يستقيل الحريري من النيابة أو يقطع عون يده.. ولا حكومة قبل الربيع

تبدو المسافة بين تكليف رئيس جديد للحكومة اللبنانية وبين تأليف الحكومة نفسَها طويلة جداً. رحلة قد نشهد خلالها إنتظارات وإنقلابات وتفاهمات، تجعل ولادة حكومة جديدة للبنان، أشبه بولادة صيغة جديدة لـ"التحايل الوطني".. لكنها مفخخة بعدم قدرتها على حماية نفسها إلا بإرادة من يمتلك الأكثرية النيابية، فكيف إذا قرر التيار الوطني الحر الإنتقال من ضفة حزب العهد إلى الحزب الأول المعارض للعهد، سياسةً وشارعاً؟

قُضي الأمر. سعد الحريري رئيساً مُكلفاً لرئاسة الحكومة اللبنانية. أقل من خمسين يوماً من المناورات كبّدت اللبنانيين، عدا الوقت، خسائر إقتصادية ومالية كبيرة، والنتيجة أن ما ستفضي إليه مشاورات الإثنين المقبل، كان يمكن تحصيلها، لكن بخسائر أقل، في اليوم التالي لإستقالة الحريري في 29 تشرين الأول/أكتوبر، لولا أن الطبقة السياسية تجيد ترف الإنتظار والإنكار، ولولا أنها تستمتع بالإنصات إلى الخارج وتحترف النكد السياسي، ولولا أن فئة وازنة من أهل الحل والربط ينطبق عليه القول انهم من فئة “حكم الصبية”!

من الآن وحتى موعد الإستشارات النيابية يوم الإثنين المقبل، ما هو المنتظر؟

أولاً، لن يكون سهلاً على الرئيس اللبناني ميشال عون أن يؤجل مرة جديدة الإستشارات النيابية الملزمة لإختيار رئيس جديد للحكومة. أصلاً، لم تكن واردة في حساباته أن يؤجلها يوم الإثنين الماضي، وهو إتخذ قراره بالإرجاء ــ الإخراج، متكئاَ إلى رأي أكثرية الكتل النيابية التي تمنت عليه التأجيل، وأولها رئيس تيار المستقبل سعد الحريري. إذاً، ما لم تطرأ قوة قاهرة، فإن الإستشارات في حكم الحاصلة. في هكذا خضم سياسي متوتر، لا يخفي عون حقيقة مشاعره إزاء الحريري: الرجل يُدين لي ولجبران (باسيل) ليس بالإفراج عنه من السعودية ونيله الحرية، قبل سنتين، بل يُدين لنا بحياته، فمن كان يضمن له أن لا تكون نهايته مثل جمال خاشقجي. الأنكى من ذلك، أنه عندما عاد إلى لبنان، بينما كان جبران (باسيل) يجوب بطائرته العالم لأجله، لم يقل لي ولا لجبران (باسيل) كلمة شكراً، بل تصرّف وكأنه عائد لتوه من زيارة عمل إلى السعودية وفرنسا!

في هكذا حالات، يترك عون لإنفعالاته أن تأخذ مداها. يضع المنطق جانباً. يناقش بما يسميها “الأخلاق السياسية”. فقد تلقى وعداً من الحريري بأنه لن يستقيل، لا بل إن الفرنسيين والأميركيين “جزموا لي أنه لن يستقيل، وعندما راجعني كثيرون بموضوع التعديل الحكومي، قلت لهم إطمئنوا، أياً كان الوضع، لن يستقيل الحريري”.

لا يتمنى عون عودة الحريري، ليس إلى هذه الحكومة، بل إلى أية تركيبة وزارية من الآن وحتى آخر أيام العهد. بالنسبة إليه “إنكسرت الجرة”. زاد الطين بلة، الإشتباك غير المفهومة أبعاده الحقيقية حتى الآن، بين الحريري وجبران باسيل. عون يجد مكانه الطبيعي إلى جانب صهره، قاتلاً أم مقتولاً. لذلك، صار “باسيلياً” أكثر من جبران، وصار باسيل “جنرالاً” في “حروبه” أكثر من “الجنرال”. هل تلحم مجدداً بين هذا الثلاثي؟ العلم عند الله وعند حافظ الأسرار وراعي التفاهمات علاء الخواجة!

