كونديرا: الروح السلافية وأزمة أوروبا الحضارية | (2)

مرة أخرى: هل تمثل الشيوعية نفياً للتاريخ الروسي أم تحقّقه؟ الإثنان بالتأكيد: نفيه (نفي تديُّنه، على سبيل المثال) وكذلك تحقُّقه (تحقق نزعاته المُتمَركِزة وأحلامه الإمبراطورية). بالنظر من داخل روسيا، يعد المظهر الأول ـ مظهر انقطاع استمراريتها ـ هو الأكثر إدهاشاً. من وجهة نظر الدول المستعبدة، يعد المظهر الثاني ـ ما يتعلق باستمراريتها ـ يحس بشكل أقوى.

لكن هل أنا مغرق في الحتمية بمناقضة روسيا والحضارة الغربية؟ ألا تظل أوروبا، برغم إنقسامها إلى شرق وغرب، كياناً واحداً يتجذر في اليونان القديمة والفكر اليهودي-المسيحي؟

بالطبع. علاوة على ذلك، طيلة القرن التاسع عشر، روسيا، المنجذبة نحو أوروبا، اقتربت أكثر منها. وهذا الإنبهار كان متبادلاً. زعم (راينر ماريا) ريلكه أن روسيا كانت أرض منشأه الروحية، ولم ينجُ أحدٌ من تأثير الروايات الروسية، التي تظّل جزءاً لا يتجزأ من الإرث الثقافي الأوروبي المشترك.

نعم، كل هذا صحيح، الخطبة الثقافية بين الأوروبيتين تبقى ذاكرة هامة ولا تنسى. لكن ليس بأقل صحةً أن الشيوعية الروسية أعادت إيقاظ الهواجس المعادية للغرب لدى روسيا بعنف وقلبتها ضد أوروبا بوحشية. لكن روسيا ليست هي موضوعي ولا أريد أن أتيه في تعقيداتها الهائلة، التي لست على دراية خاصة بها. أريد ببساطة أن أوضح هذه النقطة ثانيةً: على الحدود الشرقية للغرب – أكثر من أي مكان آخر- لا ترى روسيا على أنها مجرد قوة أوروبية أخرى بل كحضارة غريبة، حضارة أخرى.

في كتابه “العالم الأصلي”، يتحدث تشيسلاف ميلوش عن الظاهرة: في القرنين السادس عشر والسابع عشر، شنّ البولنديون حرباً ضد الروس “على طول الحدود البعيدة. لم يكن أحدٌ مهتماً بشكل خاص بالروس. لقد كانت هذه التجربة، عندما وجد البولنديون فقط فراغاً كبيراً إلى الشرق، هذا ما ولّد المفهوم البولندي لروسيا واقعة ها هناك، خارج العالم”.

يتذكر كازيميرز برانديس، في”يوميات وارسو”، القصة الشيقة للقاء كاتب بولندي بالشاعرة الروسية آنا أخماتوفا. كان البولندي يشكو أن أعماله – كل أعماله – تم حظرها.

-قاطعته: “هل تم سجنك؟

-“لا.”

-“هل تم طردك على الأقل من اتحاد الكتاب؟”

-“لا.”

-“إذن ما الذي تشكو منه بالضبط؟” كانت أخماتوفا في حيرة من أمره.

يرصد برانديس:

هذه عزاءات روسية نمطية. لا شيء يبدو فظيعاً بالنسبة إليهم، مقارنة بمصير روسيا. لكن هذه العزاءات لا تحمل أي معنىً بالنسبة لنا. مصير روسيا ليس جزءاً من إدراكنا، فهو غريب عنا، لسنا مسؤولين عنه. يضايقنا معرفته، لكنه ليس إرثنا. كان هذا ردي كذلك على الأدب الروسي. كان يخيفني. حتى اليوم لا زلت أرتعب من قصص معينة كتبها (نيقولاي) غوغول ومن كل شيء كتبه (ميخائيل) سالتيكوڤ-شيدرين. كنت سأحبذ ألا أتعرف على عالمهم، ألا أعرف حتى أنه كان موجوداً.

تاريخ البولنديين، التشيك، السلوفاك، المجريين كان مضطرباً ومشرذماً. كانت تقاليدهم في إقامة الدولة أضعف وأقل تواصلية من مثيلاتها في الدول الأوروبية الأكبر. هؤلاء كانوا محتجزين بين ألمانيا من جانب والروس من الجانب الآخر. استنفذت دول أوروبا الوسطى وقتها في الكفاح من أجل البقاء والحفاظ على لغاتها

ملاحظات برانديس عن غوغول لا تنكربالطبع قيمة أعماله كفن، بالأحرى هي تعبر عن رعب العالم الذي يستدعيه فنه. هو عالمٌ -شريطة أن نبقى بعيدين عنه- يسحرنا ويجذبنا، في اللحظة التي ينغلق فيها ليحيطنا، برغم، أنه يظهر غربته المرعبة. لا أعلم إذا ما كان أسوأ من عالمنا، لكني أعرف أنه مختلف. تعرف روسيا بعداً أخر (أكبر) للكوارث، صورة أخرى للمساحة (مساحة هائلة لدرجة ابتلاع أمم بأكملها داخلها)، إحساس آخر بالوقت (بطيء وصبور)، طريقة أخرى للضحك، للعيش، وللموت.

