من “يُنقذ” أوكرانيا؟ “بلاك روك”، “جلينكور” أم “فورتيسكيو”؟

آندرو فورست، شخصٌ كان بمثابة العرّاب للمناقشات بين لاري فينك وفولوديمير زيلينسكي. التي بدأت برسم إطار دور استشاري تقدمه "بلاك روك" لوزارة الاقتصاد الأوكرانية في سبتمبر/أيلول 2022، ووصلت بعد ذلك بشهرين، إلى توقيع مذكرة تفاهم MoU بين الطرفين (لإعادة إعمار) أوكرانيا. لنتعمّق..

آندرو فورست هذا، من عينة الشخصيات القادمة من عالم البيزنس، الذين يعرفون من أين تجمع الثروات – وأين توجّه- حتى وإن فشلت بعض مشاريعهم. رجل أعمال أسترالي سليل عائلة سياسية كبيرة (Forrest). إسمه الكامل جون آندور هنري فورست، حصل على ماجستير في الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة غرب استراليا. بدأ حياته العملية كسمسار في البورصة، ومنها انتقل إلى عالم التعدين حينما رأى طلب السوق يتزايد بثبات على الصلب المقاوم للصدأ. فاختار تأسيس شركة تعمل على استخراج أحد أهم عناصر هذه الصناعة، وهو معدن النيكل. كان اسم هذه الشركة “Anaconda Nickel”. لم تنجح هذه الشركة، فخلال المدة من 1993 إلى 2001، تسببت عديد الأزمات في أن يتم عزل فورست عن منصب المدير التنفيذي للشركة التي كانت تنهار. فتهاوى سعر سهمها بنسبة 89%، واستحوذت عليها شركة “جلينكور” السويسرية (Glencore).

لنتوقف قليلاً عند محطة “جلينكور”. فهذه الشركة متعددة الجنسيات (سويسرية الأصل، إنجليزية بالتزاوج)، تعد من أكبر الشركات في مجال إنتاج وتسويق السلع بالعالم. هذه السلع تتنوع ما بين المعادن، النفط الخام، المنتجات البترولية، الفحم، الغاز الطبيعي، والمنتجات الزراعية. الشاهد، أن هذه الشركة طالما جلب عليها سعيها للربح، انتقادات أمريكية وأوروبية، لإستمرار تعاملها مع شركات في دول مغضوب عليها وتقع تحت طائلة العقوبات الدولية. من عراق صدام حسين، إلى جنوب أفريقيا تحت نظام الفصل العنصري، ومن روسيا في طور الاتحاد السوفييتي، إلى إيران الخمينية. وليس المجال هنا لسرد عديد المشاكل المالية والتلاعبات الأخرى “المتوقعة” من مثل هكذا شركات أخطبوطية. لكن الهام في الأمر، هو مدى استجابة هذه الشركة مؤخراً، والتزامها الظاهري بالعقوبات الموجهة إلى روسيا بعد إطلاق حملتها ضد أوكرانيا.

ليبحث من يهتم، عن تفاصيل خطط الأعمال التي توقفت، ما بين “جلينكور”، وشركتي روسال Rusal، وEn+ Group، اللتين يمتلكهما رجل الأعمال الروسي، أوليج دريباسكا. وبرغم الاستجابة الظاهرية لـ”جلينكور” في 2022، لمسار العقوبات ضد روسيا، إلا أن وكالات أنباء ومواقع تحقيق غربية، كشفت بأن الشركة السويسرية المنشأ، استمرت بتحميل شحنات من المنتجات النفطية، على ظهر بارجات راسية بموانىء روسية، وذلك في شهر مارس/آذار 2022. مستكملةً سعيها للربح، الذي تحققه من تجارة موارد الطاقة الروسية. وما ذُكر لا يغني عما لم يُذكر.

على أي حال، لنعد إلى آندرو فورست، الرئيس الشرفي الحالي، للشركة التي أنشأها عام 2003، مجموعة فورتيسكيو للمعادن. فقد أعلن الرجل عن تأسيس صندوق استثمار مخصص لإعادة إعمار أوكرانيا، قيمته 25 مليار دولار. ساهم به هو وشركته وزوجته بمبلغ 500 مليون دولار. وإلى من سيستغرب ذكر فكر الطاقة البديلة لاحقاً في سياق هذه المقالة. اسمحوا لي أن استبق تعجبكم بذكر اسم هذا الصندوق، وهو “The Ukraine Green Growth Initiative“.

