بعيدًا عن العنصر الخارجي للأزمة اللبنانية وتأثيره على مسارات الأمور داخليًا، إلى أين يمكن أن يُفضي التمادي في التصلّب بالمواقف؟
عند وصف الحالة اللبنانية الحالية، يُجمع الكلّ على أن ما أوصل البلاد إلى ما هي عليه اليوم هو مقولة “عفا الله عمّا مضى”، وظروف ما بعد اتفاق الطائف وتعديل الدستور، وذلك من الناحيتين: الدستورية والفعلية.
من الناحية الدستورية، تمّت كتابة دستور الجمهورية الثانية على وقع خسارة الفريق المسيحي في التركيبة اللبنانية الطائفية، مما أدى إلى تقليص لصلاحية دستورية كان يتمتّع بها رئيس الجمهورية سابقًا بوصفه ملكًا غير متوّج، بصرف النظر عمّا إذا كان يمارس تلك الصلاحيات أم لا. إلا أن الواقع المسيحي على مرّ التاريخ لم يكن يحتاج إلى تعديلات لكبح الصلاحيات تلك، لأن ضرب هذا الموقع بالذات كان وما زال وسيبقى مكفولاً من “بيت أبيه”.
وحقيقة الأمر أنه منذ أن تمّ التوافق ميثاقيًا على عودة هذا المنصب إلى المسيحيين، وإلى الموارنة بالذات (كان أول رئيس للجمهورية شارل دباس أرثوذكسيًا، وأتى تعيينه على وقع خلاف الموارنة على المنصب)، لم تتوقف الصراعات والتصفيات داخل البيت الواحد لتثبيت زعامة أو كسب منصب، ولو أدى ذلك إلى التعاون مع أعداء الوطن حينًا، واستقطاب رضى الأشقّاء حينًا آخر، فالمهم هو الجلوس على “العرش”.
وإذا كان التبرير جائزًا بالنظر إلى السلطة التي كان يتمتّع بها هذا الموقع الرئاسي حينها، فما هو المُبرّر اليوم لا سيما أن الجميع يعترف بمحدودية صلاحياته بعد التعديلات الدستورية للعام 1990، في حين أن البلاد تمرّ بأسوأ انهيار سياسي ـ إقتصادي تاريخي على الإطلاق، وعملية النهوض ـ إذا ما انطلقت اليوم ـ تتطلب أكثر من ست سنوات لتجني ثمارها، أي أبعد من ولاية رئاسية واحدة، فما هو السبب الحقيقي وراء هذا التنافس؟
أما من الناحية الفعلية، فليس وحده دخول أمراء الحرب إلى السلطة هو العامل الذي ساهم، بعد نحو 30 سنة على اتفاق الطائف، في انهيار أسس الدولة ومقوماتها، بل كلّ تلك السياسات التي تمّ اتباعها من قبل الحكومات المتعاقبة، مع الإعتراف بالحمايات الطائفية التي منعت المحاسبة وإستشراء الفساد كلّ تلك الفترة.
السؤال يُطرح: ماذا سيجني التيار الوطني الحرّ إذا ما انفرط عقد ثنائية حزب الله-حركة أمل؟ أين تكمن مصلحته في حساب الربح والخسارة؟ هل إن إضعاف الحليف الأقوى سيمكّنه من كسب معركة أو موقع أو مكانة؟ هذه أيضًا معركة محسومة النتائج مسبقًا
وفيما يحاول كلّ حزب أو تكتل أو تحالف على الساحة اللبنانية إيصال رئيسه أو حليف يكون “على قدّ إيدو”، نجد أن الأحزاب المسيحية، وهي الأحزاب المعنية مباشرةً بالموقع الرئاسي على أساس التركيبة اللبنانية الطائفية المقيتة، تبني دعمها لأي مرشّح على أسس تفتقد لاستراتيجية سياسية واضحة المعالم، تساهم في كسب معركة ما أو على قاعدة المصلحة الحزبية الشخصية التي تمتهنها معظم الأحزاب اللبنانية.
