كيف تتحوّل الدولة من ساحة صراعٍ طائفي إلى فضاء مواطنة جامع؟

لم تكن الطائفة في المشرق العربي يومًا قدرًا حتميًا محفورًا في الجينات الثقافية للمنطقة، بل كانت إحدى تجلّيات الهوية الاجتماعية والدينية. اليوم تبدو أكثر من ذلك. لم تعد مجرد انتماءٍ فرعيٍّ بل مصيرٍ وجوديّ. هذا التحوّل هو نتاج انهيار متسلسل للمشروع الوطنيّ الذي وُلِدَ على أنقاض الاستعمار، وتآكل فكرة الدولة الحديثة التي كان يُفترَض بها أن تكون عقدًا جامعًا يعلو على الولاءات الجزئية والفرعية.

في ظل هذا الفضاء المهترئ، عادت الطائفة لتتصدّر المشهد، كحصنٍ أخيرٍ يوفر الأمان في زمن اللادولة. يفرض هذا الواقع سؤالًا عميقًا: الطائفة هي قدرٌ تاريخيٌّ، أم أنّها صناعةٌ سياسيةٌ حديثة نشأت من قلب الدولة نفسها؟ وهل يمكن للمشرق أن يخرج من هذه الحلقة المفرغة التي تُحوّل الهويات الفرعية إلى مصائر وجوديّة؟

من أجل فهم هذا التحوّل، يجب أولًا التمييز بوضوح بين مفهومي الطائفة والطائفية. فالطائفة، في سياقها التاريخيّ، أكانت جماعةً دينيةّ أو مذهبية، تتعايش مع غيرها ضمن منظومات حكم متعدّدة المستويات، من السلطنة العثمانية التي نظّمت التعدّدية عبر نظام “الملل”، إلى الممالك التقليدية. كان الانتماء الطائفيّ يُشكّل طبقةً من الهوية إلى جانب الانتماءات الأخرى، من دون أن يكون المحدّد الوحيد للمصير.

أما الطائفية، فهي شيء آخر تمامًا: هي توظيفٌ سياسيٌّ للطائفة، وتحويل الانتماء المذهبيّ إلى معيارٍ للسلطة والتمثيل والاقتصاد. بهذا المعنى، ليست الطائفية مجرّد بقايا من ماضٍ لم يُدفَن بعد، بل هي بنية حديثة صنعتها السلطة نفسها، وشكّلتها الأنظمة الديكتاتورية. لقد لعبت هذه الأنظمة دورًا حاسمًا في هذا التحوّل عبر بناء شبكاتٍ من الولاءات المذهبية، مستخدمةً خطاب الحماية كذريعة لإدامة السيطرة. على سبيل المثال، في سوريا، ومنذ سبعينيات القرن الماضي، بنى النظام البعثيّ سلطته على هذا الأساس، محوّلًا الدولة إلى شبكة رعايةٍ طائفية. وفي لبنان، كرّست ما تُسمى “الجمهورية الثانية” (اتفاق الطائف) الطائفة ككيانٍ سياسيّ مكتمل الوظائف، بدل أن تكون خطوة نحو دولة مدنية، ليصبح الانتماء الطائفيّ هو جواز المرور للوصول إلى السلطة والموارد والخدمات.

الخروج من أسر الطائفة لا يتحقق بمجرّد صياغة دستورٍ انتقالي جديد. المطلوب إنتاج ثقافة سياسية جديدة تجعل من الطائفة مكوّنًا اجتماعيًا لا أداة للنجاة أو السيطرة. هذا يتطلب إعادة تخيّل العلاقة بين الأغلبية والأقلية. فالأغلبية ليست تفوّقًا عدديًا يمنح الحق في الإقصاء، والأقلية ليست امتيازًا دائمًا محميًا بالخوف. كلاهما مفهومان سياسيان متحرّكان. الديموقراطية ليست لعبة أرقام، بل معادلة معقّدة تقوم على الاعتراف المتبادل، وضمان الحقوق الفردية، وحماية التنوع