صار الحريري منتجاً لبنانياً قابلاً للتسويق والإستخدام في الخارج، لا سيما في زمن الشح. أن ينجو ويترك “التايتانيك” اللبنانية تغرق ليس خياراً متاحاً أبداً أمامه

ثانياً، يتصرف رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري، حتى الآن، بوصفه الرابح الأول في النقاط، وعليه، ينفث دخان سيكاره و”يُدّخن عليها”، مستمتعاً بالطقس الشتوي، من دون قليل قلق. آلت رئاسة الوزارة إليه، بتعطشه وشوقه إليها، أولاً، وبنصبه فخاً طائفياً، لمن يجرؤ من المرشحين أن يتخيل نفسه جالساً في صدارة السراي الكبير، فتكون دار الفتوى له بالمرصاد، بوصفها الأكثر حماسة للحريري من الحريري نفسه، ثانياً، وأما رؤساء الحكومات السابقين، فصاروا، عملياً، بمثابة مفرزة سبَّاقة، تعبد الطريق سياسياً لمصلحة رئيس الحكومة المستقيل، ثالثاً.

في هذه الأثناء، لا بأس في أن يستفز الحريري الآخرين، لا بل يبتزهم “عالمكشوف”، عبر تمسكه بحكومة إختصاصيين لفترة محددة، وعلى الفريق الذي يمتلك الأكثرية النيابية “إمّا أن يقبل طرحي أو أن يرفضه وعندها ليتحمل ‏المسؤولية”!

ثالثاً، يوزّع “الثنائي الشيعي” (حزب الله وأمل) أدواره بإتقان. يريد فقط سعد الحريري لرئاسة الحكومة. هواجسه متعددة الوجوه. بعضها معلن وبعضها الآخر مستور. جرّبا سويةً مخاطر الإنزلاق إلى محظور الفتنة السنية ـ الشيعية، ولا يريدان تجرع الكأس مجدداً. هذا أول الدروس، خصوصاً وأن عناصر التفجير موجودة، من الفالق السعودي ـ الإيراني المفتوح على مصراعيه، مروراً بالجرح السوري النازف، وصولاً إلى الهزات الإرتدادية المذهبية المتأتية من عاصمة العراق الجريح.

صار الحريري منتجاً لبنانياً قابلاً للتسويق والإستخدام في الخارج، لا سيما في زمن الشح. أن ينجو ويترك “التايتانيك” اللبنانية تغرق ليس خياراً متاحاً أبداً أمامه. يتحمل مسؤولية كالآخرين، وربما أكثر، عن سياسات أدت إلى سقوط البلد في قعر خطر الإفلاس. له فقط أن يتحمل المسؤولية ويُشمّر عن ساعديه، لا أن يُلزّم رئاسة الوزارة إلى شخصيات قابلة للأخذ والرد كمحمد الصفدي وسمير الخطيب نموذجاً أو مرفوضة من الثنائي الشيعي كنواف سلام، وإسمه صارَ مثلاً لا حصراً.

ولا بأس أن يداري “الثنائي” الحليف الماروني الغاضب. جبرُ الخاطر هو في صلب إختصاص نبيه بري ولا بأس برسالة لجبران باسيل تخاطب ضميره بألا يتركنا يتامي في الوزارة، بينما تغزل عينا بري وترقصان فرحاً، في اللحظة التي يصله فيها الخبر اليقين بأن هناك وزير خارجية  سَلّمَ وإستسلم وقرّرَ أن يكون خارج الحكومة المقبلة.

إقرأ على موقع 180  غازي كنعان يطلب التمديد لإلياس هراوي "برفع الأيدي"!

لا بأس من الآن وحتى الإثنين أن يدوّر “الثنائي” الزوايا، لعله يخفف الأضرار ويوفر الأسباب الموجبة لصدور مرسوم التأليف ممهوراً بختم رئيس الجمهورية ومباركة أكثرية نيابية يزكيها بري ولا يكون حزب الله في صلبها.

إذا كان بمقدور جبران باسيل أن يرتدي ثياب المعارضة، هل يستطيع التنكر للنسب والمصاهرة وحتى للإقامة في القصر الرئاسي

رابعاً، يصح القول في الآخرين، أنهم أشبه ما يكونوا بالـ”كومبارس”. هؤلاء يمكن أن يتخيلوا أنفسهم أبطالاً، لكن حقيقة أدوارهم قد لا تتجاوز “هز الرأس” مثلاً، كما هي حال الكومبارس. هذا ما يسري اليوم على القوات اللبنانية والحزب التقدمي الإشتراكي وتيار المردة، ولا بأس أن يضاف إليهم صنف لبناني جديد، مثل حزب الكتلة الوطنية اللبنانية، وهو حزب قد يتحول بين ليلة وضحاها إلى فينيق الحراك، فيستيقظ رئيسه وزيراً ممثلاً للحراك، وعندها لات ساعة مندم، من يقنع العميد السابق للحزب كارلوس إده، بأن يجدد دعوته لأنصاره بألا يطلقوا الرصاص والقذائف الصاروخية لمناسبة إطلالاته التلفزيونية؟