وبينما يعلن فينك وزيلينسكي عن خطط تمويلية تهدف لإعادة إعمار أوكرانيا على الطريقة الخضراء. تنقل ذات المقالات التي تفند مثل هذه الأخبار، أولاً أن أوكرانيا تنتصر في الحرب! دعك من هذا الوهم إلى ما هو مهم. فذات الأقلام تعلن أن روسيا تسببت في “دمار شديد” لأوكرانيا، وأن “انتهاء الحرب الروسية-الأوكرانية غير محتمل في المدى المنظور”! هل يحتاج الأمر إلى تعليق؟

لنترك التعليق لرئيس أوكرانيا ذاته. فقد صرح فولوديمير زيلينسكي: “سنستفيد من حقيقة أن ما دمره الروس يمكن استبداله بسهولة بأحدث تقنيات البنية التحتية الخضراء والرقمية”!

في الوقت نفسه، يُخطّط القائمون على صندوق إعادة الإعمار هذا، للتعاون مع لاري فينك ( المدير التنفيذي لبلاك روك)، مُعبرين عن أملهم في الحصول على مساندة “الصناديق السيادية ومتخصصي الاستثمار”.. اختصاراً “ملاك الأصول”.

على ذكر BlackRock، لنعطي الميكروفون لبرادلي ديفلين، الكاتب بموقع The American Conservative، ليزيدنا من الشعر بيتاً. فقد افتتح مقال كتبه بتاريخ 30 ديسمبر/كانون الأول 2022، بعنوان: “بلاك روك تخطط لشراء أوكرانيا” قائلاً: “أوكرانيا لديها راعٍ غربي جديد. ليست دولة، ولا شركة مقاولة عسكرية. بل هي الشركة المالية “بلاك روك”. وقد ركز ديفلين في سياق مقاله، على دور “بلاك روك” السيء في السوق العقاري الأمريكي ذاته، بابتلاعها أحياء سكنية بأكملها، وتسببها في تشوهات في سوق الإسكان. مفنداً تأثيرين لممارسات “بلاك روك” التي قال إنها تستخدم رؤوس أموالها الهائلة في شراء المنازل الأسرية، دافعة أسعارها إلى الارتفاع، ملخصاً: “هناك إثنان من التأثيرات الاقتصادية المباشرة لارتفاع الأسعار المذكور آنفاً. أولاً، الأسعار الأعلى للمنازل السكنية ترفع قيمة الممتلكات التي بين أيدي بلاك روك بالفعل، خاصة في المناطق التي استثمرت فيها الشركة بثقل. أما التأثير الثاني فيعني أن ارتفاع الأسعار المصطنع هذا، يطرد جماهير الأسر العاملة، تاركاً فقط الأغنياء أو شركات الاستثمار وبين يديها كميات هائلة من رأس المال تحت تصرفها، كاللاعبين المنفردين المتبقين في السوق”.

إقرأ على موقع 180  إيران ما بعد "الطوفان".. خطوتان إلى الأمام، خطوة إلى الوراء!

ثم يضيف تعليقه الكاشف التالي: “الأمر كله مثير للحنق جداً. يمكن لواحدنا أن يضمن أن بلاك روك تحصل على مبالغ جيدة من الحكومة الأوكرانية، مقابل تقديم الاستشارات بشأن خارطة طريق إعادة الإعمار هذه. ومن أين يأتي تمويل الحكومة الأوكرانية حالياً، بالنظر إلى أن اقتصادها يعاني من الفوضى وأن الحرب هي مهمة مكلفة؟ من الحكومة الأمريكية، بالطبع”. بنهاية هذا العام، تكون الولايات المتحدة قد منحت 13 مليار دولار في معونات مباشرة لميزانية الحكومة الأوكرانية وحدها، لتفادي العجز والإفلاس التام. وقد تعهد الرئيس جو بايدن بمساندة أوكرانيا “طالما تطلب الأمر ذلك”.

ثم يتوصل إلى استنتاجه الموجز الدال، حين يختم مقاله بالآتي: “إذن، يتم دفع الأموال لبلاك روك من قِبل دافع الضرائب الأمريكي مروراً عبر الحكومة الأوكرانية، لتنفيذ خطة تضمن نجاح استثماراتهم المستقبلية بأوكرانيا، التي سينفذونها باستخدام أموال اكتسبوها من جعل تكلفة الإسكان الأمريكي غير قابلة للتحمُّل. بوجود صفقة مثل تلك أمام نخبنا المالية والسياسية، لم قد يريدون السلام بالمطلق”؟