الطائفة وهواجس الأقليات

ما يُميّز الطائفية المعاصرة في المشرق هو أنها لم تعد مجرّد خيارٍ سياسيٍّ يمكن التفاوض عليه، بل أصبحت “قدرًا وجوديًا”. فمع تفكّك الدولة وتراجع مؤسّساتها، لم يعد الفرد يرى نفسه مواطنًا تحميه قوانين ومؤسّسات، بل أصبح عضوًا في جماعة مذهبية توفّر له الأمان والحماية. الطائفة لم تعد مجرّد هوية، بل تحوّلت إلى ملجأ؛ لم تعد مجرّد سرديةٍ ثقافية، بل أصبحت ضمانة للبقاء. وهنا يكمن التحوّل الأخطر: حين يصبح الانتماء إلى الطائفة ليس تعبيرًا عن الذات، بل شرطًا للنجاة في فضاءٍ يتزايد عنفًا وتفكّكًا. هذا التحوّل العميق يُفسّر لماذا يلتف الأفراد حول طوائفهم في لحظات الأزمة، حتى لو كانت تلك الطائفة لا تمثلهم بالضرورة فكريًا أو ثقافيًا. إنها غريزة البقاء التي تحوّل الانتماء إلى وسيلة دفاعية.

في قلب هذه الأزمة، تتشكّل هواجس الأقليات، وهي هواجس معقّدة تتجاوز المخاوف الأمنية إلى أسئلة أعمق حول الهوية والمصير. فالجماعات التي لا تشكل أغلبيةً عددية في منطقتنا، مثل المسيحيين والدروز والعلويين، تشعر بأن وجودها الرمزيّ والمادي مُهدّد. فالمسيحيون، على سبيل المثال، لا يخشون فقط تراجع تمثيلهم السياسيّ، بل يخافون أيضًا من أن يفقدوا نمط عيشهم وفضاءهم الثقافي داخل هوية جامعة ذات طابع سنّي – إسلامي. الدروز، بدورهم، يشعرون بأن حضورهم الرمزيّ مهدّد في حال تحولت الديموقراطية إلى معادلة عددية بحتة، فيما ينظر العلويون في سوريا إلى أيّ تحوّلٍ سياسيٍّ بوصفه تهديدًا لوجودهم الديموغرافي ذاته بعد عقود من تحكم آل الأسد بالسلطة. هذه المخاوف، وإن بدت متناقضة أحيانًا، تتقاطع عند نقطة أساسية: الخوف من الذوبان. هذا الذوبان ليس مجازيًا، بل ملموسًا؛ إنه ذوبان في القوانين، في الممارسات اليومية، وفي الفضاء الرمزي الذي يعطي الجماعة شعورًا بأنها مرئية ومعترف بها. إنها عملية تتجاوز مجرّد السياسة إلى صميم الوجود الثقافيّ والاجتماعيّ لهذه الجماعات.

مأزق السُنّة.. شهوة الانتقام

في المقابل، يقف السُنّة، باعتبارهم المكوّن السكانيّ الأكبر في معظم بلدان المشرق، أمام مأزق لا يقلّ تعقيدًا. هم، من جهة، كانوا الضحية الأساسية للأنظمة السلطوية التي استخدمت خطاب “حماية الأقليات” لتبرير قمعهم وتهميشهم، لكنّهم، من جهة أخرى، يُنظَر إليهم باعتبارهم الأغلبية المرشّحة للهيمنة إذا استعادت السلطة. هذه المفارقة تولّد سؤالًا محوريًا: هل يمكن للأغلبية أن تحكم دون أن تتحوّل إلى “طائفة حاكمة” جديدة؟ وهل يستطيع السُنّة أن يخرجوا من منطق المظلومية لبناء نظامٍ وطنيٍّ جامع، أم أن شهوة الانتقام ستعيد إنتاج الاستبداد تحت لافتة “استعادة الحقوق”؟ إن الأغلبية السُنيّة تواجه تحديًا وجوديًا: إمّا أن تتبنى مشروعًا وطنيًا شاملًا يتجاوز منطق الأغلبية والأقلية، أو أن تقع في فخ الطائفية المضادة، لتصبح مجرّد طائفة كبرى تسعى للهيمنة.