هذا هو سبب شعور الدول بأوروبا الوسطى أن تغير مصيرها الذي حدث بعد 1945 لم يكن محض كارثة سياسية: لقد كان أيضاً هجوماً على حضارتهم. المعنى العميق لمقاومتهم هو الكفاح للحفاظ على هويتهم أو بطريقة أخرى، للحفاظ على غربيتهم. لا أوهام بعد الآن حول أنظمة الدول التابعة لروسيا. لكن ما ننساه هو أن مأساتهم الجوهرية: هذه الدول اختفت من خريطة الغرب. لماذا بقي هذا الاختفاء غير مرئي؟ يمكننا أن نعين موضع السبب في أوروبا الوسطى ذاتها.

تاريخ البولنديين، التشيك، السلوفاك، المجريين كان مضطرباً ومشرذماً. كانت تقاليدهم في إقامة الدولة أضعف وأقل تواصلية من مثيلاتها في الدول الأوروبية الأكبر. هؤلاء كانوا محتجزين بين ألمانيا من جانب والروس من الجانب الآخر. استنفذت دول أوروبا الوسطى وقتها في الكفاح من أجل البقاء والحفاظ على لغاتها. بما أنه لم يتم إدماجها بشكل كامل في وعي أوروبا، فإنها بقيت أقل أجزاء الغرب شهرة وأكثرها هشاشة بسبب ستار لغاتهم الغريبة الصعبة المنال.

الإمبراطورية النمساوية كانت لديها فرصة كبيرة لتحويل أوروبا الوسطى إلى دولة قوية وموحدة. لكن النمساويين، للأسف، كانوا منقسمين ما بين قومية متعجرفة ألمانية-جامعة وبين مهمتهم الخاصة بأوروبا الوسطى. لم ينجحوا في بناء فيدرالية من الأمم المتساوية، وفشلهم كان من سوء حظ أوروبا بأكملها. في حالة من عدم الرضا، فجّرت الدول الأخرى بأوروبا الوسطى أوصالها في 1918، دون إدراك، أنه وبرغم نواقصها، لا بديل لها؛ لذا، بعد الحرب العالمية الأولى، تحولت أوروبا الوسطى إلى منطقة من الدول الصغيرة، الضعيفة، التي ضمنت قلة حصانتها أول غزو لهتلر وفي مآل الأمر انتصار ستالين. ربما لهذا السبب، دائماً ما كانت هذه الدول في ذاكرة الأوروبيين تُرى على ما يبدو كمصدر للمشاكل الخطيرة.

إقرأ على موقع 180  قمة سوتشي.. بوتين يروّض أردوغان على أرض إدلب

ولكي أكون واضحاً، أشعر أن الخطأ الذي ارتكب من قِبل أوروبا الوسطى يعزى إلى ما أسميه “إيديولوجية العالم السلافي”. أقول “إيديولوجية” بحذر، لكونها مجرد جزء من التعمية السياسية التي اختلقت في القرن التاسع عشر. التشيك (برغم التحذيرات الشديدة لقادتهم المحترمين) عشقوا التلويح بـ”إيديولوجيتهم السلافية” كدفاع ضد عدوانية الألمان.

الروس، على الجانب الآخر، تمتعوا باستغلالها لتبرير طموحاتهم الإمبريالية. “يحب الروس تصنيف كل ما هو روسي على أنه سلافي، لكي يتمكنوا لاحقاً من تصنيف كل ما هو سلافي على أنه روسي”، صرح الكاتب التشيكي الكبير كاريل هاڤليسيك (بوروڤسكى) في 1844، محاولاً تحذير رفقائه من حماسهم السخيف والجاهل لروسيا. كان جهلاً لأن التشيك، لمدة ألف سنة، لم يكن لهم أي اتصال مباشر بروسيا. على الرغم من قرابتهم اللغوية، التشيك والروس لم يتشاركوا أبداً عالماً مشتركاً: ولا تاريخ مشتركاً ولا ثقافة مشتركة. لكن العلاقة بين البولنديين والروس، لم تكن أبداً أقل من صراع حياة أو موت.

جوزيف كونراد دائماً ما أزعجه مصطلح “الروح السلافية” وأن الناس أحبوا أن يصفعونه وكتبه بسبب أصوله البولندية، وقبل حوالي ستين عاماً، كتب أنه “لا شيء يمكنه أن يكون أكثر غربةً لما يسمى في عالم الأدب الروح السلافية أكثر من المزاج البولندي بإخلاصه الفروسي للقيود الأخلاقية واحترامه المبالغ به للحقوق الفردية”. (يا لدرجة تفهمي له! فأنا، أيضاً، لا أعرف شيئاً أكثر سخفاً من هذه الطائفة ذات الأعماق الغامضة، هذا الإحساس الزاعق والفارغ لـ”الروح السلافية” الذي ينسب إليّ من وقت إلى آخر!)

مع ذلك، فكرة العالم السلافي هي فكرة شائعة في مجال التأريخ للعالم. انقسام أوروبا بعد 1945 – الأمر الذي يفترض أنه وحّد العالم السلافي (بما في ذلك المجريين والرومان البؤساء الذين، بالتأكيد، لا تعد لغتهم سلافية – لكن لم الانزعاج بسبب تفاهات؟)- بدا بالتالي كأنه صار حلا طبيعياً على الأغلب.

فهل هو خطأ أوروبا الوسطى أن الغرب لم يلحظ حتى اختفائها؟

(*) راجع الجزء الأول: كونديرا.. مأساة أوروبا الوسطى (1984)


المقالة الأصلية بقلم الكاتب التشيكي: ميلان كونديرا (26 إبريل/نيسان، 1984)

الترجمة من الفرنسية إلى الإنجليزية: إدموند وايت

الترجمة من الإنجليزية إلى العربية: 180 بوست

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  كسر "الاستعصاء المكسيكي" في سوريا!