فحزب القوات اللبنانية يدعم المرشّح “السيادي”، وهو بالحقيقة يريد مرشّحًا يواجه به خصمه، حزب الله، بما أوتي من صلاحية. إلا أن هذه المعركة معروفة النتيجة مسبقًا بحسب معطيات اليوم، إلا في حال وجود عنصر مخفي لم يظهر إلى العلن، حتى الآن.
أما التيار الوطني الحرّ فهو يقود معركة “الشراكة وبناء الدولة” على أساس الميثاقية، إضافة إلى معركته المُعلنة ضد الفساد، ومعركته هذه تتمظهر على جبهتين: مرشّح الرئاسة الأولى وشرعية جلسات حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي.
أما تيار المردة، فهو يقود معركة ترشيح رئيسه سليمان فرنجية، على أساس مدى قوّة تحالفاته السياسية الداخلية وصداقاته الإقليمية المبنية على العلاقات العائلية والأحلاف التاريخية لآل فرنجية، وليس من شعار واضح لمعركته الانتخابية سوى عدم تفويت الفرصة مرّة جديدة كما في العديد من المرّات السابقة.
وبالنسبة للحزب الديمقراطي الاجتماعي اللبناني (الكتائب سابقًا بعد تعديل الإسم عام 2021)، فهو أيضًا يدعم المرشح “السيادي”، وهذا ما أعلنه في مؤتمره الحزبي الأخير قبل أيام قليلة، وكان واضحًا بأن معركته هي بوجه نفوذ حزب الله وسيطرته على قرار الدولة. إذًا بالعلن؛ حزبا الكتائب والقوات اللبنانية لديهما نفس الأهداف، على الأقلّ بالظاهر، لذا يسهل عليهما الاتفاق على مرشّح واحد لتنفيذ الهدف الأوحد، مع التنويه بأن دعم أي مرشح من قبل هذين الحزبين لن يؤمّن له تذكرة الوصول إلى “العرش”.
وتبقى أحزاب وشخصيات ما كان يُعرف بـ”قوى 14 آذار” و”المستقلين”، فهؤلاء تتجاذبهم أمواج التفاوض، وخيارهم مبهم حتى الآن، وعلى الأرجح سيركبون الموجة الأعلى والأوفر حظً، على جاري عادتهم.
في ظل هذا التجاذب الحاصل بين القوى المسيحيّة، ومن خارج سياق المعركة الرئاسية، خرج رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع للتلويح بنظام جديد، وبدأ يتردّد الكلام عن نوع من الفدرلة أو التقسيم، وكأن هذا الشعب لم يدفع ثمن وحدة أراضيه من دماء أبنائه من جميع الطوائف والمناطق، فإن كان تأليب الناس بعضهم على بعض يُمكن أن ينجح، إلا أن تقسيم الأرض طائفيًا و”تنقيتها” أمرٌ صعبٌ لا بل مستحيل. هذه أيضًا معركة معروفة النتائج مسبقًا.
كما أن التيار الوطني الحر، بمعادلة الربح والخسارة، ينتقد عدم وقوف حزب الله إلى جانبه في معركته ضد الفساد، غامزًا من باب “الثنائية الشيعية”، متهمًا حركة أمل حليفة حزب الله بالفساد أو على الأقل بتسهيله ومتهمًا حزب الله بتغطيته، لكن السؤال يُطرح: ماذا سيجني التيار الوطني الحرّ إذا ما انفرط عقد ثنائية حزب الله-حركة أمل؟ أين تكمن مصلحته في حساب الربح والخسارة؟ هل إن إضعاف الحليف الأقوى سيمكّنه من كسب معركة أو موقع أو مكانة؟ هذه أيضًا معركة محسومة النتائج مسبقًا.
بالمحصّلة، لو أن اتفاق الكتل والشخصيات المسيحية هو الذي يُحدّد وحده المرشّح الرئاسي، ولو أنه باستطاعة هذه القوى فرضه على القوى الأخرى في البلاد، لكان بإمكاننا أن نتخيّل المدى الذي يمكن أن يتّخذه هذا الصراع، لتثبيت زعامة، أو تكريس الأنا، والتاريخ أكبر شاهد.