إقرأ على موقع 180  زلزال محاكمة ترامب!

وتجسّد سوريا اليوم، بعد سقوط نظام بشّار الأسد، المأزق الطائفي بأوضح صوره.. فمنذ اللحظة الأولى لوصوله إلى سدة السلطة، يحرص أحمد الشرع على تبني خطاب مدنيٍّ وحداثيّ، مؤكدًا أن سوريا لن تُحكَم باسم الطائفة بل باسم الشعب، وأن الأكثرية لن تنتقم بل ستبني الدولة مع الأقليات. لكن هذه النوايا الخطابية تُختبَر الآن ميدانيًا، في آليات اتخاذ القرار وتنفيذه. المسألة هنا لا تتعلق فقط بالحاكم، بل بالبنية التي تُدار من خلالها الدولة وإداراتها. فنجاح هذا النظام الجديد يتوقّف على العقد الاجتماعي الجديد وإعادة تعريف المواطنة ووضع ضمانات دستورية صلبة توازن بين حكم الأغلبية وحماية الأقليات، وعلى إطلاق عملية عدالة انتقالية لا تقوم على الانتقام، بل على المصالحة والتوزيع العادل للسلطة والثروة. إنّها عملية معقّدة تتطلب حكمة استثنائية لتفكيك شبكات السيطرة الطائفية التي تغلغلت في كل مفاصل الدولة والمجتمع، وتجاوز الإرث الثقيل لعقود من الاستبداد الذي بنى شرعيته على أساسٍ طائفيّ.

الخروج من الأسر

لكن الخروج من أسر الطائفة لا يتحقق بمجرّد صياغة دستورٍ انتقالي جديد. المطلوب أكثر من ذلك: إنتاج ثقافة سياسية جديدة تجعل من الطائفة مكوّنًا اجتماعيًا لا أداة للنجاة أو السيطرة. هذا يتطلب إعادة تخيّل العلاقة بين الأغلبية والأقلية. فالأغلبية ليست تفوّقًا عدديًا يمنح الحق في الإقصاء، والأقلية ليست امتيازًا دائمًا محميًا بالخوف. كلاهما مفهومان سياسيان متحرّكان، لا هويات ثابتة. إن الديموقراطية في هذا السياق ليست لعبة أرقام، بل معادلة معقّدة تقوم على الاعتراف المتبادل، وضمان الحقوق الفردية، وحماية التنوع. عندها فقط يمكن أن تتحوّل الدولة من ساحة صراعٍ بين الطوائف إلى فضاء مواطنة جامع.

يبقى السؤال: هل المشرق قادر على تجاوز قدره الجماعيّ؟

الطائفة ليست قدرًا مكتوبًا في الجينات الثقافية لهذه المنطقة، لكنها تتحوّل إلى قدرٍ حين تغيب البدائل الوطنية وحين تفشل النخب في إنتاج مشروع وطني جامع. الخروج من هذا المأزق يتطلب أن تتحوّل الأغلبية من كتلة مظلومة إلى أغلبية مسؤولة، وأن تتحرر الأقليات من الخوف لتصبح شريكًا كاملًا لا جماعة في حالة طوارئ دائمة. إنه مسار طويل، سياسيّ وثقافيّ في آن، يبدأ بإنتاج خطاب جامع ويُستَكمَل ببناء دولة بمؤسّساتٍ صلبةٍ قادرةٍ على حماية الجميع.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  الدولة العميقة العالميَّة.. والمغول الجدد