سِبْط ابن الجوزي (ت. 1256م) هو من أهمّ المؤرّخين المسلمين في عصره، وكتابه “مرآة الزمان في تواريخ الأعيان” فيه من المادّة التاريخيّة الثمينة ما يجعله من المصادر التي لا يمكن الإستغناء عنها، خصوصاً عند التطرق إلى القرن الثاني عشر والنصف الأوّل من القرن الثالث عشر، وهي أهمّ فترة في الحقبة التي نسمّيها “صليبيّة”.
اسمه الكامل: أبو المظفّر شمس الدين يوسف بن قُزُغْلي التركي. ولد في بغداد، ثمّ انتقل إلى دمشق حيث عاش معظم حياته (مع تنقلات قصيرة في بلاد الشام والجزيرة ومصر)، ونال فيها شهرة كبيرة في عالم السياسة والعلم. كان تركيّاً من جهة والده (أي أصله من وسط آسيا). أمّا من ناحية والدته، فهي ابنة العالم الحنبلي الشهير ابن الجوزي البغدادي (ت. 1201)، ومن هنا جاء الاسم الذي عرف به “سبط ابن الجوزي” أي حفيد ابن الجوزي. وكان أوّلاً على المذهب الحنبلي (تأثّراً بجده)، لكنّه بعد رحيله عن بغداد عاد إلى المذهب الحنفي (الذي كان يتبعه الأتراك في ذلك الوقت).
قُلتُ إنّ كتاب “مرآة الزمان” هو من أهمّ مصادرنا عن الفترة الصليبيّة. لكن ما لا نعرفه هو “أجندة” سبط ابن الجوزي في ما رواه وفي ما قرّر أن يتغاضى عنه ولا يرويه. مثلاً، في حوادث سنة 1229، يقول السبط إنّ السلطان الكامل الأيّوبي اتّفق مع الإمبراطور فريدريك على اقتسام مدينة القدس (وكانت المدينة في يد الأيوّبيّين). فغضب حاكم دمشق الملك الناصر داود ابن المعظّم وطلب من سبط ابن الجوزي أن يخطب في الجامع الأموي عن فضائل القدس (ومن دون شكّ، كان الهدف من التركيز على فضائل القدس نقد ما أقدم عليه الكامل الأيوبي وإظهاره كخيانة للإسلام). يقول السبط:
“وفيها أعطى الكامل بيت المقدس للإنبرور، ووصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الفرنج، فقامت القيامة في بلاد الإسلام، واشتدت العظائم بحيث إنه أقيمت المآتم. وأشار الملك النَّاصر داود بأن أجلس بجامع دمشق، وأذكر ما جرى على البيت الُمَقّدس، فما أمكنني مخالفته، ورأيت من جملة الديانة والحمية للإسلام موافقته. فجلستُ بجامع دمشق وحضر النَّاصر داود على باب مشهد عليّ، وكان يوماً مشهوداً، لم يتخلف من أهل دمشق أحد. ومن جُمْلة الكلام: انقطعتْ عن بيت المقدس وفود الزَّائرين، يا وَحْشَة المجاورين، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة، كم جَرَتْ لهم على تلك المساكن من دمعة، تالله لو صارت عيونهم عيوناً لما وَفَتْ، ولو تقطَّعت قلوبُهم أسفاً لما شفت، أحسن الله عزاء المسلمين، يا خجلة ملوك المسلمين، لمثل هذه الحادثة تسكب العبرات، لمثلها تنقطع القلوب من الزّفرات، لمثلها تعظم الحسرات، وكان بعض أصدقائي نظم أبياتاً، فاقتضى الحال إنشادها، وهي هذه الأبيات:
أَعَينَيَّ لا تَرْقَي من العَبَرَاتِ.. صِلِي بالبُكا الآصال بالبُكُراتِ
وأَذْرِي دموعاً كالشَّرار يطيره.. لهيبُ الحشا من عاصفِ الزَّفراتِ.
