لاعب الفوتبول الذي بلغ منتصف الثلاثينيات من العمر يعتبر قد بلغ شيخوخة الملاعب. فاز فريق الشيخ ميسي الأرجنتيني (34 سنة) على فريق الشاب مبابي الفرنسي (24 سنة). الشاب يتفوّق بعدد الأهداف. لكن الفريق الذي يقوده “الشيخ”، الذي كان على رأس فريق أكثر تماسكاً وانسجاماً، هو الذي فاز.
يُقال إن إسرائيل لها جيش. هي جيش له دولة، ينتصر على العرب. الفرق أن كل جندي عربي يُمكن أن يهزم أي جندي اسرائيلي في مقابلة فردية. لكن الجيش الإسرائيلي هو الذي ينتصر بالتنظيم والتكنولوجيا والقيادة. تخاف الأنظمة العربية بطغاتها من جيوشها وقوادها المحنكين والمجربين، فتُسرّحهم أو تُنشئ جيوشاً موازية أقل تنظيماً وأكثر تعلقاً بالطاغية. ليس فريق الدولة واحد بل هو فريق للدولة الموازية. دولة ضمن دولة، وهو الذي يحكم. طبيعي أن ينهزم أمام جيش نظامي، أي رسمي، مصدره الدولة الرسمية وولاؤه لها، لا للطاغية والإيديولوجيا التي تلازم طغيانه. وتُستخدم لتبرير الطغيان. ينتهي الأمر الى نظام حكم لفريق من الناس لا الى دولة لجميع الناس، مما يضع نصف السكان أو أكثر خارج النظام أو ضده. أقطارنا كل منها مثل فريق فوتبول له قبطانان.
ربما كانت تكاليف حرب أوكرانيا اليومية أو الأسبوعية أكثر من مجمل تكاليف مونديال قطر، الذي جلب لنا التسلية واللهو، في حين لا ينتج عن الحرب، كل الحرب، الا القتل والدمار
كان أحد أساتذتنا الكبار يقول إن الإتقان في العمل، إنشائي أو غيره، هو في الخمسة بالمائة الأخيرة من الشغل. أن يبقى فريق (الفرنسي) دون أهداف، بينما الأرجنتينيون لهم هدفان حتى الدقائق الأخيرة من الوقت الأصلي للمباراة، ثم يسجل الفريق الفرنسي هدفين، فهذا دليل على الإتقان بمعنى الإصرار والاستمرارية، وما يتطلّب ذلك من تدريب مسبق، ووضع نفسي لا يعتبر أن المباراة انتهت حتى تنطلق الصفّارة النهائية. العزم في بداية المباراة كما في نهايتها مثل على الاتقان والقدرة عليه، وهو أمر تفتقده جحافل الاستبداد في أي معركة.
لا يستطيع المرء إلا أن يحزن لعدم وصول المغرب بمنتخبها الوطني الى الدور النهائي. ربما كان يلزمهم بالإضافة الى الفريق، الذي أجاد في اللعب متماسكاً ومثابراً لآخر لحظة، هدّاف مميز. مهما تحدثنا عن التنظيم والتدريب والعمل المؤسساتي، لا بدّ من أشخاص مميزين يمثلون روح الفريق، ويكونون قادرين على اجتراح معجزات التهديف، حين يلزم ذلك. لم يفشل المغرب بقدر ما كانت تعوزه العدة الكاملة للهجوم. انتكست آمال العرب بالوصول الى نهائي كأس العالم برغم أن النتائج التي حقّقها فريق المغرب فاقت ما مضى. قال العرب خلال هذا المونديال، بإجماعهم حول المغرب، حتى ذوي الفرق التي فشلت في الاستمرار فخرجت من التنافس باكراً، إن فريقنا هو المغرب، وعليه تُعقد الآمال. نحن أمة يجمعها أكثر مما يفرقها، فعلى أنظمتها الانصراف الى عملها، وهو الحفاظ على وحدة الأقطار. الأمة موحدة والأقطار تفتقد الوحدة.
لا بدّ من توجيه شكر الى قطر، التي أصرّت على أن لا تبقى مباراة كأس العالم حكراً إقامتها في بلدان دون أخرى بحجة المناخ. قالت قطر نحن كبلد عربي نقدم صحراءنا للمباريات. ونجد الوقت المناسب للمباريات، وعلى العالم الكروي أن لا يبقى قيد احتكار البقاء في بلدان دون أخرى. الأهم من ذلك أن المبالغ الإجمالية التي أنفقت من أجل إقامة ملاعب وتنظيم هذا المونديال (مع التشديد على دقة التنظيم) كانت أكثر فائدة وأقل تدميراً وقتلاً في حرب أوكرانيا في أوروبا، والتي ربما كان ما يُنفق فيها على السلاح والتدمير والقتل أكثر بكثير من أكلاف مونديال قطر. ربما كانت تكاليف حرب أوكرانيا اليومية أو الأسبوعية أكثر من مجمل تكاليف مونديال قطر، الذي جلب لنا التسلية واللهو، في حين لا ينتج عن الحرب، كل الحرب، الا القتل والدمار. تطل علينا الحرب من بلد أوروبي، ويطل علينا اللهو وحرب اللهو الكروية من بلد عربي آسيوي. خلال المونديال، لم نعد نهتم لأخبار حرب أوكرانيا. الإنسان يُحب ما يُفرح أكثر مما يُحزن، فيا ليت حكام هذا العالم ينفقون ما تراكم لديهم من ثروات على الرياضة واللهو لا على الحروب والدمار والقتل والتشريد. وليأخذوا منا ميداليات اعتراف وتكريم. سئمنا الحرب. سئمنا إعادة بناء ما يُهدّمه النظام البشري عن سابق تصوّر وتصميم.
اللعب بالكرة أرفع شأناً من الحروب التي يشنها حكام العالم. اللهو أرفع شأناً من الحرب. أبطال اللهو يستحقون الإعجاب. مثيرو الحروب يثيرون القرف والاشمئزاز. لو مارس حكام العالم سياسة التعاون البشري والحوار والجدل، ولو شاركوا الناس في همومهم وشجونهم، ولو فعلوا شيئاً لتخفيض أعداد الفقراء الذين يتزايدون باستمرار، لا بسبب ازدياد أعداد البشرية، بل بسبب إمعان الطبقات العليا التي يمثلها هؤلاء الحكام في استغلال الآخرين، لكانوا استحقوا منا بعض الاحترام. العالم الذي يُديره حكامه يغص بالآلام والشقاء والبؤس. عالم الرياضة، عالم اللهو، أخرجنا من آتون البؤس ولو لأيام معدودات.