إلى تحليلات تكشف الشِقاق السياسي داخل النظام الحزبي الثنائي داخل أمريكا. تحديداً حول برامج التمويل الموجهة لخدمة فكر الطاقة الخضراء، مركزين على “بلاك روك” بالإسم في الكثير من الأحيان. فالجمهوريون ينتقدون فكر الاستغناء عن الطاقة الأحفورية، أي التخلص من الاعتمادية على أوبك+ (لمن لا يعرف، هذه الـ + هي روسيا بالمناسبة)- في تسيير عجلات النظام العالمي ضمنياً. وهو ما عبّرت عنه أقلام جمهورية، قامت بتسمية عملية توجيه رؤوس الأموال بتلك الطريقة بمصطلح “Woke Capitalism”. وأن فكر الـ ESG البيئي، لا يستخدم إلا لخدمة جيوب السياسيين الأمريكيين المنتمين للحزب الديموقراطي والشركات الكبرى التي تمولهم. متهِمِين الأخيرة بأنها بذلك، تخون ثقة حاملي أسهمها وتضرهم.

هؤلاء وجدوا من يرد عليهم من الطرف الديموقراطي والتقدمي للشقاق. هذا الطرف يتهم الحزب الجمهوري بأنه يسعى فقط لاستدامة وضع الطاقة الأحفورية المسيطر حالياً، لمصلحة مموليهم هم من شركات الطاقة. ساحقين بذلك فكر الحفاظ على البيئة ومشروعات الطاقة النظيفة. مما يعني ضمناً أنهم يخدمون روسيا وباقي زملائها الذين يعتمدون على صادرات الطاقة.

بينما إن عدنا لنركز على دور “بلاك روك” في السوق العقاري الأمريكي. نجد ذات الشقاق، بين من يتهمون مالكة الأصول الأكبر بالعالم بالتسبب في الأذى للأسر الأمريكية في الأحياء التي استحوذوا عليها هناك. وبين من ينفون عنها تلك التهمة، مُلقِين بالذنب على حكومات الولايات ذاتها، التي لا توجّه استثمارات كافية إلى بناء المزيد من المشروعات السكنية والمنازل العائلية.

وهنا يأتي دور المنطق، لطرح السؤال المعقد. وبم سيفيد إغراق حكومات الولايات للسوق بمشروعات سكنية أيها الأخرق؟ أترغب في أن يزيد عدد المنازل المعروضة في السوق العقاري، لتتاح أمام عائلات لن تستطيع تحمل تكلفتها دفعة واحدة على أي حال. فتلجأ بالطبع إلى البنوك للاقتراض، فيصيب البنوك ذات السُعار الذي أصابها في 2008/2007. فتقدم قروضاً، لمن هم غير قادرين على سداد أقساط الرهون العقارية، وفوائدها التصاعدية المكلفة، التي تُدفَن تفاصيل حساباتها المعقدة، بين صفحات عقود لا يقرأها من يوقعون عليها، لحاجتهم الماسّة لتمَلّك منزل احلامهم. فتتكرر الدائرة المفزعة، من عجز المقترضين عن السداد للبنوك، يليها مصادرة البنوك لأحياء سكنية بأكملها، فتبقى بين أيديهم كأصول لا تجد مشترين لها في سوق مفلس مثل هذا؟ إلا بالطبع لاري فينك وأقرانه؟ ألا تتعلمون الدرس أبداً؟ أم أن هذه هي الخطة الحقيقية؟!

والآن، لندع الأمر لذكاء القارىء. إذا كانت هذه أفعال “بلاك روك” داخل امريكا ذاتها؟ فيا ترى، كيف تستطيع أن تنقذ أوكرانيا؟ أزيدك من الشعر بيتاً. وإن هي أنقذتها، نتيجة لطيبة قلبها وإنسانيتها المُدعّاة، التي لا تسعى للربح كما قد يصدق المنابع طيب القلب. ألا يعني ذلك أن الخطة الحقيقية قد اكتملت؟

على المتضرر من التفاصيل، اللجوء لملّاك الأصول، فهم المالكون الحقيقيون. ومن أجلهم يُستدام أمد الحروب.

والآن، نترك الميكروفون لأي متحمس من عشاق العبارات الطافية، ممن هُجرت طاولاتهم منذ زمن، وفارقت تحليلاتهم “الاجترارية” أرض الواقع. ليحدثونا قليلاً عن “انتصارات أوكرانيا” و”خسارات روسيا”، و”سقوطها المدوي”.

.. والسلام على من اتبّع “واشنطن بوست”!

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  من أنطون سعادة إلى اللبنانيين: نعم، أنتم شعبٌ واحدٌ! (٢)