قال رئيس مجلس النواب نبيه بري لمجموعة من الصحافيين، قبل أيام قليلة، إنه لن يدعو إلى جلسة انتخاب رئيس جديد للبلاد، قبل إقرار اصلاحات تمثل شروطاً مسبقة لبرنامج الإنقاذ الموقع مبدئياً مع صندوق النقد الدولي.
وللتذكير، طلب الصندوق تعديل قانون السرية المصرفية، وقانون لضبط السحوبات والتحويلات (الكابيتال كونترول)، وإقرار موازنة 2022، وتشريع قانون لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
تعدَل قانون السرية بتوليفة، بين أقطاب المصالح في مجلس النواب، اعترض عليها جزئياً نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال سعادة الشامي، مشيراً إلى امكان عدم توافقها مع المعايير المرجوة من الصندوق.
أما قانون “الكابيتال كونترول” فمؤود في البرلمان منذ أشهر طويلة، بعدما أجهض إقراره عدة مرات. آخرها في 20 نيسان/أبريل الماضي لعدة أسباب أبرزها مادة متعلقة بحماية المصارف من الدعاوى القضائية.
على صعيد الموازنة، ثمة تجاذب متعلق بسعر الدولار الجمركي الذي على أساسه ستزيد الإيرادات لمقابلة نفقات خاصة بزيادة رواتب موظفي القطاع العام. علماً بأن موازنة 2022 لم تعد مهمة بذاتها مع انقضاء أكثر من 7 أشهر من السنة، ومع اقتراب موعد بدء وزارة المال إعداد ميزانية 2023 اعتباراً من نهاية آب/أغسطس الحالي.
التشريع الإصلاحي المحوري والاستراتيجي، وغير الموجود في البرلمان حالياً، هو مشروع قانون اعادة هيكلة البنوك. لم ينجز بعد، واعداده متداول بصعوبة بالغة بين لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان وخبراء من صندوق النقد.
في أثناء الانتظار الممض، وإذا كان صحيحاً أن الصراخ على قدر الألم، أصدرت جمعية المصارف موقفاً صارخاً في 26 تموز/يوليو الماضي “استنكرت فيه بشدة تجاهلها في إعداد القانون”.. هددت وتوعدت، ثم ذرفت كعادتها دموع التماسيح على مصير الودائع والمودعين.
***
مم تخاف البنوك؟ وماذا في أجندة الاصلاح المصرفية وفقاً لصندوق النقد الدولي؟
للجواب عن السؤالين العويصين تجدر الإشارة إلى بعض المبادئ التي وضعت في الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد، إضافة إلى هواجس أخرى تحولت إلى كوابيس تأتي أصحاب بعض المصارف ليلاً أثناء نومهم، ومصارف أخرى تأتيهم جهاراً نهاراً آناء تفكيرهم بالآتي الأعظم:
أولاً؛ طلب الصندوق ضرورة إجراء تدقيق في جودة أصول أكبر 14 مصرفاً تمثل أكثر من 80% من موجودات القطاع. على أن يستكمل التدقيق لاحقاً ليشمل كل القطاع. بنتيجة ذلك ستظهر، مبدئياً، المصارف القابلة للاستمرار مع ضرورة رسملتها، مقابل أخرى غير قابلة للإستمرار يتوجب وضع اليد عليها وتصفيتها، مع شروط للدمج والاستحواذ في حالات معينة.
إذاً، هناك من هو ذاهب إلى المقصلة مع صراخ استباقي للجمعية، مخافة مفاجآت على صعيد التصفية فضلاً عن تحميل المسؤوليات. فالجمعية تصرفت تاريخياً على أساس أنها “عصبة متحدة”، فإذا بها اليوم تواجه مصيرها واحداً واحداً.
