“إسرائيل” تُشرّع الإغتيالات توراتياً.. “إنهض واقتلهم أولاً” (101)

يواصل الكاتب رونين بيرغمان في هذا الفصل من كتابه "انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية" شرح كيفية سعي القيادة العسكرية "الإسرائيلية" لإيجاد التبريرات القانونية لما تسمى "عمليات القتل المتعمد" في الضفة الغربية وقطاع غزة خوفا من الملاحقات القانونية ضد جنودها وضباطها.

يقول رونين بيرغمان إن التغيير في مسميات الأمور كان عاملاً مساعداً في العلاقة مع الرأي العام (تبرير القتل المتعمد والاغتيال) لكن لم يكن واضحاً ما إذا كانت الحملة الجديدة المفتوحة للقتل المتجاوز للقانون – بمعزل ما اذا كان “اغتيالاً” او “اعمالاً استباقية متعمدة” – هي أمر قانوني أم لا. ولم يكن مفاجئاً ان عائلات بعض الفلسطينيين الذين تم اغتيالهم وضحايا “الضرر العرضي” لم يقتنعوا بذلك، فطلبوا معونة مؤسسات حقوق الانسان ومحامي الجناح اليساري الليبرالي من اجل التقدم بطلب للمحكمة “الإسرائيلية” العليا للتحقيق ومحاكمة المسؤولين، او على الأقل منع استخدام الاغتيال، وان تأمر بالالتزام بالتشريعات المعتادة لفرض القانون وان تُطبق هذه التشريعات على الصراع “الإسرائيلي” ـ الفلسطيني.

ولم تقتصر معارضة سياسة القتل المتعمد والاغتيال على الأهداف، يقول بيرغمان، “فمثلا اللواء اهارون زئيفي فاركاش رئيس جهاز “أمان” الذي لم يكن يعارض الاغتيال بالمبدأ، ولكنه كان يعتبر انه امر قصير النظر وخطير ويضيف “ان كل قرار وكل اعتبار وكل مرجع لاي هدف كانت الحكومة المصغرة تتفحصه من خلال عدسة سياسة القتل المتعمد، وفجأة فان “الشين بيت”، الذي بات يتمتع بقوة هائلة، كان اول من يتم استشارته بكل شيء، اعتقد ان هذا الامر كان اشكاليا”.

وما شكل مفاجأة أكبر، بحسب بيرغمان، أن الرئيس السابق لجهاز “الشين بيت” عامي ايالون (سمحت الإصلاحات التي اجراها على الأنظمة العملياتية والاستخبارية لبرنامج الاغتيال أن يبدأ)، قد وافق على قول زئيفي، وجادل في الأمر قائلاً إن قتل “الشين بيت” للناس من دون الأخذ بالاعتبار الاحداث الدولية والسياسية “يؤدي الى فشلهم في فهم متى يمكن ان يخمد الاغتيال لهب الصراع ومتى يمكن ان يؤججه”.

ويستعرض بيرغمان ما يشبه المثال على ذلك قائلاً: “في 31 يوليو/تموز عام 2001 مثلاً قامت مسيرات الجيش “الإسرائيلي” بإطلاق عدة صواريخ على مكتب جمال منصور، العضو في الذراع السياسية لحركة حماس وأحد قادة الطلبة في جامعة النجاح في نابلس ورئيس مؤسسة الأبحاث الفلسطينية، فقتلته الى جانب اثنين من مساعديه وستة مدنيين فلسطينيين اخرين، من ضمنهم طفلان. وقال الناطق باسم الجيش “الإسرائيلي” في بيان انه على الرغم من ان منصور كان شخصية سياسية وإعلامية فانه كان متورطاً في “الإرهاب” وفي تنظيم الهجمات الانتحارية. فاتصل ايالون بقيادة الشين بيت وسأل مسؤولاً رفيع المستوى “هل جننتم؟ لماذا قتلتموه؟ هذا الرجل أصدر قبل أسبوعين بيانا يقول انه يدعم وقف الهجمات الإرهابية وانه يجب إعطاء عملية السلام فرصة”؟ فأجابه المسؤول انهم لم يكونوا على بينة من بيان منصور، فقال له ايالون “ماذا يعني ذلك، انكم لم تكونوا على بينة فقد نشرته كل الصحف الفلسطينية والعالم كله يعلم به”!

