصيني لمنطقة الخليج “خصوصاً السعودية” التي كانت حتى وقت قريب تُعتبر “محمية أميركية”.
وبالفعل إن الغوص في عالم التفكير الاستراتيجي الأميركي يُظهر أن “عالم ما بعد أميركا” أخذت ملامحه تتكوّن في وقت أقرب مما كان مُتوقّعاً.. والسبب ليس الصعود الحتمي لمنافسين آخرين مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل فحسب، بل تخبّط الولايات المتحدة الذي يؤدي إلى تراجع ملحوظ في نفوذها لمصلحة الصين وروسيا وإيران، ما يعني أنه يتعيّن على واشنطن في عالم مضطرب تصنعه قوى متعددة أن تفاوض لاعبين استراتيجيين مثل روسيا والصين وإيران بل أيضاً تركيا والسعودية، وبالتالي أن تتنازل في معظم الأحيان.
ولا بدّ أن يتذكّر الخبراء في إيران أن توصية زبيغنيو بريجينسكي لإنقاذ نظام الهيمنة الأميركية، كانت التركيز على أوكرانيا وأوزبكستان لتفكيك القوّة الروسية الحيوية، والتمحور حول أوراسيا القارّة الأكبر في العالم والأكثر سكاناً والأغنى بالموارد. ثمّ جاء استغلال أحداث 11 أيلول/سبتمبر للدفع بمفهوم الإرهاب العالمي واعتماده مدخلاً لاستعادة المحور الأوراسي للعالم من طريق غزو أفغانستان وتالياً العراق. لكن الانسحاب الدراماتيكي من أفغانستان في الآونة الأخيرة كشف الرهان الفاشل للمؤسسة الأميركية الحاكمة على التموضع وسط أوراسيا. هذا المتغيّر الأساسي في تاريخ الهيمنة الأميركية، كان يحدث في سياق جيوسياسي غير مسبوق، تغلُب عليه صورة انبعاث الاتحاد الروسي متماسكاً من تجربة انتقالية شديدة الاضطراب، وعودة الروسيا لاعباً جيوسياسياً لن يتأخّر في إثبات قدرته على النهوض مجدّداً دولة كبرى ومواجهة الاختراق الأطلسي الغربي لأمنه الإقليمي في القوقاز والبحر الأسود، كما السعي إلى بناء منطقة خالية من النفوذ الغربي في أوراسيا عبر الشراكة الاستراتيجية مع الصين وإيران وتوسيع إطار منظمة شانغهاي.
حتى الآن، تشير الوقائع إلى أن روسيا استطاعت أن تتجاوز سياسة العقوبات الغربية بفضل مساندة دول مثل الصين والهند وإيران والسعودية، وفي حال استمر هذا الاتجاه، فإنّ موسكو تكون قد كسرت الحصار الأميركي ومحوره نظام الدولار الآخذ في التفكك. حتى أن السعودية باتت لا تمانع في بيع نفطها بـ”الروبل” الروسي أو أي عملة أخرى غير العملة الأميركية. في الوقت نفسه، نرى دول شرق أوروبا تستعيد السيطرة على احتياطاتها من الذهب وتستعد للخروج من نظام الدولار، من دون أن ننسى جسر التبادل التجاري والتعاون العسكري بين إيران وروسيا، فضلاً عن خطة الاستثمارات الصينية الهائلة في قطاع النفط وإنشاءات البنى التحتية في إيران.
أما الأمر اللافت للإنتباه في تحوّلات السوق الدولية على خلفية المواجهة الدائرة حول أوكرانيا بين الكتلة الأطلسية وروسيا، فهو أن كل شبكات النقل والتأمين قد أُعيد تنظيمها لتعويض غياب الشركات الغربية التي تفضّل الامتناع عن التعامل مع روسيا. أكثر من ذلك، أميركا تراقب هذا التطوّر الخطير من دون أن تتدخّل خشيةً من انفجار أزمة ارتفاع اسعار الطاقة فيما لو انقطع تدفّق النفط والغاز الروسييَّن. في الأثناء، يغرق الاقتصاد العالمي في أزمة كبيرة نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة.. والتضخم.