ثانياً؛ في التفاصيل الإضافية يفترض بقانون هيكلة المصارف الجديد وبقانون الكابيتال كونترول، واستناداً إلى الخطة الحكومية المبنية على الاتفاق مع الصندوق، تحديد آليات خاصة برد ودائع لأصحابها. وإلزام المصارف بذلك استناداً إلى رسملتها من جديد، وما تبقى لديها من أصول جيدة أو قابلة لتشغيلها وتحسين جودتها، أو حتى بيعها اذا اقتضى الأمر. هذا ما لا تريده البنوك المتمسكة بمسؤولية الدولة أولاً مع مطالبتها بتخصيص موارد عامة لزوم اطفاء الخسائر. مع إمعان غريب في انكار المسؤولية البديهية التي تقع على عاتق مصارف ومصرفيين غامروا وركبوا المخاطر، وانحرفوا عن جادة صواب معظم الممارسات المصرفية السليمة. والأكثر فداحة استثمار أكثر من 70% من ودائع الناس في ديون سيادية خطرة جداً (سندات خزينة الدولة العاجزة منذ بداية التسعينيات وشهادات إيداع البنك المركزي الخاسر منذ بداية الألفية).
ثالثاً؛ هناك فصل تشريعي، متوقع لا محالة، للعلاقة الملتبسة بين مصرف لبنان والمصارف ولجنة الرقابة عليها وهيئة التحقيق الخاصة بها فضلاً عن هيئة أسواق المالية.. تلك الجهات كانت تقريباً تحت الآمر وشبه الناهي الوحيد رياض سلامة. ما جعل الأزمات تتداخل وتتشعب وتضيع المسؤوليات فيها (عن قصد!). إلى ذلك، يفترض تعديل قانون النقد والتسليف كي لا يبقى حجة لأي حاكم و/أو سلطة سياسية بشأن تمويل البنك المركزي للدولة. وليس سراً القول إن المصارف ترتاح إلى حلول حاكم مصرف لبنان أكثر من الحلول التي يفرضها صندوق النقد. فالبنوك (شبه المفلسة) قائمة إلى اليوم بفضل رياض سلامة، وتخفض خسائرها بفضله، وتتلاعب في تنفيذ التعاميم بغض طرف منه. فبفضله انخفضت الودائع بالدولار والليرة في 3 سنوات بنحو 75 إلى 80 مليار دولار. وتراجعت من 176 مليار دولار عشية الأزمة الى ما دون الـ 100 مليار دولار حالياً. ولا بأس لديها (ولديه) من تذويب إضافي في مدى سنوات قادمة من دون وجع رأس مصدره صندوق النقد.
رابعاً؛ تستمر المصارف في سردية أنها لم تخسر، وأن على الدولة تحمل معظم الخسائر البالغة أكثر من 73 مليار دولار معظمها عبارة عن شهادات إيداع للمصارف في ذمة البنك المركزي إلى جانب سندات يوروبوندز (بقي منها إسمياً نحو 10 مليارات). تلك الخسائر هي عملياً أموال للمودعين غامرت البنوك ووظفتها في إدوات مالية عالية المخاطر، طمعاً بفوائد عالية أن لم نقل فاحشة. ولا تريد المصارف الإحتكام إلى أبسط قاعدة بديهية هي أن المودع أودع أمواله لديها ولم يقرضها للدولة ولا للبنك المركزي. وبالتالي، المعني الأول برد الوديعة هو البنك.
خامساً؛ ثمة من يدعي أن طائفة معينة لها الإمتياز التاريخي في هذا القطاع، وأن ما تبقى لها من إمتيازات توزعتها الطوائف بعد الطائف، وأي مس بذلك هو مساس بالتوازنات المزعومة طائفياً. كما تتوجس مصارف من إمكان فرض صيغة تتضمن تحويل ودائع إلى أسهم. والتوجس من جانبين: واحد متصل بتغير ملكية القطاع بشكل عام. وآخر متصل بتغيرها طائفياً على اعتبار أن ودائع كبيرة لطائفة معينة ستتحول إلى ملكيات في مصارف وازنة محسوبة على طائفة أخرى.