ماذا بعد الإثنين المقبل؟

أولاً، حتى يبقى الحريري منسجماً مع نفسه، لن يتخلى عن معادلة “حكومة الإختصاصيين”، وهي كلمة المرور إلى حكومة من دون جبران باسيل. بعدها، قد نجد الحريري متساهلاً مع إدخال أسماء سياسية إلى حكومته الرابعة خلال عشر سنوات، بعد أن يضمن إبعاد رئيس التيار الوطني الحر.

ثانياً، لجبران باسيل أن يسهّل مهمة الحريري أو أن يعقّدها. إذا قرر الإنتقال، بالموقف أقله، إلى مقلب المعارضة هو وحزبه وكتلته النيابية، فهل نكون أمام مناورة سياسية جديدة تطيل عمر التكليف والتأليف؟ أم أن الرجل جدي في خياراته؟ وكيف سيُدَرَّس هذا الفصل من عمر التجربة العونية لطلاب لبنان في كتب التاريخ مستقبلاً؟ هل سيقال لهم إن الحزب الذي كان يفترض أن يكون رافعة العهد في النصف الأول من الولاية الرئاسية، جعله يترنح أرضاً، وعندما قرر أن يصبح رأس حربة المعارضة، قضى على البقية الباقية وقرر أن يكون وكيل تفليسة العهد؟ وأي هامش هذا الذي يجعل حزب رئيس الجمهورية ينتقل من موقع المسؤولية إلى موقع المساءلة؟ وإذا كان بمقدور جبران باسيل أن يرتدي ثياب المعارضة، هل يستطيع التنكر للنسب والمصاهرة وحتى للإقامة في القصر الرئاسي؟ وهل سينأى عن المشاركة في المآدب والطبخات والمناقصات؟ وهل سيترك للحريري ونبيه بري ووليد جنبلاط أن يسموا الوزراء المسيحيين في الحكومة؟ وعندها بماذا سيختلف عهد عون عن عهود الياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان؟ وهل سيكون غريباً لو تجدد “الحلف الرباعي” الذي قام في العام 2005 بمواجهة عون، لكن هذه المرة ليس ضده بل ضد ما سيتبقى من أثر له في الشارع المسيحي؟ طبعاً، ثمة أسئلة كثيرة تصب في الخانة نفسها.

ثالثاً، يمكن الجزم بأن ميشال عون لن يوقع مرسوم حكومة يقدمها إليه سعد الحريري تتضمن وزراء سياسيين كانوا في حكومته المستقيلة. قال ميشال عون إنه يقطع يده ولا يوقع مرسوماً كهذا. مرسوم يشي بأن الفاسد الوحيد في الجمهورية هو جبران باسيل والبقية هم أبرياء من دم الصديق. لذلك، لا مفر من إلتقاط المبادرة التي أطلقها عون في مقابلته التلفزيونية مع الزميلين سامي كليب ونقولا ناصيف بتمسكه بفصل النيابة عن الوزارة. إذا ثبّت ميشال عون هذه المعادلة، يمكن أن يصبح خروج جبران باسيل مبرراً، مثله مثل غيره من النواب الوزراء.

رابعاً، لعل تتمة هذا السيناريو تكمن في إلتزام سعد الحريري الواضح أمام رئيس الجمهورية وباقي المكونات السياسية، بالإستقالة من المقعد النيابي، فور تأليف الحكومة، وبذلك إما أن يكرّس عرفاً جديداً، بأن يتم إختيار رئيس الحكومة من خارج النادي النيابي، وهو أمر موضع نقاش، أو أن تكون المسألة موضعية فقط، أي مرتبطة بولادة هذه الحكومة وأية حكومة يمكن أن يترأسها الحريري في ما تبقى من ولاية ميشال عون.

ما عدا هذه وتلك، قد يكلف الحريري، لكن لن تكون هناك حكومة للبنان من الآن وحتى الربيع المقبل.. ماذا عن تصريف الأعمال والحراك الشعبي؟ ماذا عن الإنهيار الإقتصادي والمالي الحتمي؟ أسئلة ستصبح هي القضية، وما عداها مجرد تفاصيل.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ممدوح سلامة لـ180: أسعار النفط ستتصاعد.. والاتفاق النووي لن يُوقع!