***
على المسجدِ الأقصى الذي جَلَّ قَدْرُه.. على موطنِ الإخْباتِ والصَّلواتِ
على منزل الأملاكِ والوحي والهُدَى.. على مَشْهَدِ الأبدال والبَدَلاتِ
على سُلَّمِ المعراجِ والصَّخْرة التي.. أنافَتْ بما في الأرضِ من صَخَراتِ.
***
على القِبْلة الأُولى التي اتَّجهتْ لها.. صلاةُ البرايا في اختلافِ جهاتِ
على خيرِ معمورٍ لأكرمِ عامرٍ.. وأشرفِ مبنيٍّ لخيرِ بُناةِ
ومعمار داود ذو الأَيد وابنه.. سليمان ربّ المُلْك والزّلفاتِ.
بهذه الكلمات، أراد السبط إبراز الثقل الديني للقدس بحيث يُشعِر الحضور أنّ الكامل فرّط بالإسلام وليس فقط بمدينة. ويروي لنا ابن واصل الحموي (ت. 1298) أنّه كان في دمشق في ذلك الوقت وشهد خطبة سبط ابن الجوزي التي أبكت معظم الحضور.
هل ما يذكره سبط ابن الجوزي عن أسباب خطبته وردّة فعل المسلمين لتسليم القدس فيه بعض الدجل السياسي والدعاية لرئيسه الناصر داود، أم يُقدم حقيقة تاريخيّة؟
للإجابة، علينا النظر في حادثة مماثلة حصلت بعد 15 سنة، وهي تسليم الناصر داود مدينة القدس للصليبيّين في أوائل سنة 1244 وهي واقعة لا يذكرها سبط ابن الجوزي بتاتاً، كما نجد في المقطع أدناه عن الإتّفاق بين عدد كبير من الأمراء الأيّوبيّين والصليبيّين ضدّ السلطان الأيّوبي الصالح أيّوب المتحالف مع الخُوارزميّين (الخُوارزميّون هو الإسم الذي أطلقه المؤرّخون في بلاد الشام على الدولة السلجوقيّة في العراق وإيران في القرن الثالث عشر). يقول سبط ابن الجوزي واصفاً معركة فِربيا أو هِربيا قرب غزّة (Battle of La Forbie) في تشرين الأوّل/أكتوبر 1244:
“لما نزل الخوارزمية غزّة، بَعَث إليهم الصالح أيّوب الأموال والخِلَع والخيل والأقمشة والعساكر، وأمرهم بالنزول على دمشق، فاتّفق الصالح إسماعيل والناصر داود والمنصور صاحب حمص مع الفرنج على الخُوارَزْمية وعسكر مصر، وكان الصالح إسماعيل قد أعطاهم الشقيف بعد أن عَذَّب واليه واستأصله حيث امتنع من تسليمه، وخرج إسماعيل بنفسه من دمشق، ومضى إلى الشقيف وسلَّمه إليهم، وكان عامراً، وسلَّم إليهم صفد وبلاد المسلمين، وكانت صفد خراباً. ولمّا اتَّفقوا مع الفرنج خرج صاحب حمص من دمشق بعسكر حمص إِلَى بلد الفرنج، وجهَّز النّاصر عسكره من نابلس مع الظهير بن سُنْقُر الحلبي والوزيري، واجتمعوا بأسرهم على يافا، والخُوارَزْمية وعسكر مصر على غزّة. وساق صاحب حمص وعسكر دمشق تحت أعلام الفرنج، وعلى رؤوسهم الصُلْبان، والأقسّاء في الأطلاب يصلِّبون على المسلمين ويقسقسون عليهم، وبأيديهم كاسات الخمر والهنابات يسقونهم. وساقت الخوارزمية وعسكر مصر، والتقوا على مكان يقال له فربيا وكانت الفرنج في الميمنة، وعسكر النّاصر في الميسرة، وصاحب حمص في القلب. فأوَّل من انكسرت الميسرة، وهرب الوزيري، وأُسِر الظَّهير بن سُنْقُر وجرح في عينه، وأخذ جميع ماله وأصبح فقيراً. وانهزم صاحب حمص، ومالت الميمنة بالفرنج، فرأوا القلب والميسرة قد انكسروا، فخذلوا، وأحاطت بهم الخوارزمية، وكان عسكر مصر قد انهزموا إلى قريب العريش، ورموا كوساتهم وأثقالهم، وثبتت الخوارزمية، وكان الفرنج ألفاً وخمس مئة فارس من المُصَلا عليهم، والكنود الكبار، وعشرة آلاف راجل، وما كانت إلَّا ساعة حتَّى حصدتهم الخوارزمية بالسيوف حصداً، وأسروا منهم ثمان مئة أسير، وكان يوماً عظيماً لم يجر مثله في زمن نور الدين وصلاح الدين، رحمهما الله تعالى”.