المطلوب اعتماد نهج الواقعية السياسية وعدم المغالاة في الرهان على “الخيار الشرقي” بديلاً “من لا شرقية.. لا غربية”؛ واقعية تتوافق تماماً مع متطلبات الجيوبوليتيكا الإيرانية بصفة كونها “وسط جيهان”. أليست الطريقة الصينية مُلهِمة في هذا المجال؟
فرصة تاريخية؟
يقودنا هذا التقويم إلى الاستنتاج أنّ هناك الآن فرصة تاريخيّة لانتزاع تنازلات من الولايات المتحدة المنشغلة في حرب أوكرانيا وتداعياتها الكارثية على الاقتصاد العالمي، شرط التحرر من الصندوق الأيديولوجي للعداء المطلق وتطوير إدارةٍ للعبة مع واشنطن كما تفعل قوى ناشئة أخرى مثل الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وحتى الصين، أي بكلام آخر، اعتماد نهج الواقعية السياسية وعدم المغالاة في الرهان على “الخيار الشرقي” بديلاً “من لا شرقية.. لا غربية”؛ واقعية تتوافق تماماً مع متطلبات الجيوبوليتيكا الإيرانية بصفة كونها “وسط جيهان”. أليست الطريقة الصينية مُلهِمة في هذا المجال؟ لكنّ السؤال المهم هل تملك حكومة ابراهيم رئيسي الأفق الاستراتيجي الذي يسمح بالجمع بين رافعة التقارب الاستراتيجي مع روسيا والصين والتقاطع التكتيكي مع الأميركيين؟ ماذا عن معادلة الانسداد السياسي الداخلي والانفتاح على أميركا والقوى الغربية في الخارج أو في السياسة الخارجية (النووي، شرق المتوسط إلى آخره..) مقابل عدم التدخل الأميركي والغربي في صلب الوضع الداخلي الإيراني؟ إلى متى يمكن أن تستمر هذه المعادلة السياسية؟ وهل يمكن أن تشعر السلطة الإيرانية بالأمان في القضايا الداخلية؟
إيران “يصعب عليها أن تستمر في هذه السياسة”، يقول مراقبون في طهران، ما دام الصدع الداخلي بلا علاج، وما دامت أزمة الشرعيّة مرشّحة للاستمرار في ظلّ تراجع المشاركة في الانتخابات والأداء السيّئ للنظام في مسألة الحريات والحقوق. أمّا اللجوء إلى استخدام القوّة لفرض الاستقرار واحتواء الاحتجاج، وتشديد التدابير القمعيّة وسقوط المزيد من القتلى والجرحى، فإن من شأنه أن يُضعف أكثر منظومة السلطة فلا يعود في الإمكان الاستفادة من أعمال إدارة الدولة للسيطرة على الوضع الداخلي. علماً أن هذه وظيفة صعبة أصلاً بسبب العقوبات والحصار الاقتصادي والمالي.
الخلاصة هي الانسجام بين مصادر القوة الداخلية والدور الإيراني المنشود في الخارج، كون التوازن في السياسة الخارجية يرتبط بتوازن الوضع الداخلي وتماسكه. وهذا مؤدّاه جعل الأمن القومي، بأبعاده الخارجية والداخلية (الإجتماعي والسياسي)، يبلغ مرحلة ترضي جميع أطراف هذه العلاقة ـ المعادلة.
الواقع أن هذه المنظومة الأمنية في إيران تعاني خللاً يحول دون إيجاد التوازن المطلوب في السياسة الخارجية. الأميركيون يُدركون هذه المشكلة التي قد تقود “الدولة العميقة” تحت جناح الفوضى الداخليّة والدوليّة، إلى الإعلان رسميّاً عن التوصّل إلى القوّة النووية، وبالتالي اقتناع القيادة الإيرانية بالدخول في طريق إدارة أو تسوية الأزمة مع أميركا.