ويتابع بيرغمان، أن الاغتيال الآخر الذي لم يوافق ايالون عليه كان قتل رائد كرمي أحد قادة الميليشيا المسلحة لحركة فتح، “وكان “التنظيم” قد بدأ بشن هجمات “إرهابية” واخذت الصفحة الحمراء لكرمي تكبر أكثر فاكثر نظراً لقتل التنظيم المزيد من “الإسرائيليين”، تجاراً ومستوطنين وجنوداً في الأراضي المحتلة، وقد نجا كرمي من عدة محاولات لاغتياله واتخذ تدابير استثنائية في تنفيذ اعماله. ولكن الشين بيت تمكن من إيجاد نقطة ضعف لديه، فقد اعتاد كرمي القيام كل يوم بعد الظهر بزيارة منتظمة الى عشيقته، وهي زوجة أحد مساعديه، وكان دائماً يتخذ في رحلته طريقاً ترابية بمحاذاة حائط حول مقبرة نابلس ويمشي لاصقاً نفسه بالحائط لخوفه ان تكون المسيرات “الإسرائيلية” محلقة في الأجواء. وفي احدى الليالي تمكن عملاء وحدة “العصافير” من استبدال احد حجارة الحائط في الممر بآخر كان محشواً بالمواد المتفجرة، وفي اليوم التالي، وبينما كان كرمي متجها الى موعده مع عشيقته تم تفجير العبوة عن بعد وقتل على الفور. لم يكن لدى ايالون أي شك بان كرمي متورط في “الإرهاب” لكنه قال ان اختيار التوقيت – وسط مبادرة أمريكية حثيثة للتوصل الى وقف لإطلاق النار وكان ياسر عرفات قد وافق عليها – كان خطأ، وفي الحقيقة جعل من الاغتيال عملاً غير قانوني، وقال “ان وجود قواعد في الحرب هدف الى جعل انهاء الحرب ممكناً وللتأكد من عدم التصعيد في الحرب، فمن غير المسموح القيام بأعمال ذات طابع حربي فيما يكون من الواضح ان ذلك سوف يجعل من وضع حد للصراع غير ممكن”. ويزعم ايالون، بحسب بيرغمان “انه في ضوء عملية قتل كرمي فان حركة فتح اصبحت اكثر تورطا في “الإرهاب” وبدأت بشن هجمات انتحارية”.

وحسب رواية بيرغمان “رد آفي ديتشر، رئيس الشين بيت، على ايالون قائلا ان الأخير لم يكن على معرفة بالمعلومات الاستخبارية بان رائد كرمي كان متورطاً في التخطيط لهجمات وانه لا هو ولا زعيمه عرفات لديهما نوايا صادقة لإيقاف “الإرهاب”. وفي غياب الاذن المصغية في الشين بيت، توجه ايالون الى وزير الدفاع في حكومة ارييل شارون بنيامين بن اليعازر موبخاً بصوت عالٍ “من المرتقب ان يأتي (وزير الخارجية الأمريكي كولن) باول في زيارة، وعرفات يحاول انتهاز اي فرصة ممكنة لاستئناف عملية السلام وقد أصدر امرا لكل قواته بوقف الهجمات الإرهابية”، واستعان ايالون بمعلومات استخبارية حديثة تفيد ان أمر عرفات كان له وقعه داخل حركة فتح وكان كرمي مشاركاً في النقاش، وسأل “هل كان من الضروري قتل أحد رجال عرفات تحديدا في هذا الوقت؟ فقط لأنه لاحت فرصة عملياتية لذلك”؟ وينقل بيرغمان عن بن اليعازر قوله لايالون ردا على تساؤلاته “ماذا تريدني ان افعل؟ انه المجنون ديتشر”. فرد عليه ايالون قائلاً “انت وزير الدفاع وليس ديتشر فالأمر يعود لك وليس له”. وقال ايالون لاحقاً مستعيناً بقول لـ(الفيلسوفة السياسية اليهودية) حنا ارندت عما يحدث عندما يوضع أناس عاديون في مواقع فاسدة تشجعهم على الانسجام فيها، وأضاف ايالون “انها تفاهة الشر، عندما تعتاد القتل تصبح الحياة البشرية امراً عادياً بالإمكان الاستغناء عنها. تمضي ربع ساعة او عشرين دقيقة في السؤال من تريد ان تقتل وكيف تريد قتله وتمضي يومين او ثلاثة أيام في التعامل مع التكتيكات لتحقيق ذلك ولا تلتفت الى تداعيات الامر”!