يتجاهل سبط ابن الجوزي كلّيّاً تسليم القدس للفرنجة في سنة 1244، والتي أخذها منهم الخوارزميّون في أواخر تلك السنة. وتجاهل تحديداً الدور الرئيسي الذي لعبه النّاصر داود في تسليم المدينة، والذي نعرف عنه من ابن واصل الذي يقول لنا أنّه مرّ بالقدس يوم تسليمها إلى الفرنجة ووجد النّاصر داود هناك، جاء بنفسه ليشرف على التسليم ولتأكيد التحالف الذي بناه وعمّه الصالح إسماعيل وأفراد آخرين من الأسرّة الأيّوبيّة مع الصليبيّين. يقول ابن واصل:
“وسافرت في أواخر هذه السنة (641 هـ.) إلى الديار المصرية. ودخلت البيت المُقدّس، ورأيت الرهبان والقسوس على الصخرة المقدّسة، وعليها قناني الخمر برسم القربان. ودخلت الجامع الأقصى، وفيه جرس معلّق. وأبطل بالحرم الشريف الأذان والإقامة، وأعلن فيه بالكفر. وقدم الملك النّاصر داود القدس في ذلك اليوم الذي زرت فيه القدس، ونزل غربي القدس، فلم أجتمع به خيفة أن يصدني عن الوصول إلى الديار المصرية. ووصلت إلى غزّة فوجدت بها بعض عسكر الملك الصالح إسماعيل نازلين بها”.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا تغاضى سبط ابن الجوزي عن حقيقة تسليم الناصر داود للقدس؟ في هذا المثل لدينا ما رواه ابن واصل لنقارنه بما سرده سبط ابن الجوزي لنعرف ما هي الأمور التي ضخّمها الأخير في موضوع تسليم القدس في زمن الكامل ثمّ تجاهله وأخفاه في زمن الناصر داود. الأرجح أنّ ذلك كان مقصوداً، وهدفه الدعاية للناصر داود وحمايته من النقد. لكن في موضوع تسليم الناصر داود للقدس تحديداً، يمكن أن نقول إنّ سبط ابن الجوزي أراد حماية نفسه، نظراً للدور الذي لعبه في تقليب أهل دمشق ضدّ الكامل عند تقاسمه للقدس مع الصليبيّين في سنة 1229. ففي سنة 1244، لم يحرّك ساكناً أو يعطي خطبة عن خيانة الناصر داود مماثلة لتلك التي ألقاها في دمشق في زمن الكامل.
يسلّط هذا الموضوع الضوء على ضرورة الحذر من المصادر التاريخيّة وفحص الأسباب التي أدّت بمؤلّفيها إلى سرد حقائق معيّنة وتجاهل حقائق أو عوامل أخرى مهمّة. لذلك، علينا النظر في “الأجندة” التي يبتغيها كلّ مصدر تاريخي موجود (بما في ذلك الآثار والنقوش والنقود والمقتنيات التاريخيّة) حتى نقترب قدر الإمكان من الحقيقة التاريخية أو الصورة التاريخية الكبرى.