سادساً؛ من دون ضمانة واضحة في قانون “الكابيتال كونترول” تحمي البنوك من دعاوى المودعين، فان أصحاب المصارف يخشون ما لا تحمد عقباه، لا سيما على صعيد أموالهم الخاصة وثرواتهم الشخصية تبعاً لمسؤوليات متعلقة بالأخطاء والخطايا التي ارتكبت بحق المودعين من جهة، وعلى صعيد خرق وانتهاك الممارسات المصرفية السليمة من جهة أخرى خصوصاً تجاهل أبسط قواعد إدارة المخاطر.
سابعاً؛ لا تثق المصارف بكيفية تطبيق القوانين الاصلاحية الجديدة، وما أذا كانت ستنفذ بأثر رجعي يكشف تواطؤات وانحرافات أخطرها الإستنسابية في تحويل 6 إلى 7 مليارات دولار إلى الخارج خلال فترة الريبة التي اندلعت فيها الأزمة. وتلك التحويلات هي لنافذين في السياسة والمصارف وأوليغارشية السلطة والمال والأمن والقضاء.
ثامناً؛ بين الجرائم التي تخاف البنوك افتضاح أمرها ما اعترى عدد من الأدوات المالية مثل الأسهم التفضيلية التي باعتها لعملائها بضمانات وعوائد، ثم تخلت عنهم عند المفترق الأول للأزمة. وما حصل في الأيام القليلة الماضية على صعيد توقيف مدير أحد البنوك ثم تركه بسند إقامة ومنع سفر إلا خير دليل على هذا النوع من الجرائم المالية التي يعاقب عليها القانون (إذا نفذ!).
تاسعاً؛ قدّم السياسيون التزامات للخارج بضرورة تنفيذ الاصلاحات وتطبيق برنامج مع صندوق النقد. فالرؤساء الثلاثة (ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي) أصدروا بيانات تأييد للاتفاق غداة توقيعه في نيسان/أبريل الماضي. فالرئيس عون يفتش عن نصر ما (ولو يتيم) في نهاية عهده. والرئيس بري يتمنى تبديد شك دول خارجية وأطراف داخلية تتهمه بعرقلة الإصلاح، والرئيس ميقاتي يتطلع بشغف إلى البقاء طويلاً رئيساً للوزراء على أساس أنه “أبو” الاتفاق مع الصندوق.. والحالة هذه، تخشى مصارف من التضحية بها وبمصالحها على مذبح المصالح السياسية.
عاشراً؛ لا بد من الإشارة إلى أن هناك تمايزاً بدأ يظهر إلى العلن، بين الفينة والأخرى، بين عدد من أركان جمعية المصارف. وظهر ذلك في عدة مناسبات مثل الهجوم التي شنته “مصادر” الجمعية على نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي الحريص على تطبيق الاتفاق مع الصندوق بحذافيره، وعند نشر الرسالة التي وجهها كارلوس عبادي (مستشار سليم صفير) إلى صندوق النقد الدولي ويطلب فيها تحمل الدولة للخسائر. فهل نتوقع انقساماً أكبر في الفترة المقبلة مع اقتراب ساعة الحقيقة المصرفية؟ أم أن الرهان سيبقى على فشل الاتفاق مع صندوق النقد، وبالتالي ستكسب المصارف جولة إضافية على حساب المودعين والاقتصاد والبلد عموماً؟
***
في الخلاصة؛ إن القواعد التقنية والفنية لحل الأزمة الإقتصادية والمصرفية والمالية في لبنان واضحة ومجربة عالمياً. أما على الطريقة اللبنانية فالأمر مختلف باعتقاد البعض (الواهم) بالمعجزة المصرفية والمالية. معجزة نعاها صندوق النقد والبنك الدوليين ورئيس جمهورية فرنسا إيمانويل ماكرون والأمين العام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وكثيرون غيرهم من المقررين في هذا العالم. معجزة لطالما تغنينا بها لنكتشف أنها سحر خادع وألاعيب خفة مالية لا تليق إلا بمرابين نصابين محتالين شذاذ آفاق!