يتابع بيرغمان، “على الرغم من ان “الإسرائيليين” لم يولوا كبير اعتبار للتداعيات الأخلاقية للبرنامج الجديد (برنامج القتل المتعمد) فانهم كانوا واعين انهم بحاجة الى غطاء قانوني لضباطهم ومساعديهم الذين يمكن ان يواجهوا لاحقاً محاكمات إما في “إسرائيل” وإما في الخارج. فقام رئيس هيئة الأركان العامة للجيش شاوول موفاز في بدايات ديسمبر/كانون الأول عام 2000 باستدعاء قائد اللواء القانوني في الجيش العميد مناحيم فينكلشتاين الى مكتبه وسأله “في ظل الوضع الراهن، هل مسموح لإسرائيل ان تقتل بشكل علني اشخاصاً محددين متورطين في الإرهاب؟ هل يُعتبر ذلك قانونياً ام لا”؟ دهش فينكلشتاين من السؤال وقال “هل تعرف ماذا تسألني حضرة رئيس هيئة الأركان؟ إنك تطلب من كبير المحامين العسكريين في الجيش الإسرائيلي ان يخبرك متى يمكنك قتل الناس من دون محاكمة”؟ كان موفاز يعرف ذلك جيداً فسأله مجدداً “هل كان امراً قانونياً اغتيال فلسطيني مشتبه به بأعمال إرهابية”؟ فأخبره فينكلشتاين ان هذا الامر معقد وحساس وهو يتطلب دراسة مقارنة لحالات من انحاء العالم وربما ابتكار محتوى قانوني جديد يستند الى مبدأ قاله سيسيرو (الحقوقي الروماني ماركوس توليوس سيسيرو في القرن الثاني قبل الميلاد) بأنه “القوانين تلتزم الصمت في ازمنة الحرب”. ومع ذلك فقد امر فينكلشتاين فريقا من المع المحامين الشباب لديه في الجيش “الإسرائيلي” إيجاد حل لهذا الامر”.

إقرأ على موقع 180  موقع "مدار": 8308 أسرى فلسطينيين حتى نهاية 2023

وفي 18 يناير/كانون الثاني عام 2001 تم تحويل وثيقة قانونية عالية السرية موقعة من فينكلشتاين الى رئيس هيئة الأركان العامة ونائبه والى رئيس “الشين بيت” بعنوان “توجيه ضربات الى اشخاص متورطين مباشرة في هجمات ضد إسرائيليين”، وجاء في مقدمة الوثيقة “لقد اخبرنا الجيش الإسرائيلي وجهاز الشين بيت ان القيام بهذه الاعمال (القتل المتعمد) تهدف الى انقاذ حياة المدنيين الإسرائيليين وعناصر القوات الأمنية، لذا ومن حيث المبدأ، أي نشاط يجب أن يستند الى القواعد الأخلاقية المتعلقة بالدفاع عن النفس كحالة الذي يأتي ليقتلك، انهض واقتله أولاً” (إحدى آيات التوراة)”.

يقول رونين بيرغمان، “للمرة الأولى باتت هناك وسيلة قانونية لإقرار القتل خارج القانون.. كان الامر لحظة صعبة لفينكلشتاين، وهو رجل متدين متبحر جيداً في التوراة، لقد كان يعرف جيداً ان الله منع الملك داوود من بناء المعبد لأنه قتل اعداداً كبيرة من الأعداء باسم شعب “إسرائيل”، وكان فينكلشتاين يتساءل ما إذا كان الله سيعاقبه يوماً ما ونُقل عنه قوله “لقد احلت الرأي القانوني بيد مرتجفة، لقد كان واضحاً ان هذا الرأي لم يكن امراً نظرياً وانهم سيستخدمونه”.

لقد أعاد هذا الرأي القانوني وضع المعايير بين “إسرائيل” والفلسطينيين، يقول بيرغمان، “لم يعد الامر مجرد تنفيذ القانون، او أن شرطياً يعتقل مشتبهاً به كي يواجه محاكمة. بدلاً من ذلك فان الانتفاضة كانت “صراعاً مسلحاً واقل من حرب”، لكن مع ذلك طبقت عليها قوانين الحرب، التي تسمح بضرب العدو حيثما يكون طالما انه يتم التمييز بين المقاتلين والمدنيين. وفي الحروب الكلاسيكية فان هذا التمييز سهل، فعناصر القوات المسلحة العدوة، وطالما هم في الخدمة العسكرية، يعتبرون أهدافا مشروعة، وفي المواجهة بين “إسرائيل” والفلسطينيين كان مثل هذا التمييز صعباً للغاية، فمن هو العدو؟ كيف يمكن تحديده؟ ومتى يمكن ان لا يكون عدوا؟ فالرأي القانوني افترض نوعا جديدا من الصراع المسلح، فـ”المقاتل غير الشرعي”، هو الذي يشارك في عمليات مسلحة وهو ليس جندياً بكل معنى الكلمة. لقد شمل هذا التعبير كل شخص ينشط في منظمة “إرهابية”، وحتى لو كان نشاطه هامشياً بالإمكان اعتباره مقاتلاً – حتى لو كان نائماً في سريره – على عكس الجندي الذي يكون في إجازة ولا يرتدي زيه العسكري”.

لقد قاد هذا التفسير المكلف لـ”المقاتلين” الى نقاشات ماراثونية في القسم القانوني الدولي في فوج المحامين العسكريين في الجيش “الإسرائيلي” والى ما أمسى يسمى “مسألة الطبّاخ السوري”.. وفيه اذا كانت “إسرائيل” في حالة حرب عادية مع سوريا فان قتل أي مقاتل سوري يعتبر قانونياً وشرعياً حتى ولو كان الطباخ العسكري في أدنى تراتبية عسكرية، ووفقا لوحدة القياس هذه ووفقا للتعريف العريض لـ”المقاتلين غير الشرعيين” في الصراع “الإسرائيلي” الفلسطيني؛ أي شخص يساعد حماس “يمكن تصنيفه هدفاً أيضاً. وهذا يشمل أيضا امرأة غسلت ثياب مهاجم انتحاري قبل التوجه لتنفيذ مهمته او سائق سيارة الأجرة الذي نقل ناشطاً ما وهو على معرفة بأعماله من مكان الى آخر”، حسب رواية بيرغمان.

لقد كان ذلك “متطرفاً جداً” وفقا للرأي القانوني، يقول بيرغمان، فالرأي نص على ان فقط أولئك الذين هناك “معلومات دقيقة ويعتد بها عن الشخص المعني تشير الى انه نفذ هجمات او أرسل مهاجمين “بالإمكان استهدافهم. إضافة الى ذلك لا يمكن استخدام الاغتيال كعقاب لأعمال ارتكبت في الماضي ولا كشكل من الردع لمقاتلين آخرين، بالإمكان استخدامه فقط “عندما يكون من المؤكد ان الهدف سوف يواصل في المستقبل تنفيذ اعمال مماثلة”. واكد الرأي القانوني انه، حيث أمكن، من المفضل اعتقال شخص ما بدلاً من قتله، خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش “الإسرائيلي”. وعلى عكس الجنود المحترفين في حرب عادية، فان المقاتلين غير الشرعيين لا يتمتعون بالحصانة الجنائية او بوضعية أسرى الحرب، لذلك بالإمكان اعتقالهم ومحاكمتهم وفق آلية المحاكمات الجنائية. وعندما يكون القتل ضرورياً يجب تطبيق مبدأ “النسبية”. وقد نص الرأي القانوني على ان أي قتل يجب ان يكون استيعابياً قدر الإمكان بحيث “ان الخسائر الجانبية للأرواح والاضرار بالممتلكات نتيجة عمل عملياتي لا يتجاوز بشكل معقول المنفعة العسكرية المتوقعة من العمل”. وانتهى الرأي الى القول إنه فقط رئيس الوزراء ووزير الدفاع يمكنهما ان يوقعا ما تسمى “الصفحة الحمراء”.

تنفس الضباط “الإسرائيليون” الصعداء، ويقول بيرغمان، نقلاً عن نائب رئيس “الشين بيت” ديسكين “لقد كانت توقيعا يؤكد على اننا كنا نعمل وفقا لمعايير القانون الدولي”. وفي العام 2003 احالت الدولة نسخة غير مصنفة سرية لهذا الرأي القانوني الى المحكمة العليا التي اقرته في العام 2006. وفي حين ان فينكلشتاين اعتبر ان “إسرائيل” ملتزمة بموجب هذا الرأي بالقانون الدولي، فان الرأي العام الدولي كله كان امراً مختلفاً”، يقول بيرغمان.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": في عالم الغاز.. لا يلعب الأغبياء!